تحديات برلين: ما أبعاد الدور الألماني في أفريقيا؟

profile
  • clock 12 أبريل 2023, 5:35:10 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

يشهد الوجود الألماني في مناطق عدة من أفريقيا حالة من التحولات الجذرية خلال السنوات الأخيرة، ولعل آخرها مطالبة الحكومة التشادية السفير الألماني “جان كريستيان جوركون كيكي” – الذي يشغل منصب سفير ألمانيا في تشاد منذ 2021 – بمغادرة البلاد؛ بسبب عدم احترامه الممارسات الدبلوماسية، وتدخله المفرط في إدارة شؤون البلاد. وقد أكدت وزارة الخارجية الألمانية من جانبها أن أسباب طرد السفير غير واضحة، مشيرةً إلى أنها تحاول معالجة الأمور مع الحكومة التشادية. ويشكل هذا الحدث إحدى حلقات التأثير المباشرة على النفوذ الألماني في القارة الأفريقية، الذي بدأ يتبلور تدريجياً منذ نهاية الحرب الباردة مع مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين.

وقد حاولت ألمانيا بشكل متواتر إحياء وتفعيل علاقاتها بالدول الأفريقية عبر الاستفادة من محدودية وجودها الاستعماري السابق في القارة بالمقارنة بالقوى الغربية الأخرى، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، وتسارعت وتيرة التحركات الألمانية نحو أفريقيا بشكل ملحوظ، ولا سيما بعد بدء الحرب الروسية–الأوكرانية؛ شأنها شأن باقي القوى الغربية؛ وذلك في محاولة لتقليص حجم الأضرار الواقعة عليها من جراء هذه الحرب، وخاصةً المتعلقة منها بنقص إمدادات الطاقة على الصعيد العالمي. ويحرك الدور الألماني في أفريقيا جملة من العوامل المحفزة، كما أنه يدور في فلك العديد من الأبعاد الحاكمة له، وتواجهه العديد من التحديات المتصاعدة المؤثرة عليه. 

عوامل محفزة

يحرك الدور الألماني في القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة جملة من العوامل الرئيسية المحفزة، وهي العوامل التي تتمثل فيما يلي:

1– الاستفادة من الثقل التصويتي لأفريقيا: تسعى ألمانيا – شأنها شأن القوى الدولية الأخرى – إلى الاستفادة من الوزن النسبي المرتفع للكتلة التصويتية الأفريقية في المحافل الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة؛ حيث تمتلك أفريقيا (54) صوتاً في إطارها، وهو ما يعد أمراً مؤثراً لدعم القضايا والسياسات الألمانية على المستويين الدولي والإقليمي أيضاً. وتحاول ألمانيا خلال الآونة الأخيرة كسب الدعم الأفريقي في الأمم المتحدة؛ وذلك عبر تأييد وجود تمثيل أفريقي دائم في مجلس الأمن الدولي، ولعل هذا ما أعربت عنه وزيرة خارجية ألمانيا “أنالينا بيربوك”؛ وذلك في لقاء جمعها برئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي “موسى فكي” في العاصمة الإثيوبية “أديس أبابا” في يناير 2023؛ إذ أكدت دعمها حصول أفريقيا على مقعدين دائمين في المجلس.

وهو الأمر الذي تحركت تجاهه العديد من القوى الدولية في الآونة الأخيرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي أكدت دعمها تمثيلاً دائماً لأفريقيا في جميع المنظمات الدولية، بما في ذلك مجموعة العشرين، ومجلس الأمن الدولي؛ وذلك في إطار “القمة الأمريكية–الأفريقية” الثانية التي عقدت في ديسمبر 2022. وتستهدف ألمانيا تكثيف الزيارات الرسمية للمسؤولين في أفريقيا خلال الفترات الأخيرة؛ من أجل كسب التأييد الأفريقي في المحافل الدولية؛ حيث أجرى المستشار الألماني “أولاف شولتز” جولة أفريقية إلى كل من (السنغال، والنيجر، وجنوب أفريقيا) في مايو 2022، وتلا ذلك قيام نائب المستشار الألماني والوزير الاتحادي الألماني للشؤون الاقتصادية والعمل المناخي “روبرت هابيك” بزيارة إلى كل من ناميبيا وجنوب أفريقيا؛ وذلك في ديسمبر من العام ذاته.

