أحمد رجب شلتوت يكتب: انقسام الهوية في "وطن الجيب الخلفي"

profile
  • clock 12 أبريل 2021, 12:05:27 ص
  • eye 716
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

  وصفت "ناتالي ساروت" الرواية الجديدة بأنها "بحث"، بمعنى أنها ممارسة يقوم بها الروائي بهدف تحقيق الاكتشاف، فيلجأ إلى المصادر ويسعي في الأماكن ولدى الأشخاص، ولا يكتفي بمخزونات الذاكرة مهما تعاظمت أهميتها، هذا البحث بمفهوم ساروت يقود الروائي إلى اكتشاف واقع جديد، كان مجهولا  أو محجوبا قبل أن تكشف عنه أو تكتشفه الرواية، الواقع بهذا المعنى ليس جديدا تماما من صنع الرواية، بل كان مخفيا وأعادت اكتشافه الرواية، وهذا يجعل مهمة الروائي أكثر تعقيدا من اختلاق القصص، فيشتبك دوره مع دور المؤرخ الذي قد يستجيب لغواية إعادة تأويل التاريخ مجددا،  لكنه يهتم أكثر برصد آليات تحريك التاريخ ودوافعها، فقد تكون هي نفسها آليات تحريك الحاضر، لكن الروائي يقوم بتأويل الحاضر، مشتبكا مع مشكلاته مما يفسر شيوع موضوع "الهوية" واغترابها أو استلابها في الكثير من الروايات الجديدة، ومنها "وطن الجيب الخلفي" للكاتبة منى الشيمي.

روايتان وهويتان

    تنقسم الرواية داخليا إلى روايتين، واحدة يحكيها ناصر، مرمم الآثار المصري،  العائد إلى وطنه بجنسية أخرى وهوية مغايرة، والثانية يحكيها السيناريو الذي يساعد ناصر في كتابته مع  "توم ويلبور"، وقد اختارت الكاتبة جزيرة "الفنتين" بأسوان مسرحا للروايتين. يجمع السرد بين الروايتين في فصول الرواية كلها، كاشفا منذ الصفحة الأولى عن أزمة ناصر الذي يروي بضمير الأنا، بادئا بجملة "الغروب خلاب فعلا"، فكلمته الأولى "الغروب" تحمل دلالات سلبية عديدة منها الاختفاء، ووصف الغروب بالخلاب  يضفي عليه فتنة وألقا قد يخفيان الدلالات السلبية، لكن "خلاب" توحي أيضا بالاستلاب.هذا التناقض بين ظاهر الدلالات والمخفي منها يتأكد باكتمال المشهد الافتتاحي الذي يرسمه ناصر، فشمس الغروب تصبغ النهر كله باللون البرتقالي المبهج لكن البصر يمتد فيرى الجزيرة "كحوتٍ عملاق لا يبدو منه سوى ظهره المقوس"، هكذا يستشعر لا وعيه الخطر فيفسد استمتاعه بجمال المنظر، وينتهي المشهد بهاينز، يقول أن الفندق كان مكانًا للنبلاء دومًا، فيتساءل ناصر: "هل ضمَّني إلى سلالة النبلاء عندما وجَّهَ كلماتِه بصيغة الجمع؟".  فعلى الرغم من حصوله على الجنسية الألمانية إلا أنه لم يزل مستجديا لاعترافهم به كواحد منهم، ويتبدى انسحاقه في قوله "مَن يصدّق، أنا نزيل هذا الفندق الفخم، لو علمتْ أمّي أن حال ابنِها سيتبدل هكذا لأجَّلَت الموت".

