السفير معصوم مرزوق يكتب : أهمية ترشيد الأحزان !،

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 16 مايو 2021, 6:24:11 م
  • eye 1985
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

 التاريخ ١٩ أبريل ٢٠٠٢ 

اتصل الصحفي الكبير باحدى الفضائيات العربية، وظل يصرخ ويهتف حتى اختتم بالبكاء والنحيب بصوت عال وهو يردد: نحن فداؤك يافلسطين.. 

نحن فداؤك يافلسطين!! وبعده مباشرة كانت فتاة فلسطينية شابة تتحدث بثبات وتحد وخلفها مناظر للدمار والهلاك،

 رافعة رأسها، قائلة في تصميم وبنبرة غير مترددة: اننا صامدون وياجبل مايهزك ريح.. لقد كان الصحفي الكبير مؤثرا الى حد كبير،

 ولا شك أن ملايين المشاهدين في العالم العربي قد انفعلوا وانخرطوا في بكاء يتناسب مع ولولته وصرخاته، وهو ما يؤكد نجاحه في مهمته السلمية من حيث تأكيد العجز واضافة المهانة الى الجرح،

 وليس من المستبعد أنه توجه في نفس الليلة الى أحد المؤتمرات الحاشدة كي يواصل فاصل اللطم والبكاء، وتوجيه النقد والاتهام ذات اليمين وذات الشمال،

 واستطيع ان أجزم بأنه عاد في نهاية الليلة كي يتناول وجبة عشاء دسمة، وينام قرير العين مرتاح الفؤاد. بينما كانت تلك الفتاة الفلسطينية ذات العشرين ربيعا، 

تواجه الكاميرا بنظرة حادة، شامخة برأسها رغم الانهيار البادي من خلفها في كل مكان، تتحدث باختصار، وكأنما تتعجل كي تقوم بعمل اخر أكثر جدية،

 ودون أن تطرف لها عين تسرد أرقام الشهداء من اسرتها وجيرانها، وتتوعد بأن معين الشهداء لم ولن ينضب. ولا أظن أن هناك من كان اكثر سعادة من جهاز الدعاية الصهيوني،

 وهو يتابع صرخات الصحفي العربي الكبير غير المأجور، والذي يؤدي دورا يعجز عنه أي مأجور، فهو يرسخ بولولاته شعور العجز،

 ويجذر الاحباط ويرخي بأستار سوداء على المستقبل، وهو في نفس الوقت يؤكد تفوق العدو الذي لم يعد من سبيل لمواجهته سوى بالولولة ولطم الخدود،

 كل ذلك في الوقت الذي كان فيه عدد من الشباب يحجزون بأبدانهم تقدم دبابات ذلك العدو على بوابات جنين، ويلقنونه الدرس تلو الآخر، ويسطرون أروع ملامح النضال العربي الحديث. 

ان ذلك الصحفي الكبير، مع كل الاحترام والتقدير يقوم بنشر الرسالة التي أرادها شارون من اعتداءاته الاخيرة، فذلك الأخير يريد نشر الرعب والخوف بغرض فرض الاستسلام،

 وهو يعلم انه يواجه موقفا جديدا لشعب تصلبت ارادته بالنار. ويفهم أكثر من غيره ان انتشار دباباته وجنوده بين قرى ومدن فلسطين هو بداية الانكسار امام المقاومة الفلسطينية الباسلة،

 ولا شك عندي في انه يشعر بالهزيمة في أعماقه رغم كل مظاهر الدمار التي نشرها في كل انحاء الضفة الغربية، ورغم ما قد تعكسه صورة دباباته التي تزحف في الشوارع الخالية..

 فهو يعرف أن جنوده داخل هذه الدبابات يرتعدون حتى النخاع، يفقدون شرفهم العسكري كل لحظة يسقط فيها طفل أو امرأة أو رجل بريء.. 

وهو يدرك ان تلك بداية مرض لبنان الذي دفع باسرائيل أن تهرول الى الانسحاب وذيلها بين قدميها. من المؤسف والمحزن في آن واحد أن نجد ظاهرة مثل ذلك الصحفي الكبير،

 وامثاله الكثيرين بين قادة الرأي وفقهاء السياسة في بلادنا، ويكفي أن نتصفح بعض الفضائيات في أمسية واحدة كي نرى ونسمع أولئك الذين يحللون ويفندون كي يصلوا في النهاية الى نفس النتيجة: 

لا أمل، أو يرموا بكل البلاء على الحكومات والحكام وكانهم لم يكونوا في مواقعهم القيادية بالصحف والمجلات والفضائيات لسنوات بلا عدد،

 يحشون رؤوس الناس بكلام لا معنى له، ويخوضون معارك وهمية مع طواحين الهواء.. ان هؤلاء أخطر على الشعوب العربية من شارون واشباهه لأنهم الفيروس الذي يسعى لتحطيم جهاز المناعة العربي، 

ذلك الجهاز الذي اكتسب مناعة اضافية بدماء شهداء فلسطين. ولا يختلف الكثير من الغناء عن هذا الهراء، فالكلمات منتحبة معتذرة تكاد من الذل ان تنحني،

 والألحان جنائزية تتوسل الدمع من أحداق المستمعين، ليس فيها شموخ وتحد (ياقدس) لفيروز، أو تجاوز اللحظة الحزينة الى مابعدها كما في أغنية (فدائي) لعبدالحليم حافظ..

