إبراهيم أبراش يكتب: مسؤولية الأنظمة العربية عن نكبة الشعب الفلسطيني

profile
إبراهيم أبراش كاتب ومحلل سياسي دكتوراه في القانون العام
  • clock 15 مايو 2023, 4:02:51 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

بعد 75 عام على مهزلة حرب 1948 التي انهزمت فيها 7 جيوش عربية أمام عصابات صهيونية وأدت إلى نكبة الشعب الفلسطيني بتهجير غالبيته من أرضه ما زالت كثير من التساؤلات تفرض نفسها حول: حقيقة وطبيعة العلاقة بين ظهور القضية الفلسطينية بعد وعد بلفور والحركة القومية العربية الناشئة آنذاك بقيادة الشريف حسين وابنه فيصل والمتحالفة مع بريطانيا، وكيف لسبع جيوش عربية أن تنهزم أمام ميليشيات أو عصابات صهيونية؟ وهل بالفعل كانت الأنظمة العربية جادة في الحرب؟ ولو لم تتدخل الجيوش العربية وتم ترك الفلسطينيين في حالة صراع مع اليهود فهل كانت النكبة ستحدث ويتم تشريد غالبية الشعب الفلسطيني وتقوم دولة إسرائيل؟ وكيف أن هذه النكبة لم تنهي القضية الفلسطينية ولم تضع حدا ًللصراع وما زال الفلسطينيون صامدين يدافعون عن أرضهم؟

قبل التطرق لمجريات النكبة سنعرج على العلاقة الملتبسة تاريخياً في علاقة الزعامات العربية حتى قبل الاستقلال مع القضية الفلسطينية. ففي رسالة وجهها الشريف حسين بن علي (شريف مكة) عام 1918 بعد محادثاته مع هنري مكماهون ممثل بريطانيا العظمى وافق على الرأي البريطاني بأن فلسطين ليست مشمولة بوعد بريطانيا له بإقامة دولة عربية، وهذا ما تأكد لاحقاً في الوثيقة أو الاتفاق بين الأمير فيصل ابن الشريف حسين مع الزعيم الصهيوني وايزمان على هامش مؤتمر باريس للسلام 1919، حيث وافق الأول على أن بعض المناطق العربية ومنها فلسطين لا تدخل ضمن الدولة العربية الموعودة للعرب، وقد وظف البريطانيون والحركة الصهيونية هاتين الوثيقتين في دعم جهودهم لتثبيت وعد بلفور في عصبة الأمم.

لم يقف تخاذل وتواطؤ الزعامات العربية عند هذا الحد، حيث واصلوا تواطؤهم حتى بعد أن خذلت بريطانيا العرب بتوقيعها اتفاق سايكس- بيكو 1916 الذي تفاهم فيه البريطانيون والفرنسيون على تقاسم المنطقة العربية بينهم وهي الاتفاقية التي تم كشفها لاحقاً من طرف روسيا القيصرية، فأثناء الإضراب الكبير الذي امتد لستة أشهر والثورة الشاملة التي تبعته 1936-1939 رفضا لهجرة اليهود واستمرار مشاريعهم الاستيطانية بدعم من جيش الانتداب البريطاني، وما أدت له من شلل في المرافق البريطانية العسكرية والمدنية وسقوط خسائر عند اليهود وفي الجيش البريطاني، وخوفاً من تداعيات هذه الثورة على الجماهير العربية وأن تنتفض دفاعاً عن فلسطين وخصوصاً أن كثيراً من المتطوعين العرب بدأوا بالتوافد على فلسطين تحت قيادة العراقي فوزي القاوقجي، تجنباً لذلك طلبت بريطانيا من الزعماء العرب الحاكمين في السعودية والعراق وشرق الأردن واليمن بالتدخل لدى القيادات الفلسطينية لوقف الثورة والإضراب، وللأسف بدلاً من الوقوف إلى جانب الثورة أرسلوا رسالة تطمين للفلسطينيين تطلب منهم: «الإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم”. وكان نتيجة هذا التدخل الذي تعاملت معه القيادات اليمينية التقليدية الفلسطينية أن تم إجهاض الثورة مما مكن اليهود من توسيع مجال هجرتهم ومشاريع استيطانهم ثم كانت الحرب العالمية الثانية التي وظفها الصهاينة باقتدار لصالحهم.

مع استمرار المواجهات بين الفلسطينيين والعصابات الصهيونية المدعومة عسكرياً وسياسياً من بريطانيا صدر القرار 181 عن الجمعية العامة في يوم 15 نوفمبر 1947 الذي يقضي بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب 55% لليهود و 44% للعرب ويتم وضع القدس تحت وصاية دولية، وفي 15 مايو 1948 أعلنت بريطانيا عن إنهاء انتدابها على فلسطين، وما بين قرار التقسيم وإعلان نهاية الانتداب البريطاني وإعلان اليهود عن استقلال دولتهم وبداية الحرب العربية الإسرائيلية تم نسج خيوط المؤامرة على فلسطين التي شاركت فيها الزعامات العربية كما فعلوا سابقاً.

