أمجد إسماعيل الآغا يكتب: «تركيا - أردوغان».. مركز الثقل في التوازنات الإقليمية والدولية.. ولكن!.

profile
أمجد إسماعيل الأغا كاتب وباحث سوري
  • clock 1 سبتمبر 2023, 11:35:27 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

انطلاقًا من موقع تركيا الجغرافي، وامتداداته العرقية واللغوية والثقافية في المحيط الجغرافي والبشري، وما ينتج عن كل ذلك من تفاعلات، وشبكة سياسات قائمة على التأثر والتأثير من العوامل الأساسية التي حددت الأهمية الجيوستراتيجية لـ تركيا في منظور المصالح الغربية، وما نتج عن ذلك من تحالف استراتيجي تركي مع المنظومة الغربية "الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي"، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، وإن لم تخلُ هذه العقود الطويلة من حالات توتر كانت تطرأ على العلاقة بين الطرفين، أو ما قد يبدو من تضاؤل أهمية تركيا بنظر حليفيها؛ لكن التطورات السياسية المتوالية كانت سرعان ما تثبت مفتاحية الموقع التركي للسياسة الغربية، وتقنع الطرفين بضرورة الحفاظ على أعلى درجات التعاون بينهما.

في جانب موازٍ، فإن الأحداث والتطورات التي شهدها العالم خلال السنوات السابقة، توحي "أو تكاد" بحدوث تحول إيديولوجي وبنيوي في طبيعة النظام الدولي، خاصة أنَّ ماهية النظام الدولي تدعو للجدل في غالبية العناوين السياسية وكذا العسكرية، مرورًا بالاقتصادية، التي عصفت بغالبية دول العالم. ولأن الأزمات ببعدها الإقليمي  والدولي هي التي تؤسس لنظام دولي جديد، نتيجة لذلك يبدو واضحًا أنَّ منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا سورية، وما تخضع له من تدخلات أطراف دولية وإقليمية على وجه الخصوص، تُشكّل مؤشرًا على هذا الجدل تُجاه هذا التحول.

تركيا اليوم إحدى أهم الدول الفاعلة والمؤثرة في جُل الملفات الإقليمية والدولية، ومن الواضح أنَّ تركيا تترجم سياساتها في إطار السعي للوصول إلى مكانة دولية تليق بالبعد الجغرافي وأهميته لـ تركيا؛ عطفًا على ذلك، فإن التحولات العميقة التي شهدتها السياسية الخارجية التركية، لم تكن نتيجة الأوضاع في سوريا وتداعيات الحرب عليها، وتأثيراتها الإقليمية والدولية، ولم تكن أيضًا جراء ما سُمي ثورات الربيع العربي، والأهم أنها لم تكن إطلاقًا نتيجة تمنيات أردوغان وحكوماته المتعاقبة، بدليل أنّ الدور التركي شهد قفزات استراتيجية سعيًا للارتقاء إلى مصاف الدول الكبرى، بدلاً من دور الدولة الوظيفية في منظومة الفكر الغربي إبان الحرب الباردة، وذلك منذ عهد " تورغوت أوزال" في ثمانينات القرن الماضي.

مُحددات السياسية الخارجية لـ تركيا تنطلق من ضرورة لعب دور إقليمي مؤثر، يجعل منها دولة إقليمية حقّة تكون مركزًا مُشاركًا في حلحلة غالبية الملفات الشائكة في المنطقة، وتستحضر لتحقيق هذه الرؤية قواعد دولية يُغذيها الخوف الذي يُثيره صعود جيرانها الإقليمين، لا سيما إيران ومصر والسعودية وإسرائيل، بالإضافة إلى الرغبات التركية بحجز مقعد دولي ضمن صفوف الكبار، لا سيما روسيا والولايات المتحدة، خاصة أن الولايات المتحدة دخلت في منافسة جيوبوليتيكية جديدة مع روسيا، جعلت منهم مساهمين فاعلين في صنع هذه التوازنات في المنطقة مرة أخرى.

هذه التوازنات احتلت المكان الحاسم في رسم وهندسة المسار الإقليمي، وتحديدًا مع وصول الحرب على سورية، إلى درجة من التعقيدات والتشابكات بمستوياتها كافة، حيث شكّلت هذه الحرب تحولًا مهمًا في ترسيخ حالة اللا استقرار، وصنع اصطفافات إطارها المصالح وتعزيز النفوذ، الأمر الذي قوّض الطموح التركي الذّي رسمه مهندس السياسية الخارجية "داود أوغلو" مع بداية الأزمة السورية. كما أن الأطراف المنافسة لـ تركيا لا سيما إيران والسعودية، نجحوا "إلى حد ما" في تحجيم التأثير التركي في الجغرافية السورية، فلم تكن مهمة تصفير المشكلات مع الجيران بالمهمة السلسة، ابتداءً بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بعد أزمة سفينة مرمرة عام 2010، والمعضلة مع الدولة السورية منذ عام 2012، والقطيعة مع مصر عام 2013، وتعطل مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كل ذلك يأتي مع استمرار الدعم الأمريكي للكرد في سوريا.