ويتراوح السرد على لسان ناصر بين ضميري المخاطب و المتكلم دلالة على انقسامه، في أول حديث إلى الذات يبرر القطيعة مع أخته وأخيه، ويبرر اغترابه بموت الأم وطمع الأخوة فيه، وغالبا ما يبدأ السرد بالضمير "أنت" إما بسؤال يوجهه ناصر لنفسه، أو بفعل أمر، وفي مرات قليلة نجد الأنت يكمل للأنا ما يرويه، ربما ليمنعه من الحذف أو إخفاء أمر ما. وتختلف نبرة السرد باختلاف الضمائر، فمع "الأنا" تطغى على السرد نزعة غنائية  خصوصا مع تذكر الماضي، ويصبح السرد نوعا من الاعتراف، فيسود الفعل الماضي، ومع "الأنت" تحل المساءلة ليزداد شعور الذات بالحصار، وبأنها مستهدفة حتى من نفسها، التي تغدو وكأنها ذات أخرى متربصة. هذا الشعور المتزايد بأن الذات مستهدفة دفعها للابتعاد عن الآخر وتجنبه، وبتشييئه إن اضطرت للتعامل معه، فنجد ناصر يتأمل الأشياء ويصفها دائما،  يقول مثلا عن شقة كلاوديا حينما دخلها لأول مرة "كانت الشقة مرتّبة، الكتب مرصوصة فوق بعضها كالأعمدة الصغيرة على الطاولة"، بينما يقول عن كلاوديا "جاءت ترتدي بنطلونًا وتي شيرت، وتلبس جوربًا في قدميها"، فكأنه لم يرمنها إلا ما كانت ترتديه.                                                                                                                      

حظيرة الدجاج

"ناصر، أنت تريد بيضة وأنا أدلك على حظيرة الدجاج".. هكذا بدأ رالف حديثه ليقنع ناصر بضرورة السفر إلى ألمانيا، مع أنه ليس محتاجا لمن يقنعه،  ناصر الذي منحه الأب اسم الزعيم ثم ماتا كليهما لتتبدل أحوال الأسرة والوطن، أكمل تعليمه بما يشبه المعجزة، ويتخرج من كلية الآثار وينهي خدمته العسكرية ولا يجد عملا،  فتسعى أمه لالحاقه بعمل بالسعودية عن طريق أحد أقاربها وتطالبه بأن يغير مهنته من مرمم إلى نقاش، يتذكر ناصر "اكتشفت أنني كي أغيّر المهنة إلى نقّاش، عليّ أن أدفع رشوة، إذا دفعت لموظف السجل المدني لن أجد المال الذي سأشتري به عقد العمل، وإذا أخفقت في الحصول على التأشيرة سأظل في مصرَ بوظيفة نقّاش في خانة البطاقة انسحقتُ تمامًا"، هكذا سقط فريسة لليأس حتى استيقظ فزعًا على اهتزاز السرير وصراخ نسوة الشارع. في لحظة تغيَّر وجه القاهرة التي ضربها الزلزال وأسقطها تحت الركام. يومها جاءه صديق مقترحا عملُ تقرير عن الآثار التي تأثرت بالزلزال.                                                                     بعد التقرير تبدأ علاقته برالف.  ويتعرف على كلاوديا التي يتزوج منها في ألمانيا وتنجب له ولديه، وتستمر علاقته بالمنظمة التي جمعتهما، يعترف "لقد انصعتَ لتصبح مزيفًا بدرجة خبير".                                                              بدا أنه سقط في مستنقع لن يخرج منه حتى قامت ثورة يناير،  يقول "منذ اشتعل فتيل الثورة وأنت شخص آخر، لا تنكِر، آخر يحاكم الشخصية التي كوَّنْتها قطعة قطعة على مدار عشر سنوات، باتت كل المَشاهد التي تأتيك مِن هناك تذكِّرك بجريمتك، صرتَ كائنًا آخر، تحاول أن تغسل ماضيك بتأييدها حتى النخاع، كما تغسل المنظَّمَة التي تعمل بها جرائمها بعقد بضعة مؤتمرات تدين فيها نهْب الآثار". والمنظمة لا تهتم بتحولاته، تثق أنه سينصاع في النهاية، حتى لا يفقد حظيرة الدجاج، فيتم تكليفه بمهمة في مصر، ويحضر دون أن يتبين حقيقة مهمته.الرواية الثانية يحكيها سيناريو فيلم عن الجالية اليهودية، التي استوطنت جزيرة “إلفنتين” في القرن الخامس قبل الميلاد، يعرف  ناصر أن اليهود خانوا المصريين وأفشلوا الثورة بتعاونهم مع الفرس الغزاة، ويدرك أن السيناريو يزور الحقيقة ويعمد إلى تهويد التاريخ، يقول لتوم" لا ترسخ لقصة السبي بهذه الطريقة، المؤرخون يعرفون الحقيقة"، ببرود يرد توم "لكنّ المُشاهدين لن يعرفوا"، حقا المشاهد لن يعرف إلا ما يقوله السيناريو.

