أزمة تجنيد: كيف تصاعدت مشكلة استقطاب عناصر جديدة في الجيش الأمريكي؟

profile
  • clock 14 أغسطس 2023, 6:37:12 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

فشل الجيش الأمريكي في تحقيق معدلات التجنيد المستهدفة التي تُقدَّر بنحو 65 ألف جندي في العام الجاري؛ وذلك في ظل التقلُّص المستمر في أعداد الشباب المؤهلين للخدمة العسكرية. وعليه يعاني الجيش الأمريكي من نقص حاد يُوصَف بأنه الأسوأ منذ خمسة عقود، حتى إنه خَفَّض أعداد المجندين في العام الماضي إلى 15 ألف مجند بعد أن فشل في بلوغ هدفه المُقدَّر بنحو 60 ألف جندي. وما يدلل على عِظم الأزمة الراهنة، توقع قادة الجيش والبحرية والقوات الجوية جميعاً – في جلسة استماع حديثة إلى لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأمريكي – إخفاق أفرع الجيش المختلفة في بلوغ المستهدف من التجنيد السنوي في العام الجاري، في أحدث مؤشر على أن أزمة التجنيد العسكري هي الأسوأ منذ عقد السبعينيات، وتحديداً منذ تأسيس قوة المتطوعين بالكامل في عام 1973.

مظاهر الأزمة

يمكن الدفع بأن أزمة التجنيد الراهنة لا تعدو كونها أزمة أمن قومي حادة تتعدَّد مؤشراتها على النحو التالي:

1– صعوبة تحقيق معدلات التجنيد المستهدفة: يصعب على الحرس الوطني ضم مجندين جدد إلى صفوفه، كما يصعب عليه – في الوقت نفسه – الاحتفاظ بعدد من الجنود بدوام جزئي، في ظل صعوبة توفيق بعض الوحدات بين المهام المحلية والخارجية. كما يصعب على معظم الفروع العسكرية الأخرى بلوغ هدف التجنيد المحدد لها باستثناء القوة الفضائية التي اعتمدت إلى حد كبير على القوات الجوية لبناء صفوفها.

وتشير التقديرات إلى أن 23% فقط من الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاماً يمكنهم تلبية متطلبات الخدمة العسكرية، ناهيك عن فشل العديد من المتقدمين في امتحانات القبول. وحتى عندما عقد الجيش الأمريكي “الدورة التحضيرية لجنود المستقبل” في أغسطس 2022 لتدريب نحو 12 ألف متقدم، أخفق ما لا يقل عن 5 آلاف من المتقدمين في تلبية المعايير المطلوبة.

2– تدهور الحالة الصحية للمتقدمين: أبلغ مسؤولو التجنيد عن تعدد المشكلات الصحية التي يعاني منها المتقدمون كما تكشف عنها تواريخهم الطبية وحالاتهم العقلية، حتى تعددت إصاباتهم الحادة والطفيفة من ناحية، وتعاطيهم وصفات طبية شائعة مخلفة أضراراً صحية من ناحية ثانية.

ففي العام الماضي، أطلقت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) نظام التكوين الصحي العسكري، وهو سجل صحي إلكتروني جديد منح الجيش الأمريكي وصولاً غير مسبوق إلى الخلفية الصحية والعقلية للراغبين في الالتحاق بالخدمة العسكرية، لا سيما أقارب المجندين العسكريين الذين سبق أن تلقوا رعاية طبية عسكرية. وقد تم التغاضي عن المشكلات الصحية البسيطة – إلى حد كبير – أثناء عملية التجنيد، وهو ما يعني نسبياً تخفيض المعايير المطلوبة له، كما قبلت البحرية المتقدمين الذين حصلوا على درجات منخفضة في اختبارات القبول، كما تخلت القوات الجوية والقوات الفضائية عن المعايير المتشددة تجاه بعض الإصابات الصحية الطفيفة لدى المتقدمين.

3– تفاقم مشكلة السمنة المفرطة: وفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، فإن 22% من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و19 عاماً يعانون من السمنة المفرطة. وهذه النسبة ترتفع فقط مع تقدُّم العمر، كما ارتفعت عقب جائحة كوفيد–19 أيضاً. ومع تفاقم أزمة السمنة في العقد الماضي، لم يطلب الجيش من الجنود التمتع باللياقة البدنية، بل بمزيد من المهارات التقنية؛ لذا من المتوقع أن يكون ضباط الصف حاصلين على شهادة جامعية بجانب امتلاكهم مهارات الكتابة العلمية.

4– تراجع فعالية التسهيلات الجاذبة: على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها مختلف الأفرع العسكرية (مثل تقديم مكافآت تجنيد ضخمة تصل إلى 50 ألف دولار، وإتاحة الفرصة لاختيار مواقع العمل، وغير ذلك)، لم تتحسن معدلات التجنيد. وعلى الرغم أيضاً من وجود ما يقرب من 30 مليون أمريكي تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، فإنه يصعب إقناع الشباب بالتقدُّم للخدمة، وبخاصة في ظل جاذبية فرص أخرى؛ ما يعني استمرار معدلات التجنيد في الانخفاض دون أن يدرك غالبية المواطنين مدى التقلص في أعداد الجنود الفعليين بصورة مضطردة، لا سيما مع الصورة الذهنية الإيجابية المترسخة في أذهانهم عن القوات المسلحة.