أدركت تركيا أن استمرار التحديات والأزمات الإقليمية، سيجلب لها المزيد من المشاكل والأعداء، وأدركت أنها لن تنجح بتحقيق طموحاتها في غمرة منافسين إقليمين كُثر، نتيجة لذلك بدأت بسلسلة مصالحات مع اسرائيل، وتسعى بشكل دائم إلى تعميق تحالفها مع روسيا وإيران، وتُمهد الطريق للوصول إلى مصر، مع عودة العلاقات التركية الخليجية ببعدها الإقتصادي؛ كل ذلك تبرره تركيا لجهة الحاجة إلى استقرار إقليمي وعلاقات ودية مع الجميع بما فيهم سورية.

فـ الإدراك التركي حددته معطيات بُنيت على أنَّ الولايات المتحدة وكذا حلف الناتو، غير قادرين على حماية الأمن القومي التركي، كما ادركوا جيدًا أنَّ استمرار توتر العلاقات مع الروس وحلفاءهم الإيرانيين من شأنه أنّ يُبقي تركيا في حالة عزلة تضعف من قوتها على المدى المتوسط والبعيد، في الوقت الذّي يدير فيه الأوروبيون ظهورهم للأتراك بغلقهم عضوية النادي الأوروبي أمامهم.

وقد يكون هذا التوجه بداية للوصول إلى دمشق على معادلة المصالح المشتركة وطيّ صفحة الخلافات.

تتجلى قدرة تركيا بوصفها مركز التوازن الإقليمي والدولي، في لعب دور أساسي ومؤثر في سياق الحرب على سورية، وما لهذه الحرب من تداعيات وجسور مُدّت إلى ساحات إقليمية ودولية، تم عبرها استثمار النفوذ التركي، حيث بدت واضحة أوراق الاستثمار وكذا المقايضة في ساحات ليبيا والعراق واستفزاز الاتحاد الأوروبي بورقة اللاجئين، وصولًا إلى الفضاء الاستراتيجي الروسي، وعطفًا على ذلك، فقد تدرجت السياسة التركية في سورية، من علاقات جيدة ومميزة ما قبل 2011، إلى علاقات متوترة وقائمة على أساس ضرورة رحيل الأسد، وصولاً إلى اليوم بعدم المطالبة برحيل الأسد كشرط مسبق لأي سياق يُعيد العلاقات السورية التركية الى سابق عهدها، وهو ما يوحي أنَّ تركيا تُدرك جيداً أنَّ مصالحها هي التي تحدد علاقاتها الإقليمية والدولية، وأن الغرب قد خذلها فيما تسعى لتحقيقه من طموح ودور إقليمي، وأنَّ وجودها داخل اللعبة في ظل وجود روسي مُمسك بأوراق الملف السوري، ما يتطلب منها الاختيار الجيد أين تقف، وأن انفتاحها على قوى المعارضة في سورية عبر تزويدها بالسلاح والعتاد، وكذلك بسماحها للأطراف الارهابية بالانتقال من أوروبا إلى العراق وسوريا، لن ولم يحقق لها شيئاً، إلا انقلاب السحر على الساحر.

إنَّ التمدُّد التركي الزائد في المنطقة، وبفعل ما خلقه من عداوات وصدامات مع معظم دول الجوار، وإفراطه في الاعتماد على القوة العسكرية لإدارة النفوذ الإقليمي، سيكون له على المدى المنظور تداعيات سلبية وربما كبيرة على الأمن القومي التركي، في حال لم تحصل مراجعة سريعة لتلك السياسات، إذ لم تنجح استراتيجية التمدد التركية حتى الآن في نيل الكثير من المكاسب الجيوسياسية الجوهرية. كما فشلت في تحقيق عوائد اقتصادية ملموسة، إذ لم تضمن بعد وضع يدها على موارد حيوية يمكن استثمارها سريعاً في مناطق التدخل. وفي حال استمر عَجْز أنقرة عن تحصيل مزايا راهنة لتدخلاتها، فإن ذلك سيجعلها عاجزة عن تمويل عشرات الآلاف من المرتزقة، ما قد يُهدد بخروج هؤلاء عن السيطرة وتحوُّلهم إلى مجموعات قتالية تحت الطلب، وربما تكون تركيا في زمنٍ لاحقٍ أحد أهدافهم الانتقامية.

في الخلاصة، الطموح التركي مشروع لدولة كانت في يوم ما إمبراطورية ذات حدود شاسعة، ولكنها لا تعيش في فراغ المنافسين، وهناك شروط لا تتعلق بتاريخ الأجداد أو بإعادة حكم السلطان أو بغرور التأييد الشعبي، أو بالعمل على تفتيت الدول المجاورة. لكن في العمق فإن ركائز المشروع التركي لا تتوازى في المضمون والأهداف مع مساحة الطموح التركي، وهو يشي صراحة إلى أنَّ تركيا ستضطر قريبًا لإعادة النظر في حدود طموحها الإقليمي باتجاه تقليصه لتتوازى المكاسب المحتملة مع المخاطر المؤكدة، الأمر الذي ينطوي على احتمال حصول تحولات تركية داخلية تُرافِق ذلك خلال المدين القصير والمتوسط.

كلمات دليلية
التعليقات (0)