كان قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة غير ملزم لأنه صادر عن الجمعية العامة، فكيف ستقوم دولة إسرائيل وآنذاك كان عدد سكان فلسطين 2.065.000 نسمة، منهم 1.415.000 نسمة من العرب و 650.000 نسمة من اليهود أي ما نسبته 31.5% من إجمالي السكان وما يحوزنهم من أراضي لا يتعدى 19% من أراضي فلسطين الانتدابية والفلسطينيون يواصلون قتالهم دفاعاً عن أرضهم كما أن المتطوعين العرب في جيش الإنقاذ وغيره يشكلون تهديداً وخطراً على اليهود والبريطانيين والزعامات العربية نفسها؟

كان لا بد من حرب كبيرة تؤدي لتغييرات جغرافية وسكانية يمكن من خلالها تهجير العدد الأكبر من الفلسطينيين وتمكين اليهود من مساحات شاسعة ليقيموا عليها دولتهم الموعودة، وهذا ما أكده عضو الكنيست السابق يشعياهو بن فورت عندما تطرق لأحداث تلك المرحلة بقوله: “لا دولة يهودية بدون إخلاء العرب من فلسطين ومصادرة أراضيهم و تسييجها”.

وبدأت خيوط المؤامرة بتحريض بريطانيا الزعماء العرب على رفض قرار التقسيم وأشرفت على تشكيل الكتائب العربية التي ستخوض الحرب تحت عنوان رفض التقسيم ومنع قيام دولة اليهود، وتم وضع هذه الجيوش تحت قيادة الجنرال البريطاني غلوب باشا الذي كان قائداً للجيش الأردني كما كان أغلب قادة الفرق العسكرية من الضباط الإنجليز!!

ولم تتوقف المهزلة عند هذا الحد بل تجاوزت ذلك بالتحكم بعدد الجنود ونوعية سلاحهم و بمجريات المعركة. حسب الوثائق الرسمية التي تم الإعلان عنها آنذاك، كان مجموع جنود الجيوش العربية الخمسة التي خاضت الحرب في حدود 26 ألف جندي وزاد قليلاً بعد بدء المعارك، بدون خبرة قتالية وأسلحة متواضعة وبدون تنسيق مسبق بينها أو إرادة حقيقية للقتال عند أغلبهم، دفعت الحركة الصهيونية لساحة القتال حوالي 100 ألف مقاتل مجهزين بأحدث الأسلحة وبتجربة قتالية اكتسبوها من خلال مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية الى جانب الحلفاء .

كل ما سبق حقائق أكدها شهود عيان وممن شاركوا في الحرب كالقائد عبد الله التل وعارف العارف وفوزي القاوقجي وعزة دروزة، كما تطرق جمال عبد الناصر في مذكراته عن حرب فلسطين وما صاحبها من خيانات حيث يقول: ( لم يكن معقولاً أن تكون هذه حرباً .. لا قوات تحتشد، لا استعدادات في الأسلحة والذخائر، لا خطط، لا استكشافات، ولا معلومات! ومع ذلك فهم هنا في ميدان قتال.. إذن فهي حرب سياسية.. هي إذن حرب ولا حرب؛ تقدم بلا نصر، ورجوع بلا هزيمة.. هي حرب سياسية فقط ….)

يجب ألا يستغرب البعض من هذه الوقائع لأنه بالعقل والمنطق لا يُعقل أن بريطانيا التي صنعت وعد بلفور ومدت الحركة الصهيونية بكل أشكال الدعم السياسي والعسكري حتى أنها تركت للصهاينة مطاراتها وموانئها في فلسطين، وهي التي في نفس الوقت تشرف على الجيوش العربية وتتحكم بتسليحها وتمويلها … لا يُعقل أن تسمح لضباطها بأن يقودوا حرباً على كيان صنعته و تعهدته حتى آخر لحظة إلا إذا كانت حرباً تكون نتيجتها مضمونة لصالح ربيبتها وصنيعتها دولة اليهود.

مباشرة عند دخول الجيوش العربية لفلسطين سقطت مدينتي اللد والرملة بيد الصهاينة وكان الجيش الأردني مسؤولاً عن الدفاع عن هاتين المدينتين المهمتين، ففي مذكرات عبد الله التل قائد جبهة القدس في حرب 48 يقول: ” إن أحد القادة العرب قدّم اقتراحًا للملك الأردني عبد الله ابن الحسين بتبديل قيادة الجيش البريطانية والاستغناء تمامًا عن الفريق غلوب (المعروف باسم غلوب باشا)، والضباط الإنجليز الذين كانوا معه، لأنّهم ودون شكّ يعملون على تمكين القوات الصهيونية من تجاوز حدود التقسيم” لكنّ الملك، وبرأي التلّ، لم يكن يستطيع أن يوافق على مقترح كهذا، لأنّه يعلم أنّ بريطانيا لن تقبل فكرة الاستغناء عن غلوب.