2– تعظيم المنفعة من الموارد والسوق الاستهلاكية: تستهدف ألمانيا الاستفادة من قاعدة الثروات والموارد الطبيعية الهائلة التي تمتلكها أفريقيا لخدمة منظومة الأهداف والمصالح الاقتصادية لها؛ حيث تذخر أفريقيا بنحو (30%) من احتياطيات الثروات المعدنية على المستوى العالمي، ونحو (40%) من الذهب في العالم، وما يصل إلى نحو (90%) من الكروم والبلاتين، كما تستحوذ على أكبر احتياطيات من الكوبالت والماس والبلاتين واليورانيوم في العالم، فضلاً عن امتلاكها نحو (65%) من الأراضي الصالحة للزراعة، ونحو (10%) من مصادر المياه العذبة المتجددة في العالم، كما تمتلك القارة الأفريقية ثاني أكبر سوق استهلاكية في العالم؛ حيث يبلغ تعداد سكانها نحو (1.3) مليار نسمة، ومتوقع أن يتضاعف هذا العدد ليصل إلى (2.5) مليار نسمة بحلول عام 2050.

3– إيجاد بديل لنقص إمدادات الطاقة: تسعى ألمانيا – شأنها شأن العديد من القوى الغربية – إلى الاستفادة من قاعدة موارد الطاقة التي تمتلكها أفريقيا بشكل كبير، ولا سيما منذ بدء اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية في أواخر فبراير 2022، التي صاحبها وقف في إمدادات مصادر الطاقة الروسية لأوروبا بفعل العقوبات الغربية المفروضة عليها، وهو ما ترتب عليه توقف في التدفق المستمر للغاز الروسي عبر خط أنابيب “نورد ستريم”، الذي يمر أسفل بحر البلطيق والبالغ طوله نحو (1200) كيلومتر، وينقل ما يصل إلى (55) مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، وقد كان من المتوقع أن يؤمن إمدادات الطاقة في أوروبا على مدار الخمسين عاماً القادمة.

وتستطيع أفريقيا تلبية وسد احتياجات ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي من مصادر الطاقة، خاصة أنها تمتلك بدورها نحو (8%) من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم؛ ففي عام 2021، بلغ إجمالي احتياطيات الغاز الطبيعي في أفريقيا ما يزيد عن (620) تريليون قدم مكعب. وعلى مستوى النفط أيضاً، يمكن أن تسهم أفريقيا في سد احتياجات أوروبا منه؛ حيث تمتلك (12%) من احتياطيات النفط في العالم؛ ففي عام 2021 قُدِّر احتياطي القارة من النفط الخام بنحو (125.3) مليار برميل.

4– تقليص تهديدات الهجرة غير الشرعية: تحرص ألمانيا بشكل متواتر على مواجهة المخاطر المصاحبة لهذه الظاهرة؛ نظراً إلى تأثيراتها المباشرة على الأمن الوطني لألمانيا بمفهومه الشامل؛ حيث تعد بمنزلة أكبر دولة مساهمة في “الصندوق الائتماني الأوروبي للطوارئ من أجل أفريقيا” (EUTF)، الذي تم إنشاؤه في عام 2015، والذي يهدف إلى السيطرة على الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا؛ إذ تساهم بنحو ربع ميزانيته؛ وذلك بتخصيص نحو (316) مليون يورو في شكل تمويل حكومي من وزارتي الخارجية والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي خلال الفترة (2016 –2021).

ويستهدف الصندوق تقديم ما يقرب من (5) مليارات يورو في تمويل المشروعات الطارئة؛ من أجل معالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية في البلدان المستقبِلة للاجئين. وتُعَد الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) على رأس الأطراف الفاعلة في تنفيذ مشروعات هذا الصندوق؛ حيث قدمت تمويلاً بقيمة تتجاوز نحو (800) مليون يورو. ويرتكز هذا التمويل على المشروعات المتعلقة في الأساس بمنطقتي الساحل الأفريقي وشمال أفريقيا.