جيوب للأوطان

ناصر لم يكن معنيا بالهوية، حتى قامت ثورة يناير محدثة في ذاته زلزالا  زاد من تصدعه، ومن شروخ الذات تسربت أضواء كاشفة أوضحت له حقيقة ما آل أليه، فتفاقمت أزمته، وكان جيدا ألا تسمه الرواية بالخيانة ولم تدينه، بقدر ما تدين المسئولين عن تلك الأوضاع التي جعلت منه حالة عامة، فزوج أخته مديحة، يسلك نفس الطريق تقريبا، ولعله يشاركه القول "كنتَ تخطط لتظل مصريًا، تحتفظ بوطنك في الجيب الخلفي وتَجمع مزايا هذا المجتمع في الجيوب الأمامية، إذا حدث ما يهدد أمنَك تعود بقفزة واحدة"، فالاحتفاظ بالوطن ولو في الجيب الخلفي كان لدواع مرتبطة بأمنه الشخصي وليس لبقايا وطنية في روحه، و الوطن الثاني يظل "هذا المجتمع" الذي يمنحه مزاياه، فاستلاب ذاته وهويته أفقده الانتماء إلا لنفسه فاختلف تعريفه للوطن، "الوطن ليس تلك التعريفات المعقّدة، لا التاريخ المشترَك ولا اللغة، إنه ليس الجغرافيا التي تنزاح من حين إلى آخر. المفهوم يجب أن يتطور باتساع الرؤية، اكتفِ بحقيقة أن الوطن هو المكان الآني الذي توجد فيه، الذي يمنحك المالَ، ويوفر لك أمنًا صحيًا". تكشف الرواية ذلك وتظل تتعامل معه باعتباره ضحية، فالفقر والقهر استلبا ذاته وأعمياه، فلم يشك للحظة أن للمنظمة دور في زواجه من كلاوديا، وأنها لم تطلب الطلاق في ذلك التوقيت إلا لتضغط عليه وتضعفه نفسيا فيضطر بالقبول بالمهمة الخطرة، لم يسألها كيف اكتشفت فجأة أنه مختلف عنها، ولم يفطن لما تضمنه حديثه مع الدكتور هاينز حينما اعترض على وضع اسمه على السيناريو، اعترض "لكن ثمة تزييف"، فسأله هاينز "ناصر، هل تفتقد ولديْك؟"،  لم يدرك العلاقة بين هذا وذاك، و فاته كذلك توقيت وصول الرسالة المنتظرة من كلاوديا، ولا لكلماتها المتناسية لكل ما كان قبل سفره، فقط تدعوه، فهل دعته لتقنعه بالموافقة، وهل يستجيب أم أن ما زال لديه بقية من ضمير تجعله يصر على الرفض، لا تجزم الرواية بما سيفعل، ولا بمصير علاقته بحياة، ولنتأمل دلالة اسمها وتوقيت ظهورها في حياته، تبدو كطوق نجاة يمنحه حياة ثانية، حتى ولو كانت مثله مهزومة، لكنها  تعلمت من هزائمها أن أهم معاركنا على الإطلاق أن نكون أنفسنا. كذلك تمتاز حياة عنه بالخيال الذي اكتسبته من قراءة الروايات، واكتسبت معه حسا إنسانيا عاليا، جعلها تكف عن ذكر سيئات الزوج الميت بعدما زارها في المنام،   بينما هو يقاوم نفاذها إلى روحه، لم يكن رافضا لها بقدر ما كان مستسلما لنمط حياة لا يمتلك الجرأة على تغييره، وحينما قضى معها سبع ساعات كان كل ما يشغله هو أن يعطيها مائة يورو وكأنه يحول المشاعر والأفكار إلى سلعة، لكنه لم يفعل، فلعل شيئا فيه اختلف يوحي بأن ثمة أمل.

التعليقات (0)