السفير معصوم مرزوق يكتب : الدبلوماسي والحرب

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 10 أبريل 2021, 2:27:02 م
  • eye 1114
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

يظن البعض أن الدبلوماسية مهنة سهلة ، مجرد حفلات ورحلات ، ويراها البعض بأنها مهنة الكذب الأنيق ، بينما يراها آخرون بأنها المهنة التي تتيح لصاحبها أن يقنع خصمه أن يتجرع السم سعيدا هانئا !!.

لكنها -وبالتجربة - مهنة شاقة قاسية ، ولكي نقترب من بعض أبعادها ، يمكن بشكل عام أن نحدد أبرز خطوطها العامة ، فهي تمثل العمل علي التنبؤ الصحيح Crisis Prediction,  وهي في نفس الوقت العمل علي منع الأزمات Crisis Prevention ، ثم هي العمل علي حل الصراع حال وقوعه Conflict Resolution ، ثم هي بعد ذلك العمل علي ترتيبات ما بعد النزاع Post-conflict Arrangement . 

وكل هذه المهام تستخدم فيها الدبلوماسية أدوات مختلفة ، منها مثلا : الحصول علي معلومات وتحليلها ، التواصل والإتصال المستمر مع الخارج ، عقد الصفقات وبناء العلاقات ، التفاوض الثنائي أو من خلال مؤسسات إقليمية أو دولية ، إعداد الدفاع القانوني عن مواقف الدولة ، بحث إمكانيات وقف إطلاق النار بشكل يحقق مصلحة الدولة ، دراسة إحتمالات التسوية من حيث نقاط الضعف والقوة ، التفاوض المباشر أو عبر وسيط ، اللجوء للتحكيم الدولي او محكمة العدل الدولية ..الخ . 

وهو ما يتطلب توافر إمكانيات ومهارات خاصة للدبلوماسي ومنها الذكاء والثبات الإنفعالي والتمكن من لغات أجنبية ، وثقافة عامة متنوعة ، والإلمام بالقانون الدولي والإقتصاد والجغرافيا السياسية .. إلخ 

وختاما أقدم نموذجا قد يعبر عما تقدم من حيث كونه تاريخا وتجربة دبلوماسية فريدة .. فقد قيل أن مصر خسرت حرب 1956 عسكريا ، ولكنها كسبتها سياسيا ودبلوماسيا ، وذلك صحيح إلي حد كبير ..

فقبل تأميم قناة السويس تم إعداد دراسات قانونية وبحث معمق في معاهدة القسطنطينية لعام 1888 ، كما حرصت مصر علي إجراء أتصالات أولية مع الهند ويوغسلافيا وقبرص ، بل علمت من سكرتير الدكتور محمود فوزي أنه - أي السكرتير - كلف بالسفر إلي بنما لدراسة الوضع القانوني والسياسي لقناة بنما .

وفي مرحلة منع الأزمة ، قبلت مصر بمبدأ التفاوض . رغم رفضها حضور مؤتمر لندن الأول ، وأرسلت شخصيات بارزة إلي لندن كي تتحرك وتتصل علي هامش المؤتمر بشكل غير رسمي ( وكان منهم مثلا السيد علي صبري ) ، وكانت الاتصالات تتم بشكل مستمر مع ممثل الهند في المؤتمر الدبلوماسي الشهير ووزير الدولة للشئون الخارجية كريشنا ممنون .

وقبلت مصر استقبال مهمة لجنة منزيس التي حملت املاءات مؤتمر لندن الأول ، وكسبت بذلك وقتا ومساحة في الرأي العام الدولي بإعتبارها منفتحة للحلول الدبلوماسية ، ولو انها في النهاية رفضت تلك الإملاءات وغادر منزيس ( رئيس وزراء استراليا ) القاهرة وهو حزين مكتئب يحمل خفي حنين .

ثم دارت معركة دبلوماسية حقيقية في مجلس الأمن كان بطلها أبو الدبلوماسية المصرية والعربية الدكتور محمود فوزي ، الذي خاض مبارزة رفيعة ( كشفت عنها الوثائق ) ضد وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا وفي حضور سكرتير عام الأمم المتحدة داج همرشلد الذي لم يخف إعجابه بآداء الدبلوماسية المصرية .

كان وفد مصر في نيويورك يجري إتصالات مستمرة مع وفود دول عدم الإنحياز وأمريكا والإتحاد السوفييتي لإجتذابهم إلي المواقف التفاوضية المصرية ، وكانت قواعد اللعبة واضحة للدبلوماسيين المصريين ، حيث كان هدف الدبلوماسية البريطانية والفرنسية التمهيد الدعائي والقانوني للحرب التي كانوا يستعدون لها من أجل غزو مصر وإسقاط عبد الناصر ، بينما تناور الدبلوماسية المصرية لكسب الوقت وإسقاط كل الذرائع من خلال التفنيد القانوني الماهر لحجج بريطانيا وفرنسا ، ولم يبد دكتور فوزي أي جمود أو تصلب حتي اللحظة الأخيرة حتي تم الإتفاق علي عقد جلسة مفاوضات في جنيف وهي التي لم تتم لأن الحرب كانت قد بدأت بالعدوان علي مصر . 

تواصل الجهد الدبلوماسي المصري أثناء العمليات واقترن بجهد إعلامي مميز ، ويلاحظ في هذا الصدد أن عبد الناصر الذي لم يكن قد حصل علي شهرته الكبيرة بعد كان يترك مساحة كبيرة للدبلوماسيين المصريين في إدارة المعركة الدبلوماسية . 

بعد ذلك جاءت ترتيبات ما بعد وقف إطلاق النار في إطار الأمم المتحدة ، وكان منها نشر قوات طوارئ دولية ، وتطهير قناة السويس ، وهي مثال يدرس في مهارة الدبلوماسية المصرية . 

يمكن القول أنه ربما لم تمنع الدبلوماسية حربا ، ولكن من المؤكد أنها أسهمت إلي حد كبير في بناء الثقة بين الشعوب ، وإبرام عدد هائل من الإتفاقيات التي تنظم كل أبعاد الحياة للحيلولة دون وجود نزاع بلا حل  .

التعليقات (0)