أبعاد حاكمة

ثمة العديد من الأبعاد المؤثرة بشأن طبيعة التوجهات والتحركات الألمانية تجاه القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، وهي الأبعاد المتمثلة فيما يلي:

1– تطوير استراتيجية جديدة لأفريقيا: أعلنت الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية عن هذه الاستراتيجية في 23 يناير 2023، التي طرحت من خلالها التركيز على ستة مجالات رئيسية للتعاون مع الدول الأفريقية؛ فأما الأول فيتمثل في التنمية الاقتصادية المستدامة والتوظيف والازدهار؛ وذلك من خلال التحول الاجتماعي والبيئي للاقتصاد، والحفاظ على الموارد الطبيعية الحيوية والطاقة والبنية التحتية، والتجارة والتوظيف والهجرة والتحول الرقمي. وأما الثاني فيكمن في التغلب على الفقر والجوع وبناء الحماية الاجتماعية؛ وذلك من خلال دفع عجلة التنمية المستدامة وأنظمة الزراعة والغذاء المرنة، والتحرك نحو الاستهلاك المستدام وسلاسل التوريد المستدامة، وتوسيع أنظمة الحماية الاجتماعية والحصول على التعليم.

ويتمثل الثالث في الصحة والوقاية من الأوبئة؛ وذلك من خلال دعم إنشاء القدرات الطبية الإنتاجية، وتعزيز اقتراب الصحة الواحد القائم على تعددية التخصصات، وتقوية المنظمات الصحية الأفريقية والمعنية بمنع الأوبئة، وتحسين ورقمنة الرعاية الصحية الأولية، وتحسين صحة المرأة، في حين يكمن الرابع في سياسة التنمية النسائية والمساواة بين الجنسين؛ وذلك من خلال دعم المساواة بين الجنسين، وتعزيز حقوق المرأة، وإنشاء وتطوير التحالفات من أجل المساواة المرتبطة بالنوع الاجتماعي، ودعم المشاركة الاقتصادية للمرأة، ومحاربة العنف القائم على النوع الاجتماعي.

ويتمثل الخامس في سيادة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد؛ وذلك من خلال احترام وتعزيز وحماية حقوق الإنسان، وتعزيز دور السلطة القضائية المستقلة، ودعم جهود السلطات لتصبح أكثر فاعليةً وشفافيةً، ومحاربة الفساد وتحسين الشفافية وتوسيع القاعدة الضريبية، وتعزيز المشاركة السياسية للمجتمع المدني، وأخيراً قضايا السلام والأمن؛ وذلك من خلال التركيز على استهداف الأسباب الجذرية الهيكلية للنزاعات ومنع اندلاع صراعات جديدة، ودعم اللاجئين والنازحين داخلياً والمجتمعات المضيفة، وتعزيز حلول النزاعات الشاملة، والإدارة المرنة للأزمات ذات التأثير السريع، وتقوية المؤسسات الأفريقية المعنية بالسلام والأمن.

2– تعزيز الصلات على المستوى المتعدد الأطراف: تبلور ذلك من خلال إطلاق ألمانيا إطاراً جديداً يسمى “اتفاق مجموعة العشرين مع أفريقيا” (CwA)، خلال توليها رئاسة المجموعة (G20) في عام 2017 الذي يعد بمنزلة مبادرة متعددة الأطراف ومنصة حوارية بين مجموعة العشرين والدول الأفريقية؛ حيث يجمع كلاً من الدول الأفريقية المعنية والمنظمات الدولية (صندوق النقد الدولي، مجموعة البنك الدولي، والبنك الأفريقي للتنمية) وغيرهم من الشركاء الثنائيين والمتعددي الأطراف من مجموعة العشرين، ويهدف إلى إعداد برامج إصلاح شاملة ومنسقة ومخصصة لكل دولة على حدة، ودعم التدابير المعنية بتشجيع ظروف الاستثمار المستدام للقطاع الخاص، ولا سيما في مجال البنية التحتية في البلدان الأفريقية. وقد انضمت نحو (12) دولة إلى المبادرة، وهي (بنين وبوركينا فاسو  وكوت ديفوار  ومصر  وإثيوبيا، وغانا وغينيا والمغرب ورواندا  والسنغال  وتوجو  وتونس). وقد استفادت هذه الدول من الفرص التي توفرها المبادرة لتحسين تنافسيتها الاقتصادية وظروف الاستثمار الخاص، كما ساعدت الدول المشاركة على التعامل بشكل أفضل مع التحديات الاقتصادية لجائحة كورونا.

ويختلف هذا الاتفاق عن المبادرات السابقة من منظور تركيزه المباشر على تسهيل الاستثمارات الخاصة؛ وذلك بدلاً من الاعتماد على تدفقات المعونة العامة؛ حيث يسعى إلى دفع الحكومات الأفريقية إلى العمل في إطاره مع شركائها لتوجيه الإصلاحات اللازمة لاجتذاب الاستثمارات المحلية والأجنبية. وقد دعمت الحكومة الألمانية المبادرة منذ البداية، ولا سيما من خلال صندوق الاستثمار الإنمائي وشراكات الإصلاح الثنائية مع البلدان الشريكة، مثل كوت ديفوار وإثيوبيا وغانا والمغرب والسنغال وتوجو وتونس، بالإضافة إلى تبسيطها إجراءات منح ضمانات القروض. وقد توالى انعقاد هذا المؤتمر باستمرار في أعوام 2018 و2019 و2021.

