احمد عمر يكتب: طبعات النكبة المنقّحة والمزيدة

profile
  • clock 8 مايو 2023, 3:46:59 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

لم أكن أدرك معنى البيت حتى فقدته، أما الوطن، وهو البيت الكبير، فقد كان مُغترَباً كبيراً وقفصاً لرعية مقصوصة الأجنحة.

وجدت بعد النزوح أن المغتربات والمنافي والمنازح أحنى من الوطن، ولو رزقني الله الجنة، وأخسُّ أهل الجنة حظا أعزّ من عشرة ملوك من ملوك الدنيا، ومنحة الخلد؛ وفيها ما تشتهي النفس وتلذّ الأعين وما لم يخطر على قلب بشر، لطلبت من ربي بيتاً يشبه بيتي الأول بجانبي قصري الذي تجري من تحته الأنهار.

ترد في الأخبار غير الرسمية، وأحياناً في نشرة الأخبار الرسمية، أخبار اجتماعية من بيت المقدس، عن بيوت مغتصبة، فنرى أُسرة تحوم حول دارها المحتلة، أو تفطر فطور رمضان أمام باب الدار تستأنس به، فالدار بعد الروح في المغالي والمعالي.
 

أمسى مفتاح باب البيت الذي اصطحبه النازح الفلسطيني في النكبة، التي لم تتوقف فهي سلسلة نكبات متوالية، رمزاً لحلم العودة. أما السوري فلم يصطحب مفتاح بيته، فإما أنه باع داره ثمناً لرحلة خطرة في البحار والحواجز إلى الشمال الأوروبي، وإما أن البيت دُمّر بالبراميل.


اشتهر نص أدبيّ لكاتبة بريطانية اسمها فرجينيا وولف صار من علامات الأدب الإنكليزي؛ عنوانه: "غرفة خاصة بالمرء وحده"، وترجمة النص العربية الشائعة ركيكة وضعيفة، فقد تُرجم العنوان ترجمة حرفية وآلية. وهو أشهر نصوصها، فلا حرية من غير بيت.

رأيت مرة في أحد الشوارع السورية شعاراً على لافتة في يوم الإسكان العالمي الذي يصادف الاثنين الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، يقول: إن من لا سكن له لا وطن له، فأُخذت، لكنه لم يكن سوى شعار للزينة، وأضحى الشعار اللفظي والشعار البصري في بلاد العرب "أشعر" أنواع الكذب، وأمسى مفتاح باب البيت الذي اصطحبه النازح الفلسطيني في النكبة، التي لم تتوقف فهي سلسلة نكبات متوالية، رمزاً لحلم العودة. أما السوري فلم يصطحب مفتاح بيته، فإما أنه باع داره ثمناً لرحلة خطرة في البحار والحواجز إلى الشمال الأوروبي، وإما أن البيت دُمّر بالبراميل.

يتصل بالبيت والوطن والديار أنَّ شاعر العصر العباسي هجا كثيراً وقفة الشاعر العربي على الأطلال، وكان الشاعر قد استقرّ في بيت ثابت لا يخفق للريح ولا تؤذيه الأمطار. أما شاعر قصيدة النثر، فأدار ظهره للشعر العربي الذي صار اسمه الشعر العمودي، وشاع الشعر الحديث الذي لا يفهمه سوى صاحبه. وكانت العرب قد اتخذت للمعاني بيوتاً تسكنها، كما البشر فهم جيران في بيوت متحاذية. شاعر اليوم يكتب شعراً مشرداً نازحاً عريا من ميراثه وذكرياته ومكياله، لا وزن له، ولا قدر. الشعر الحديث مقاطع منثورة على الصفحة البيضاء، ثم ظهرت قصيدة اسمها "قصيدة البياض: صفحة بيضاء لا حبر فيها ولا نأمة ولا ساكن رسما. وعدَّ بذلك القصائد القديمة كلها قصائد سواد!

عوداً إلى الديار، ووجدت شعرا عربيا قديما لم يُعرف صاحبه قال قبل قرون ما قاله محمود درويش نثرا، الطريق إلى البيت أجمل من البيت:

إذا ما قَفَلْنَا نَحْوَ نَجْدٍ وَأَهْلِهِ
فحَسْبِى مِنَ الدُّنْيَا قُفُولىِ إلَى نَجْدِ

كنت أظن، وأنا صبي، أن المخيم هو حيّ به خيام، فلم يكن في الجزيرة السورية مخيمات، إلى أن رأيت مخيماً في الصور الإخبارية، إنه حيّ أقيم على عجل، فقد أعان الجيران العرب إخوتهم الفلسطينيين النازحين، فأقاموا لهم أحياء على أطراف المدن، قيل في تبرير عمارتها المتلاصقة أن ضيق أزقتها مقصود لدرء عدوان الغزاة والعداة، وليس لضيق المساحة. وكان دعاء النبيّ عليه الصلاة والسلام، بعد كل وضوء: اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي.