 أغلب الاغاني للاسف تكرس بدورها العجز وقلة الحيلة. وعلى مقربة من ذلك يقف أهل (كوبنهاجن) وهم يرتلون تحت حائط مبكاهم ضياع جهودهم السياسية في اقناع العرب بأهمية السلام.

 ولا شك ان جزءا من بكائهم يصدر عن انقشاع الاضواء من حولهم، وتوقف الاجتماعات والمؤتمرات والرحلات وما يصاحب ذلك من تبرعات ودولارات وبزنسة (من البيزنس) 

ولعلهم يشاهدون الآن رفاق رحلتهم من الجانب الاسرائيلي وهم يباركون مجزرة شارون، ويكشفون عن وجههم الحقيقي، لقد كان لدى البعض من هؤلاء (الكوبنهاجيين) 

الشجاعة كي يعتذر عن ضلاله وتضليله، ولكن هل يتوبون؟؟ لذلك أرى أن عدم ممانعة الجيش الاسرائيلي في وجود الكاميرات وتصويرها للأهوال،

 هي خطة محكمة لنشر الرعب وترسيخ العجز، فهم يعلمون أن لدينا مثل هذا الصحفي الكبير، وتلك المجموعة الملوثة بكوبنهاجن،

 وهم يريدون ان يمسحوا من الوعي العربي أسطورة الانتفاضة الظافرة، فلا يبقى في أسماع أطفالنا سوى تلك الصرخات البائسة التي يطلقها من لم ينتخبهم أحد كي يقودوا الفكر العربي.

 لقد خسر الفلسطينيون هذه المعركة، ولكنهم بالتأكيد قد كسبوا الحرب، ونجحوا في حشد الرأي العام الدولي وراء حقوقهم المشروعة وتعرية الوجه القبيح للمشروع الصهيوني، 

ولقد تعمدت قرى ومدن فلسطين بالدم والنار، واشتد عود المقاومة فلن تنحني ولن تنكسر. ورغم كل الأحزان التي تملأ القلب من اجل هذه الزهور التي داستها جنازير الهمجية والاستبداد،

 فإننا يجب ان نضع تلك الأحزان في موضعها الصحيح، أي نختزنها كرصاص من أجل المعارك القادمة، وننشرها خرائط عمل نضع عليها خطتنا للمستقبل،

 ونرفع رؤوسنا فخرا بابنائنا الذين في الطليعة منا يحاربون على حدود شرفنا وكرامتنا ويذودون عن خندقنا الاخير، ويضعون الحروف الأولى في عنوان الانتصار القادم بإذن الله لا محالة. 

ان كل الشعوب الحية قد دفعت من دمائها ودموعها الكثير من أجل الحرية والعزة والكرامة، ولو أعدنا قراءة التاريخ لوجدنا العديد من الامثلة والعبر لمن يعتبر،

 ولا أريد أن أضرب أمثلة من التاريخ العربي وهي كثيرة، ولكن انظروا الى تشرشل وقد عادت فلول قواته من دنكرك الممزقة مهانة وقد علا الذل وجوههم،

 لقد وقف تشرشل صامدا بينما الطائرات الألمانية تحول لندن الى انقاض، حتى جاء الموعد الذي احتفل فيه بيوم النصر، ولعل أحداً اثناء تلك الليالي السوداء التي عاشتها بريطانيا لم يكن يظن أن ذلك اليوم قد يأتي.

 وبعد نكسة الجيوش العربية في يونيو 67، كم ناح النائحون ولطم اللاطمون خدودهم، وقرأنا مزامير اليأس والقنوط، وقيل لنا أن قناة السويس وخط بارليف في حاجة لقنبلة نووية للتغلب عليهما، 

ولكن صمد جيش مصر وقدم الآلاف من الشهداء في حرب الاستنزاف المريرة، ولعقنا مرارة الألم بينما طائرات العدو تتجول في سمائنا وتقصف حتى مدرسة الأطفال في بحر البقر، 

حتى جاءت الساعة وانتفض جيش مصر، وتحطمت أسطورة العدو الذي لا يقهر، ورأيت بأم عيني جنودهم وهم يفرون مرتعدين، ورأيت من وقع في أيدينا أسيرا 

وهو يبكي مذعورا، وكان لنا يومنا مثلما كان لهم يومهم. ومن العار أن نسكت على ذلك التراشق اللفظي الذي بدأته بعض الفضائيات ووسائل الاعلام العربية، 

فهذا يعاير ذلك، وهذه تتباهى على تلك، وكأنما يلعبون في يد العدو، ويندفعون في المنطقة فيما بيننا بديلا عن توجيه الاهتمام الى المعارك الدائرة.

 إن هذا اللغو يجب أن يتوقف فورا، فحين يشب الحريق في البيت لا يتوقف أحد أولا امام المرآة كي يتأمل نفسه. لقد قال تشرشل لأهل بلاده في ذلك الزمن الصعب:

 ليس لدي ما أقدمه لكم سوى مزيد من الدماء والدمع والعرق.. لم يقف امام الكاميرات كي يبكي ويصيح ويولول. وهكذا وقفت ابنة فلسطين الشابة تردد كلمة قائدها أبوعمار (ياجبل ما تهزك ريح).

. وهكذا سيقف شاب فلسطيني في المستقبل كي يقول: (كانت أيامنا صعبة، ولكننا صمدنا وانتصرنا.. والنصر صبر ساعة). ـ كاتب مصري

التعليقات (0)