3– تدعيم الروابط الاقتصادية على مختلف المستويات: وتشكل إحدىنقاط التحرك الألماني تجاه أفريقيا؛ فعلى مستوى التجارة البينية، ارتفع حجمها ليصل إلى نحو (62.5) مليون دولار في عام 2022؛ وذلك بالمقارنة بنحو (44.2) و(58.1) في عامي 2020 و2021 على الترتيب، كما بلغت الاستثمارات المباشرة لألمانيا في أفريقيا نحو (1.6) مليار يورو؛ أي ما يعادل نحو (1.7 مليار دولار) في عام 2021؛ علماً بأن نحو (1.1) مليار يورو – أي ما يعادل نحو (1.2 مليار دولار) – تذهب إلى أفريقيا جنوب الصحراء، كما بلغت تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة من ألمانيا إلى مختلف الدول الأفريقية نحو (8.5) مليار يورو خلال الفترة (2016–2020)، وهذا يجعل ألمانيا واحدة من أكبر المستثمرين في القارة، على الرغم من أنها لا تزال تستثمر نصف ما استثمرته فرنسا، التي تعد بمنزلة أكبر مستثمر من الاتحاد الأوروبي في القارة الأفريقية. وتسعى ألمانيا إلى زيادة حجم استثماراتها في أفريقيا خلال الفترة المقبلة، وهذا ما أعلن عنه المستشار الألماني “أولاف شولتز”؛ حيث أكد أن من المقرر استثمار نحو (20) مليار يورو سنوياً في أفريقيا لخلق حوافز للاستثمارات الخاصة.

وتحتفظ ألمانيا بصلات اقتصادية وثيقة مع العديد من الدول الأفريقية، وتأتي على رأسها جنوب أفريقيا التي تعد من أكبر شركائها التجاريين؛ إذ جاءت في الترتيب الـ(27) في هذا الشأن في عام 2022، وبلغ حجم التجارة بينهما نحو (24) مليار يورو وفقاً للمكتب الفيدرالي الألماني للإحصاء. وتقوم نحو (600) شركة ألمانية في جنوب أفريقيا بأعمال تجارية، وتستثمر ما يزيد عن نحو (5) مليارات يورو، وتوظف قرابة (100) ألف شخص. كما جاءت كل من مصر والمغرب وتونس في الترتيبات الـ(53) والـ(56) والـ(57) على الترتيب كأكبر الشركاء التجاريين مع ألمانيا بواقع (5.5) و(4.9) و(4.36) مليار يورو في عام 2022.

4– تقديم العديد من المساعدات التنموية: وسَّعت الحكومة الألمانية مساعداتها الإنسانية في أفريقيا في السنوات القليلة الماضية؛ حيث قدمت نحو (564) مليون يورو لأفريقيا في عام 2021، كما قدمت (20) مليون يورو لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” منذ أواخر عام 2020؛ وذلك لضمان حصول الأشخاص والحيوانات في المناطق المعرضة في شرق أفريقيا لخطر الجوع بوجه خاص على مساعدة سريعة، وقد سمحت هذه المنحة بتزويد أكثر من (50) ألف شخص بالأعلاف اللازمة لتربية المواشي، وتقديم تحويلات نقدية لنحو (15) ألف أسرة في كينيا.

وتعد ألمانيا بوجه عام ثاني أكبر دولة مانحة في العالم في مجال التعاون الإنمائي؛ وذلك بعد الولايات المتحدة (42.3 مليار دولار)، وفقاً لإحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 2021؛ حيث بلغت قيمة هذه المساعدات (32.2) مليار دولار، وهو ما يعادل نحو (0.7%) من دخلها القومي الإجمالي، تليها كل من اليابان (17.6 مليار دولار) والمملكة المتحدة (15.8 مليار دولار). وتُوجَّه هذه المساعدات إلى الدول الأفريقية بالأساس في مجالات من قبيل اللاجئين والمساعدات الإنسانية والتعليم والطاقة والحوكمة والمجتمع المدني والزراعة والصحة والمياه والسلام والأمن والصناعة والتعدين، فضلاً عن التجارة ودعم الموازنات العامة.