ووسط الحرب وبعد أن حقق اليهود انتصارات كبيرة وتجاوزوا حدود التقسيم وباتوا يستولون على 78% من مساحة فلسطين وشردوا غالبية الفلسطينيين حوالي ثمانون ألف فلسطيني وتدمير 500 قرية تحرك حلفاء الحركة الصهيونية ولجأوا لمجلس الأمن ليصدر قرارا بوقف المعارك وفرض هدنة على الطرفين، وجاء قرار مجلس الأمن بفرض الهدنة الثانية تكريساً للنصر اليهودي على الجيوش العربية ونجحت القوات الصهيونية، من طرد كل القوات العسكرية العربية من فلسطين، باستثناء الجيش الأردني الذي احتفظ بالضفة الغربية ومصر التي استمر تواجدها العسكري في قطاع غزة، وبذلك تم القضاء على مشروع الأمم المتحدة للتقسيم وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

ويتحدث عبدالله التل عن تداعيات الحرب وحالة الغضب الشعبي العربي مما جرى فيقول: ” ما جرى دفع جامعة الدول العربية المشاركة في الحرب المصطنعة وحتى تخفي تواطؤها أن تطلب من الملك عبدالله، بعد الهزيمة، الاستغناء عن الضباط الإنكليز وعلى رأسهم كلوب باشا، أو إبعادهم عن قيادة الجيش العربي الأردني على الأقل، باعتبارهم المسؤولين العسكريين عن الهزيمة، طبعاً لخلق مشجب يعلقون عليه أمام شعوبهم جريمتهم المفضوحة، ويخرجوا ببعض ماء الوجه، ويبرّئون أنفسهم أمام شعوبهم من الاشتراك بالجريمة / الهزيمة، رفض الملك عبدالله ذلك، مع أن طلبهم يمكن أن يكون صك براءة له ولهم، لو تم استخدامه، وهندسته كما تم هندسة حرب الهزيمة، و بنفس الخبث والمكر والخديعة، وكان جواب الملك عبدالله، في جلسة عامة بقصر (رغدان: “أنا لا أستطيع تغيير سرجي في المعركة باعتبار أن معركته لم تنته، فقد بقي منها الفصل الأخير، وهو فصل وضم وإلحاق (الضفة الغربية) بعرشه الهاشمي، وهذا الفصل الأخير هو عاجز لوحده عن تنفيذه، فلا بد والحالة هذه من الحفاظ على سرجه وخيوله، حتى لو كانت تشرب من دماء الشعب الأردني والفلسطيني على حد سواء”.

ويستطرد عبد الله التل قائلا: ” الحقيقة التي لا تقبل الشك، أن جنود وضباط الجيش الأردني، دخلوا فلسطين صادقين لتحريرها، وتسليمها لأهلها ولأصحابها، وخاضوا المعارك الدفاعية بشرف، وقدموا استناداً إلى بيانات قيادة الجيش، (363) شهيداً منهم (11) ضابطاً، والباقي من رتب عسكرية مختلفة”.

لم تجدي حالة الغضب الشعبي العربي على ما جرى حتى الانقلابات والثورات التي جرت في أكثر من بيلد عربي ضد الأنظمة التي كانت سبباً في الهزيمة لم تغير كثيرا ًفي مأساة الشعب الفلسطيني، وكانت الطامة الكبرى عندما قامت دولة الكيان الصهيوني بعد 19 عام فقط من تأسيسها بحرب عدوانية احتلت فيها البقية الباقية من فلسطين- الضفة الغربية وقطاع غزة- التي كانت في عهدة الأردن ومصر بالإضافة إلى أراضي عربية أخرى، حتى حرب أكتوبر 1973 وبالرغم من بطولات وتضحيات الجيش المصري والسوري ومن شاركهم من وحدات عسكرية عربية لم تغيراً كثيراً في مجريات الصراع بل أدت للتطبيع بين مصر وإسرائيل وخروج مصر من معادلة الصراع مع إسرائيل مقابل استعادتها لسيناء.

نستخلص من كل ما جرى عدم صحة ما يزعمه البعض من الموتورين من غير الفلسطينيين بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم وأن العرب خاضوا عدة حروب وسقط لهم الآلاف دفاعاً عن فلسطين والفلسطينيين، والحقيقة أن تدخل الأنظمة العربية كان وبالاً على الشعب الفلسطيني ولو لم يتدخلوا ما كانت النكبة أولا ثم النكسة ثانياً ثم التطبيع أخيراً، ولكان كل الشعب الفلسطيني حتى الآن يقاتل الصهاينة على أرض فلسطين وما كانت الهجرة والشتات.

بالرعم من مرور أكثر من قرن على وعد بلفور و 75 عاما على النكبة و65 عام على النكسة ما زال الشعب الفلسطيني، وفي مقدمته اللاجئون الذين اعتقد العدو أنهم اندثروا ونسوا قضيتهم الوطنية، يواصل نضاله لوحده بما يملك من إمكانيات ولم يَعد يراهن على تدخل عسكري عربي أو إسلامي وإن كان ما زال يراهن على الشعوب العربية والرأي العام العالمي الذي تتزايد قناعته بعدالة القضية الفلسطينية وحقه بدولة مستقلة.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)