الرافضون ..عن الشعر والثورات في تاريخ العرب (2) أمير شعراء الثورة الأول

profile
أحمد سراج مؤلف مسرحي وشاعر مصري
  • clock 18 يونيو 2021, 2:09:51 ص
  • eye 841
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

هو عمرو بن مالك الأزدي، من قحطان. شاعر جاهلي، يماني، من فحول الطبقة الثانية وكان من فتاك العرب وعدائيهم، وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم. قتلهُ بنو سلامان، وقيست قفزاته ليلة مقتلهِ فكان الواحدة منها قريباً من عشرين خطوة، وفي الأمثال (أعدى من الشنفري) وهو صاحب لامية العرب التي مطلعها:

أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لَأَمَيلُ.

لكن علامَ ثارَ هذا الشاعرُ؟ لنرجع إلى القصة محاولين التوفيق بين الروايات: بعد قتل أبي الشاعر، يُلحَقُ ببني سلامان (بني عمومة أبيه وقاتليه) صغيرًا لا يدرك شيئًا – بعد أن عاش مدة في بني فهم - ويقوم أحدهم بتربيته حتى يظن الشاعر أنه ابنه، لكنه اكتشف الحقيقة عندما صار شابًّا؛ لذلك قرر أن ينتقم، وكما رأينا التعبير المبالغ للشاعر القبلي عن تميز قبيلته، نرى هنا أن الشاعر يقرر في غير هوادة أن يقتل مئة من بني سلامان - نعم مئة - وتمضي الروايات حتى تصل إلى قدرته على قتل تسعة وتسعين رجلاً عدوًّا، ويتم القبض عليه بعد قطع ذراعه، ثم قتله وصلبه وتركه عبرة ومَثَلَةً، حتى يعبر عليه بعد مدة أحد بني سلامان، ويقوم بتركيل جمجمته ساخرًا من قَسَمِ الشنفري، ويدخل جزءٌ من الجمجمة في قدم الرجل فتسممه ويموت، وبذلك يحق للشاعر أن يكون قد برَّ بقسمه حيًّا وميْتًا. تنتهي الرواية وليست تفاصيلها – الأسطورية - ما يعنينا هنا، لكنني أوردها للاستئناس ولإضاءة جوانب النص الذي سَيُبَئِّرُ على قضايا أظن أنها عابرة للزمن...

أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لأَمَيلُ.

هذا بيت القصيد من البداية فمن شاء، فليكتفِ وكفى – وإنه لخاسر وإن عرف موقف الشاعر – ومن شاء فليكمل؛ إذ إن البيت الأول يقرر خروج الشاعر على قومه، وليس هروبه منهم، إنه هنا لا يعلن لبني أمه – بعض الروابات تذهب إلى أن بني سلامان هم خؤولة الشاعر، وكلها تثبت أن بني أبيه إما قتلوا أو تخاذلوا عن الثأر – أنه سيرحل وإنما يطلب منهم الاستعداد للرحيل؛ فقد آذنهم بالعداء، ثم انظر إلى الشطر الثاني وتعليل الأمر في صدر الشطر الأول، إنه إلى قوم غيرهم يميل ويحب، ولعلنا هنا بحاجة إلى رأي أحد عتاة النحو: (وأما ( أمْيَلُ ) فهو أفعل بمعنى فاعل... وليسَ المعنى أنّى أكثرُ مَيْلاً منكم) لكن من القوم الذين يميل إليهم الشاعر؟ ولماذا لا يستحق بنو أمه أن يبقوا معه أو أن يبقى معه؟


فَقَد حُمَّت الحاجاتُ واللَيلُ مُقمِرٌ وَشُدَّت لِطِيّاتٍ مَطايا وَأَرُحلُ

يستكمل النص تعليله لظاهرة الخروح على/ من قومه: لقد تهيأت المطالب، زمانًا؛ والليل مقمر. واستعدادًا؛ شدت مطايا وأرحل. لمن المطايا والأرحل؟ ولم استخدم النص جمع القلة: أرحل، عادلاً عن جمع الكثرة: رحال؟ ثم لا حظ معي أن النص استخدم: طيات، والطية هي: الجهة أو النية أو الوطن). إذن، ليس هذا المكان هو الوطن...

وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ

لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ سَرى راغِباً أَو راهِباً وَهوَ يَعقِلُ

كيف لهذا الصعلوك - بما في الكلمة من إيحاءات سلبية وإيجابية - أن يصل إلى هذا المعنى الرائع: إن الأرض واسعة. تلك الحقيقة التي وضعها الله في الإنسان وحاسبه على عدم العمل بها: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) ثم تأمل هذا القَسَم: لعمرك، وما تلاه من نفي مطلق: ما في الأرض ضيق على امرئ. وما استتبعه من وصف: سرى (أي سار ليلاً) وانظر إلى الحالين المتناقضين - الذين لا ثالث لهما في حالة الخروج- بما له من عموم وشمول: راغبًا (طالبًا) أو راهبًا.(هاربًا خائفًا) المهم هو أن: يعقل. مات أهل الأب وتجبر أهل الأم، إلى من يلجأ الشاعر:

وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ

هُمُ الأهل لا مُستَودَعُ السِرَّ ذائِعٌ لَدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ

هكذا وفي براءة ثورية يفضل الشاعر أن يكون أهله حيوانات – شرار الحيوانات- على أن يكونوا بشرًا؛ فهو يختار الذئب القوي شديد الفتك سريع الفتك، والنمر الأملس، والضبع المفترسة، هذا النزق الثوري والابتعاد المفرط عن كل البشر ألا يدفعنا إلى السؤال: لِمَ؟ لقد أجاب النص عن ذلك فقال: إن هؤلاء هم الأهل دون من عداهم - وذلك لاستخدامه أسلوب القصر والحصر: بتعريف طرفي الجملة: المبتدأ (هم)، والخبر: (الأهل)- ولم يكتف بذلك بل بَيَّنَ سببَ كونِهم كذلك؛ فهم يحفظون السر، ولا يسلمون الجاني إلى طالبيه ولا يتوقفون عن نصرته.

وَكُلٌّ أَبِيٌّ باسِلٌ غَيرَ أَننَّي         إِذا عَرَضَت أُولى الطَرائِدِ أَبسَلُ    

وَإِن مُدَّتِ الأَيدي إِلى الزادِ لَم أَكن     بِأَعجَلِهِم إِذ أَجشَعُ القَومِ أَعجَلُ

وَما ذاكَ إِلاّ بَسطَةٌ عَن تَفَضُّلٍ        عَلَيهِم وَكانَ الأَفضَلَ المُتَفَضَّلُ

ولي صاحِبٌ من دونِهم لا يَخونني     وإِذا التبسَت كفِّي بِهِ يَتَأكّلُ

وَإِنّي كَفانِي فَقدُ مَن لَيسَ جازِياً     بِحُسنى وَلا في قُربٍه مُتَعَلَّلُ

ثَلاثَةُ أَصحابٍ فُؤادٌ مُشَيَّعٌ         وَأَبيَضُ إِصليتٌ وَصَفراءُ عَيطَلُ

 الجامع المشترك بين الشاعر وقومه الجدد أن كلهم عزيز شجاع، لكن الشاعر أكثر شجاعة في الاصطياد، وأكثر عزة عند اقتسام الغنائم، وذلك لأنه واسع الفضل شديد الإعطاء، على أن الشاعر لا يعدم نفسه صفة اكتفائه عن العالم بصحب لا يخونون يلجأ إليهم الشاعر حينما يعدم في الدنيا: من يقابل الحسنة بمثلها أو من يجد في قربه مخففًا من الأحزان، أولئك الصحب هم: قلب شجاعٌ، وسيف قاطع، وقوس جيدة.

سبقت كلمة الشاعر في قومه وصحبه وسبب اختياره لهم، لكن من هذا الذي يختار هؤلاء:

وَلَستُ بِمِهيافٍ يُعَشِّي سَوامَهُ مُجَدَّعَةً سُقبانَها وَهيَ بُهَّلُ

وَلا جَبأَ أَكهى مُرِبٍّ بِعِرسِهِ يُطالِعُها في شَأنِهِ كَيفَ يَفعَلُ

وَلا خَرِقٍ هَيقٍ كَأَنَّ فُؤادَهُ يَظَلُّ بِهِ المُكَّاءُ يَعلو وَيَسفِلُ

يعرف الشاعر نفسه بالنفي: لست بتافه لا يجيد الرعي ( المنة الأسمى للعرب) فتعود إبله جائعة من سوء المرعى الذي اتخذه لها راعيها، ومن إهماله لها. وهو ليس جبانًا ملازمًا لزوجته ليس له رأي دون الرجوع إليها. وهو ليس ضعيف القلب دائم الخوف كأن قلبه من اضطرابه معلقٌ بطائر يرتفع وينخفض به بل على العكس من ذلك تمامًا:

إِذا الأَمَعزُ الصُوّانُ لاقى مَناسِمي تَطايَرَ مِنهُ قادِحٌ وَمُفَلَّلُ


في بيت واحد فقط يضع لك الرجل نفسه أمامك، كأن كاميرا شديدة الحساسية والدقة التقطت له صورة واحدة، لكنها تكفي، إنها صورة بطن قدمه حين تصطدم بالحجارة الصلبة فإذا بالشرر يتطاير و بقطع مفتتة تلازمه، ألم يضرب به المثل: أعدى من الشنفرى، هذا الرجل على قوته وشجاعته وسداد رأيه وثبات قلبه يختار حياة – بل يجبر عليها -:

أَديمُ مِطالَ الجوعِ حَتّى أُميتَهُ وَأَضرِبُ عَنهُ الذِكرَ صَفحاً فَأَذهَلُ

وَأَستَفُّ تُربَ الأَرضِ كَيلا يَرى لَهُ عَلَيَّ مِنَ الطَولِ اِمُرؤ مُتَطَوَّلُ

وَلَكِنَّ نَفساً مُرَّةً لا تُقيمُ بي عَلى الذَأمِ إِلا رَيثما أَتَحَوَّلُ

وَاَطوي عَلى الخُمصِ الحَوايا كَما اِنطَوَت خُيوطَةُ مارِيٍّ تُغارُ وَتُفتَلُ

معاناة الجوع التي اختارها الشاعر بدلا من أن يجود به عليه شخص يذله بذلك؛ لذا يديم الفتى – ونعم الفتى – مماطلة الجوع الدائن – وبئس الدائن والابتلاء – حتى يموت الجوع، ويتناساه الفتى حتى ينساه، بل ويأكل التراب لكيلا يذله أحد، ما الذي يدفعك لهذا؟ لأن نفسه أبية صعبة شديدة النفور من كل عيب وذم، ثم دقق في هذا التعبير: إِلا رَيثما أَتَحَوَّلُ. ذلك أنه قد يفعل ما يذم عليه لكنه لا يثبت عليه. إن أمعاء الشاعر (الحوايا) من كثرة تحمل الجوع ( الخمص) التف بعضها حول بعض كأنها أحبال الصانع الماهر (ماري) شديدة القوة والصلابة، لكن أيبقى الشاعر على مماطلة جوعه وكفى؟

وَأَغدو عَلى القوتِ الزَهيدِ كَما غَدَا أَزَلُّ تَهاداهُ التَنائِفُ أَطحَلُ

غَدا طاوِياً يُعارِضُ الريحَ هافِياً يَخوتُ بِأَذنابِ الشِعابِ وَيَعسَلُ

فَلَمّا لَواهُ القوتُ مِن حَيثُ أَمَّهُ دَعا فَأَجابَتهُ نَظائِرُ نُحَّلُ

مُهَلهَةٌ شِيبُ الوُجوهِ كَأَنَّها قِداحٌ بِكَفَّي ياسِرٍ تَتَقَلقَلُ

أَو الخَشرَمُ المَبعوثُ حَثحَثَ دَبرَهُ مَحابيضُ أَرداهُنَّ سامٍ مُعَسَّلُ

شَكا وَشَكَت ثُمَّ اِرعَوى بَعدُ وَاِرعَوَت وَلَلصَّبرُ إِن لَم يَنفَع الشَكوُ أَجمَلُ


على القوت القليل للغاية يتحرك الشاعر مثلما يتحرك الذئب قليل اللحم (أَزَلُّ) تتقاذفه الصحارى، هذا الذئب الذي خرج جائعًا في بداية النهار يجري بين أطراف الشعاب والدروب، فلما أن لواه الجوع استنجد فردت عليه (نظائر) أشباه ناحلة من شدة ما لحقها من جوع وما عضها من عطش..

التعليقات (0)