5– مساندة جهود حفظ السلم في أفريقيا: تشارك ألمانيا في ثلاث بعثات أممية لحفظ السلم في أفريقيا بشكل رئيسي؛ هي: بعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية (MINURSO) بـ(3) عناصر، وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة والمتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA) بـ(601) عنصر، وبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS) بـ(11) عنصراً، فضلاً عن مشاركتها في إطار بعثة الأمم المتحدة لمساعدة الصومال (UNSOM) بعنصر واحد فقط؛ علماً بأن إجمالي مساهمة ألمانيا في عمليات حفظ السلم التابعة للأمم المتحدة بلغ نحو (660) عنصراً في 31 ديسمبر 2022.

وتُعد مشارَكة ألمانيا في بعثة مالي هي أكبر المشاركات من بين البعثات المختلفة. وعلى الرغم من تعزيز الدولة مشاركتها في هذه البعثة بناءً على قرار من الحكومة في مايو 2022 لتعويض مغادرة القوات الفرنسية من البعثة، فإن من المقرر أن تسحب قواتها المشاركة في إطارها تدريجياً بدءاً من منتصف العام الجاري، على أن تتم عملية الانسحاب كلياً بحلول مايو 2024؛ وذلك وفقاً لقرار اتخذته الحكومة الألمانية في أواخر العام الماضي. ويأتي هذا القرار بعد توتر العلاقات بين النظام العسكري الانتقالي في مالي والدول الغربية منذ الانقلاب العسكري الذي حدث في أغسطس 2020 من جانب، وتوطُّد العلاقات العسكرية والأمنية بين هذا النظام وبين روسيا من جانب آخر.

كما تشارك ألمانيا في إطار “بعثة الاتحاد الأوروبي للتدريب في مالي والنيجر” (EUTM)، لكنها خفضت مشاركتها من نحو (600) عنصر إلى (300) عنصرP وذلك بعدما قرر الاتحاد الأوروبي تخفيض عدد العناصر الرئيسية المشارِكة في التدريب، وبناء القدرات بشكل مؤقت وتدريجي في مالي؛ وذلك في أوائل أبريل 2022. وقد عزز من ذلك تدهور الأوضاع الأمنية بشكل كبير في مالي؛ حيث وجهت منظمة “هيومن رايتس ووتش” اتهاماً للقوات المالية والمقاتلين الروس بإعدام نحو (300) رجل مدني في بلدة بوسط مالي، كما قررت ألمانيا مد مشاركة هذه العناصر لمدة عام؛ وذلك في مايو 2022، وستتمركز الغالبية العظمى من هذه القوات في النيجر.

تحديات متصاعدة

ثمة العديد من التحديات المتنوعة المواجِهة للدور الألماني في القارة الأفريقية، وهي التحديات التي تتمثل فيما يلي:

1– تصاعد النفوذ الروسي في أفريقيا: يأتي تزايد الأدوار المرتبطة بروسيا قضماً من الدور الألماني في أفريقيا؛ فالدور الروسي بدأ يتصاعد منذ أواخر العقد الثاني من الألفية الجديدة؛ حيث استضافت روسيا “القمة الروسية–الأفريقية” في أكتوبر 2019، كما أنها تخطط لاستضافة النسخة الثانية من هذه القمة في الفترة المقبلة. وتعد روسيا حالياً المورد الرئيسي للأسلحة إلى أفريقيا؛ فقد استحوذت القارة الأفريقية على نحو (14%) من صادرات الأسلحة الروسية بين عامي 2017 و2021؛ وذلك وفقاً لتقرير “الاتجاهات الدولية لعمليات نقل الأسلحة” الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “SIPRI” في مارس 2022. ويضاف إلى ذلك تنامي دور مجموعة عمل “فاجنر” الروسية في بعض البلدان الأفريقية، ومنها جمهورية أفريقيا الوسطى منذ عام 2017، ومالي منذ عام 2020.

2– تزايد الحضور الصيني في أفريقيا: شهد الحضور والنفوذ الصيني حالة من الصعود المستمر خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي؛ إذ أصبحت الدولة الشريك التجاري الأول لأفريقيا؛ حيث ارتفع حجم تجارتها معها بنحو (11%) ليصل إلى نحو (282) مليار دولار في عام 2022. وقد يتعارض ذلك مع النفوذ الاقتصادي لألمانيا في القارة؛ ففي الوقت الذي تعتمد فيه الصين على سياسة الإغراق القائمة على توفير منتجاتها بكثرة وبأسعار مناسبة في الأسواق الأفريقية، نجد أن ألمانيا تركز على الجودة المرتفعة للمنتجات ذات التكلفة المرتفعة على المستهلك النهائي.