5– الإخلال بالمهام المطلوبة: قد تنخفض القوة الأساسية في البلاد بنسبة تصل إلى 7% خلال عامين فحسب، في وقت تتزايد فيه مهامها في أوروبا وفي المحيط الهادئ. وقد لا تتمكن أفرع القوات المسلحة الأمريكية من تعويض ذلك النقص بسهولة. ولا شك أن القوات البحرية والجوية تواجهان رياحاً معاكسة بعد أن قدمتا مكافآت مالية كبيرة، واتخذتا مجموعة واسعة من الإجراءات، مثل رفع سن التجنيد من 39 إلى 41 عاماً على سبيل المثال، ومع ذلك ستفشلان على الأرجح في تحقيق أهداف التجنيد المستهدفة.

عوامل مفسرة

ترجع أزمة التجنيد الراهنة إلى جملة من العوامل يمكن الوقوف على أبرزها من خلال النقاط التالية:

1– تنفير الجنود الحاليين للمجندين المحتملين: تشير التقارير الحديثة إلى انخفاض احتمالات تسجيل مجندين جدد في الخدمة العسكرية؛ لأن 80% منهم لديهم أقارب بالفعل في الخدمة؛ لذا لا يمكن التقليل من حجم الأزمة؛ فقد سبق تجديد الجيش الأمريكي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق “رونالد ريجان” في أوائل الثمانينيات ليصبح القوة البارزة التي خاضت معارك ضارية في مناطق مختلفة، ومع ذلك فإن أسس الجيش المكون من المتطوعين بالكامل، باتت أكثر اهتزازاً مما كانت عليه منذ عقود، لا سيما مع إدراك البعض بالصعوبات التي يواجهها المجندون.

2– تراجع امتيازات الجيش بالمقارنة بأعمال أخرى: لم تعد الامتيازات التي يقدمها الجيش الأمريكي بالمقارنة بالأجور التي تقدمها الوظائف المدنية وخطط الرعاية الصحية كافية لجذب متطوعين جدد، لا سيما مع الطبيعة القاسية للجيش الذي يتطلَّب الالتحاقُ به حلقَ الرأس، وتقديم تقارير دورية إلى معسكرات التدريب، وتلبية معايير مادية صارمة، والاستيقاظ قبل الفجر كل يوم، وفراق العائلة، والعمل في ظروف محفوفة بالمخاطر. وفي المقابل، فإن عدداً كبيراً من الشركات أُجبرت على تقديم مزيد من الحوافز المادية والمعنوية لجذب أفضل المواهب.

3– انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان: لعبت الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة دوراً في جذب الشباب إلى اختبارات واقعية يمارسون فيها أعمالاً قتالية حقيقية خارج حدود الوطن، بيد أن الانسحاب الكارثي من أفغانستان في عام 2021 قوَّض تلك العوامل الجاذبة؛ فعلى الرغم من تخوف الخبراء من بعض التأثيرات السلبية للانتشار العسكري المستمر في الخارج الذي قد يسفر عن تقويض القوة الأمريكية ومن ثم قد يسفر عن تراجع أعداد المتطوعين الأمريكيين للخدمة في الجيش في زمن الحرب، فإن ذلك لم يحدث آنذاك، وبدأ يحدث عقب انسحاب الولايات المتحدة بالكامل من أفغانستان دون أي مظاهر للارتداد، لا سيما أن وسائل الإعلام اليمينية تشجب أنشطة القوات المسلحة، كما يصف العديد من النقاد اليساريين المهام في العراق وأفغانستان بأنها مغامرات إمبريالية على نحو يثير إحباط الشباب.

وقد رفض معظم الأمريكيين الطريقة التي نفذت بها إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الانسحاب من أفغانستان. ولأول مرة منذ ما يقرب من 20 عاماً، لم تعد القوات الأمريكية تقاتل في الخارج. ونتيجةً لذلك، يتقلَّص الجيش الأمريكي؛ لا لخيارات استراتيجية، بل لعدم وجود عدد كافٍ من المتطوعين المؤهلين؛ ما يؤثر على الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة في عالم يتزايد فيه عدم اليقين.

4– مواجهة الملتحقين بالخدمة عوائق عدة: لا يتمكن 25% من الشباب من تلبية معايير الالتحاق بالخدمة، التي تشمل شهادة الثانوية العامة أو ما يعادلها، وحداً مرتفعاً من الدرجات المحرزة في الاختبارات، واللياقة البدنية، وعدم تعاطي المخدرات أو التعرض للاعتقال، والصحة العقلية، وغير ذلك.