دارت الأحوال حتى صار المخيم الفلسطيني هو أكثر الأحياء أمناً في المدن السورية المنتفضة ضد الاحتلال الناطق بالعربية، الذي كان يدّعي أن قضيته المركزية هي فلسطين، إما لأن أهله آثروا الهدوء ووقفوا محايدين بين الطرفين، فالملسوع من الحليب يخاف من الزبادي، وهم ضيوف، ليس لهم ما للرعية التي يطلق عليهم اسم مواطنين من حقوق مذكورة في الدستور، وإما لأنهم يحظون بحماية رمزية من منظمات دولية مثل الأونروا والأمم المتحدة وأنهم ضحايا الدولة المقدسة إسرائيل، فتردد النظام السوري في اقتحام مخيماتهم أول أمره.

 

ما لبث النظام بعد أيام من قصف شعبه بالطائرات الحربية أن داهم المخيم المزدحم بنازحي فلسطين ونازحي سوريا، وانتزع جرحى المظاهرات من فوق الأسرّة ذات العجلات، وسحلهم ومعهم الأمصال كما تفعل الوحوش بأمعاء فرائسها، وصادر ما في المخيم من بنادق صيد، وأسر متظاهرين جرحى. ثم بُني حول المخيم جدار عازل مثل الجدران العازلة في فلسطين، فاشتدّ الحصار والعدوان، فنزح السوريون بالملايين

ووجدت صاحب محل حلويات شهير ثريّ، خسر حلوياته التي كانت تصدّر إلى بلاد عربية، قد سكن غريفة حقيرة في المخيم تشبه الزنزانة، ووجدت أن كل أهل حمص المصابين برصاص القناصين يتطببون في مشفى المخيم، بعد أن غُزيت مشافيهم.. واسمه مشفى بيسان، الذي كان محمياً من أهل المخيم، حفاظا على الضعيف العاني قبل الحفاظ على قسم الطبيب الإغريقي أبقراط.

وقسم أبقراط لم يكن له عند العربي حاجة، فالمروءة من المرء، ولا يكون المرء إلا بمروءته، واللجوء عند العربي اسمه الجوار، وكانت القبائل تجير، ويجير العربيُ العربيَ، وفي المرويات العربية قصص مشهورة عن الإجارة، بل إن العرب كانت تجير الحيوان..

لكن ما لبث النظام بعد أيام من قصف شعبه بالطائرات الحربية أن داهم المخيم المزدحم بنازحي فلسطين ونازحي سوريا، وانتزع جرحى المظاهرات من فوق الأسرّة ذات العجلات، وسحلهم ومعهم الأمصال كما تفعل الوحوش بأمعاء فرائسها، وصادر ما في المخيم من بنادق صيد، وأسر متظاهرين جرحى. ثم بُني حول المخيم جدار عازل مثل الجدران العازلة في فلسطين، فاشتدّ الحصار والعدوان، فنزح السوريون بالملايين نحو تركيا ولبنان والأردن وكردستان العراق.

عوقب بنو إسرائيل بالتيه أربعين سنة، أما بنو إسماعيل من العرب، فطال تيههم أكثر من أبناء عمومتهم. ونحن هذه الأيام نحتفل بذكرى النكبة الفضيّ، ونتعلق مثل الغريق بوعود وردت في الآثار، مثل نبوءة سورة الإسراء التي كثرت تفسيراتها، ورأى بعض المؤوّلين وهم يقلبون أرقام الآيات، ويُحصون أعداد الحروف، على أوجه التخمينات والتأويل راجين "وعد الآخرة".
 

لعل أهم العبر المنكرة أنَّ العدو الغازي أمسى صديقاً مداجيا، بل أضحى حكماً بين الأخوة المتحاربين، كما في السودان، وأنَّ التطبيع لفظ كان يطلق على مؤاخاة العدو والعفو عن جرائمه، فصار يطلق على التطبيع مع النظام السوري، وإن اشد ثغور المقاومة العربية، وهي غزة، اتخذت من الفرس حلفاء مناصرين


رأى السوريون من أحفاد الفرس ما لم يره الفلسطينيون من الروم وأذنابهم، والفرس في المصادر المقدسة: قرآنا وسنّة ومأثورات أشدّ من الروم وأنكى منهم، حتى أن الفاروق تمنى أن يكون بيننا وبينهم جبل من نار، وعلموا أنَّ غزاة القدس لم يغزوها إلا بعد أن ولوّا على عواصم الشقيقات العربية أولياءهم، ولعلهم أدركوا أنَّ القدس لم تُغز إلا بعد أن وطئت لها العواصم المجاورة، وأنَّ طبعة النفي السوري الكبير هي الطبعة السابعة من النزوح الفلسطيني بعد "طبعات" من التشريد العراقي والليبي، واليمني والسوداني الذي نراه هذه الأيام على شاشات الأخبار.

لعل أهم العبر المنكرة أنَّ العدو الغازي أمسى صديقاً مداجيا، بل أضحى حكماً بين الأخوة المتحاربين، كما في السودان، وأنَّ التطبيع لفظ كان يطلق على مؤاخاة العدو والعفو عن جرائمه، فصار يطلق على التطبيع مع النظام السوري، وإن اشد ثغور المقاومة العربية، وهي غزة، اتخذت من الفرس حلفاء مناصرين.

يعتزم العازمون إلى تحويل العرب إلى أسرى في أوطانهم أو رحّل، وإعادتهم إلى الخيام، وقد نسوا ديوانهم وأشعارهم، فلن يقف أحد على الأطلال، وقد نراها في الصور إن لم تتلفها الدموع أو تخطفها المسلسلات التلفزيونية.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)