امير المفرجي يكتب: العلاقات العراقية ـ الفرنسية والموضوعية السياسية

profile
  • clock 1 أغسطس 2023, 4:20:42 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

لا شك في أن للعراق موقفاً وحقوقاً تاريخية شرعية في هذا الجزء المهم من العالم، تتوافق مع ثقله الاقتصادي والبشري والحضاري. وهذا ما يعطيه الدور المؤثر المهم، وعامل الاستقرار في هذه المنطقة الغنية المتأثرة بالأجندات الإمبريالية في العالم. من هنا تميزت الأحداث والتفاعلات في العراق بتأثيرها في المنطقة، تتفاعل مع تفاعلاتها وتتأثر بتأثيراتها. فعندما تكون بلاد الرافدين آمنة ومستقرة ومتطورة، تتأثر المنطقة كلها بشكل إيجابي، وعلى العكس تتأثر سلبياً عندما يفقد العراق بوصلته واستقراره، ما يدفع بالدول العظمى، للاهتمام بهذا البلد انطلاقا من الدور الذي يلعبه موقعه في التأثير أو التأثر، وأهمية حجم ثرواته النفطية في الاقتصاد العالمي.
من هنا تأتي زيارة وزير الجيوش الفرنسي الأخيرة لبلاد الرافدين، بالتزامن مع الجهود التي تبذلها الحكومة الفرنسية لدعم مصالحها في العراق، حيث أتت هذه الزيارة بعد نجاح شركة «توتال إنرجيز» الفرنسية أخيرا من توقيع الاتفاق العملاق المؤجل، الذي يهدف لزيادة إنتاج النفط وتعزيز قدرة التعامل المشترك، عن طريق تنفيذ العديد من المشاريع المتعلقة بالنفط والغاز والطاقة المتجددة، بعد الفشل في الوصول إلى نتيجة ترضي الطرفين، خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي لفرنسا في يناير الماضي.

الدول المستقلة تعمل لمصالحها الاستراتيجية في العالم خلافا للأنظمة الفاشلة، التي لا ترى من أهمية بلدانها سوى الاستفادة من وجود المصالح الأجنبية لتثبيت أنظمتها

على الصعيد الدولي، تكمن الاستراتيجية الفرنسية في مبدأ اغتنام الفرص، لإعادة فرنسا إلى قلب الساحة الدولية، نتيجة للصعوبات التي واجهت الدول العظمى الأخرى، لانعدام مصداقيتها في الشرق الأوسط وفي العراق والمنطقة، ناهيك عن تداعيات وكلفة الحرب في أوكرانيا، وتأثيرها الاقتصادي في فرنسا وموقف دول المنطقة السياسي والحيادي من الصراع الغربي ـ الروسي في أوكرانيا. ورغم أن الأسباب التي أعلنها الطرفان عن زيارة وزير الجيوش الفرنسي للعراق، كان هدفها  تعزيز التعاون العسكري المشترك في التسليح والتدريب، وتعزيز الأمن والاستقرار بالمنطقة، عن طريق تعزيز الحضور الفرنسي في الأراضي العراقية، من خلال تدريب وتسليح الجيش العراقي. بيد أن أهمية الإنجازات الاقتصادية والعسكرية تكمن قبل كل شيء في الأهمية التي تراها فرنسا للعراق، كونه المحور السياسي والاقتصادي المهم لمصالحها في خريطة الشرق الأوسط. وهنا لا بد من التذكير، أنه نتيجة للنفوذ الكبير الذي فرضته سياسة الولايات المتحدة على أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عن طريق ما يسمى بحلف شمال الأطلسي، ناهيك عن أهمية ألمانيا التي يعتبرها الفرنسيون المنافس الصناعي الأوروبي الأول، الذي يهدد بتفوقه الصادرات الفرنسية، دفع الرؤساء الفرنسيين منذ وصول الجنرال ديغول، ونهاية بالرئيس الحالي لاستعادة الدور المحوري لفرنسا في المنطقة، من خلال إثبات قدرة الدبلوماسية الفرنسية على معالجة أزماتها، رغم تفاوت نسبة الشعبية التي يتمتع بها الرؤساء الثلاث الأخيرين في المجتمع الفرنسي والعالم مقارنة بالجنرال ديغول وجاك شيراك، إذ تكمن أهمية الأول في دوره في بناء الجمهورية الخامسة، التي ركزت سياستها الخارجية على استقلال فرنسا من نفوذ حليفتها الولايات المتحدة، من خلال العبارة المشهورة التي يعرفها الفرنسيون «فرنسا الحليفة ولكن غير المنحازة»، التي عن طريقها تم العمل على رسم سياسة فرنسا تجاه العالم العربي، والتي قادها من بعد جاك شيراك، ومن جاء من بعده بقدر متفاوت من الاستقلالية عن نظيرتها الأمريكية ، منذ ان بدأها شارل ديغول في الستينيات، ما يعني أن الثوابت التي تحملها هذه السياسة أقوى من اختلاف توجهات ساكني قصر الإليزيه.
من هذا السياق، سعت جميع الأنظمة في بغـداد، بعد نشوء الجمهورية العراقية وباختلاف ثقافاتها الوطنية او القومية أو المذهبية، الاستفادة من هذا التوجه الديغولي، حيث كان للاستقبال الشخصي الفخم الذي أقامه الجنرال ديغول للرئيس العراقي عبد الرحمن عارف في عام 1968، الدور الكبير في فتح الطريق للأنظمة العراقية في علاقاتها، والإشارة الواضحة لأهمية العراق في الخريطة الدولية، ما جعل من الثوابت التي تُميز بلاد الرافدين تجاه فرنسا، حالها حال الثوابت الفرنسية تجاه العراق، أقوى من الأنظمة والأحزاب التي حكمت وتحكم لحد الآن في بغداد.
لا شك بأن استمرار الفرنسيين في تطوير علاقتهم بالأنظمة العراقية، رغم اختلاف أيدولوجيتها، يكمن في مدى حرص المؤسسات العسكرية والاقتصادية الفرنسية على الدفاع عن وجودها ومصالحها الحيوية الخاصة، انطلاقا من الأهمية الاستراتيجية، التاريخية والاقتصادية التي يتمتع بها هذا البلد المهم على خريطة الشرق الأوسط. وهذا ما يعطي لفرنسا وجوداً سياسياً واقتصادياً مستمراً عابرا للأنظمة والأحزاب في العراق الجديد والقديم على حد سواء، على الرغم من أن الأنظمة السياسية التي حكمت العراق تختلف عقائدياً وثقافياً إحداها عن الأخرى، بمعنى آخر أن مصالح الدول الكبرى تحددها طبيعة سياساتها مع العراق الموجود على الخريطة السياسية، بعيدا عن دائرة الصراعات التي تقف وراءها الأحزاب والإثنيات المتنازعة على ثرواته وكراسي نظامه، فالدول المستقلة تعمل لمصالحها الاستراتيجية في العالم، خلافا للأنظمة الفاشلة، التي لا ترى من أهمية بلدانها سوى الاستفادة من وجود المصالح الأجنبية لتثبيت أنظمتها واستمرار بقائها في الحكم.

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)