ولا شك أن تعدد تلك الشروط يُقوِّض إيمان الشباب بالولايات المتحدة، ويُعمِّق الانقسام السياسي في جميع أنحاء البلاد، ويُقوِّض فرص المتطوعين كلياً، فقد دفعت بعض التحليلات بتراجع ثقة الشباب بالمؤسسة العسكرية التي تأتي على قمة المؤسسات الأمريكية؛ فقد خلصت الدراسة التي أجرتها مؤسسة “ريجان للدفاع الوطني” إلى الانخفاض الحاد في ثقة المواطنين بالجيش الأمريكي من 70% في 2018 إلى 45% فقط في عام 2021 (وإن وصلت تلك النسبة إلى 48% في عام 2022).

5– تزايد تحديات الجيل زد: لقد انخفض عدد الشباب المؤهلين للخدمة في الجيش الأمريكي بشكل حاد في العام الماضي من 29% إلى 23% بسبب آثار جائحة كوفيد–19، كما ارتفعت مستويات الاكتئاب والقلق وحالات الصحة العقلية بين الشباب الأمريكي ممن واجهوا مستويات غير مسبوقة من العزلة الاجتماعية، كما تسبب إغلاق المدارس والتعليم عن بُعد في انخفاض مستويات الطلاب بشكل كبير في جميع أنحاء البلاد، وبالتبعية انخفضت درجات المتقدمين في الاختبارات القياسية للمجندين المحتملين بنسبة تصل إلى 9%.

كما ساهمت المدارس المغلقة في تراجع بعض المهارات الشخصية والاجتماعية لكثير من الشباب، كما زادت معدلات السمنة لدى الشباب التي تعد تاريخياً من أهم أسباب رفض المتقدمين للخدمة العسكرية. وتكمن الإشكالية الكبرى في أن كثيراً من الأمراض الاجتماعية والصحية لا يتعافى منها كثيرون بسهولة؛ لأنها تستغرق وقتاً زمنياً ممتداً من ناحية، وتتصل بتغيرات جذرية في السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية من ناحية ثانية، كما تتفاقم خطورة تعاطي المزيد من الشباب للمخدرات؛ فإن كانت الماريجوانا قانونية في 21 ولاية بالإضافة إلى مقاطعة كولومبيا، فإن استخدامها لا يتماشى مع متطلبات الانضمام إلى الجيش.

6– تعدد الانتقادات للمؤسسة العسكرية: لا يَخفَى تعدُّد التحديات التي تعاني منها القوات المسلحة الأمريكية ومنها تنامي الاعتقاد بتزايد انخراط القادة العسكريين الأمريكيين في الحياة السياسية، لا سيما مع تعدد الشبهات التي تحوم حول رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال “مارك ميلي”، وتزايد معدلات الاعتداء الجنسي في الجيش، خاصة بعد الاختفاء المأساوي ووفاة الاختصاصية “فانيسا جويلن” في عام 2020، وما تلاه من تأديب لأربعة عشر مسؤولاً بالجيش في “فورت هود”.

والجدير بالذكر في هذا الإطار أنه في أحد استطلاعات الرأي التي أُجريت في خريف عام 2021، قال 30% من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً إن احتمال التحرش الجنسي أو الاعتداء الجنسي كان أحد الأسباب الرئيسية لعدم التفكير في الانضمام إلى الجيش الأمريكي، على الرغم من قيام الكونجرس بإقرار إصلاحات شاملة لنظام القضاء العسكري العام الماضي لمجابهة تلك المخاوف.

كما انتقد عدد من الديمقراطيين – وخاصة السيناتور “كيرستن جيليبراند” – عدم قدرة الجيش على إحراز تقدم على صعيد معالجة مسألة التحرش الجنسي؛ لذا قد تتصاعد تلك الظاهرة مستقبلاً مع تراجع فاعلية الإصلاحات القضائية. كما أن بعض الأعضاء الجمهوريين في الكونجرس يتهمون الجيش باستخدام “بيانات منتقاة بعناية” تحجب المشكلات التي تحدث داخل المؤسسة العسكرية.

ختاماً، إن عجز الجيش الأمريكي عن تلبية احتياجاته من المجندين يعد أزمة أمن قومي؛ لأن ذلك يعني بالضرورة عدم قدرته على القيام بالمهام اللازمة في الحروب المستقبلية؛ ولذا تتزايد أهمية مجابهة تلك الظاهرة وعكس اتجاهها بطرق عدة، تشمل تخصيص مزيد من الموارد، وإعطاء المجندين البارزين الحق في اختيار مهامهم التالية، والاهتمام بنظافة الثكنات، وتوفير العلاج الطبي، وتوسيع قاعدة التجنيد بطرق مبتكرة، وتثقيف الشباب الأمريكي حول ضرورة وجود جيش قوي، وترسيخ الاعتقاد بأن الجيش لا يمثل عقبة أمام التعليم العالي وفرص العمل.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)