كما تأتي الصين في الترتيب الأول بصفتها أكبر الدول المستثمرة في مجال البنية التحتية في أفريقيا؛ حيث بدأت العديد من المشروعات في إطار “مبادرة الحزام والطريق” التي دشنتها منذ عام 2013، وقد اكتمل العديد منها خلال عام 2022، ومن بينها بناء خط السكك الحديدية الساحلية في نيجيريا، وميناء “باجامويو” في تنزانيا، وإنشاء نحو (25) منطقة تعاون اقتصادي وتجاري في (16) دولة أفريقية، ولعل هذا ما دفع ألمانيا إلى الترحيب بالمشروع الجديد للاتحاد الأوروبي تحت مسمى مبادرة “البوابة العالمية” (Global Gateway)، التي تهدف إلى أن تكون بديلاً لمبادرة الحزام والطريق الصينية، والتي سيتم من خلالها استثمار نحو (150) مليار يورو في السوق الأفريقية.

3– تنامي الأوضاع غير المواتية للاستثمار: تبلور ذلك من خلال ارتفاع معدلات الفساد في أفريقيا؛ حيث توجد نحو (13) دول أفريقية على قائمة أكثر (20) دولة فساداً في العالم وفقاً لمؤشر مدركات الفساد الصادر في عام 2022 من قِبل منظمة الشفافية الدولية. ويأتي على رأس هذه الدول كل من (الصومال وجنوب السودان وليبيا وغينيا الاستوائية وبوروندي). وتثير هذه المعدلات المرتفعة من الفساد، بجانب التعقيدات البيروقراطية وتدهور البنية التحتية، قلق المستثمرين الألمان؛ حيث جاءت (26) دولة أفريقية ضمن قائمة أسوأ (40) دولة أداءً وفقاً لآخر إصدار من مؤشر ممارسة أنشطة الأعمال Doing Business index في عام 2020.

4– توسع التهديدات الإرهابية بشكل كبير: ويشكل أحد أبرز التحديات الأمنية المواجهة لتعزيز النفوذ الألماني في أفريقيا،ولا سيما في ظل انتشار الجماعات الإرهابية العابرة للحدود في مختلف أرجاء القارة؛ فعلى سبيل المثال،فرض تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية في موزمبيق، خاصةً مقاطعة “كابو ديلجادو” في شمال البلاد، الكثير من التحديات في مواجهة الوفد الذي أرسلته ألمانيا من أجل استكشاف فرص الاستثمار في حقول الغاز الطبيعي ومشروعات البتروكيماويات والطاقة والتصنيع في موزمبيق في مارس 2021.

5– الربط بين المساعدات التنموية والإصلاح السياسي: تعتمد ألمانيا في استراتيجيتها نحو أفريقيا، على الترويج لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، وتعتبر أن ذلك يعد شرطاً ضرورياً لتقديم المنح والمساعدات في المجال التنموي. وهذا ما قد يشكل أساساً لتفسير طرد تشاد السفير الألماني مؤخراً؛ وذلك على خلفية تحفُّظه على تمديد رئيس المجلس العسكري الانتقالي “محمد إدريس ديبي” فترة المدة الانتقالية المتفق عليها لمدة عامين في أكتوبر من العام الماضي لتنتهي في أكتوبر 2024، فضلاً عن تمرير قرار يسمح بترشحه بعد انتهاء هذه الفترة.

وختاماً، يمكن القول إن من المرجح أن يتأثر الدور الألماني في أفريقيا في الفترة المقبلة بتنامي النفوذ الروسي–الصيني في العديد من مناطق النفوذ الغربية، ولا سيما في ضوء تصاعد وتيرة التنافس الدولي في القارة الأفريقية، بفعل استمرار التداعيات المصاحبة للحرب الروسية–الأوكرانية، وهو ما قد يفرض على ألمانيا تفعيل بنود استراتيجيتها الجديدة التي أعلنت عنها مطلع العام الجاري؛ وذلك عبر تكثيف التعاون مع المؤسسات الأفريقية، ودعم المبادرات القارية، وعلى رأسها منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، وتشكيل تحالفات استراتيجية جديدة مع الدول الأفريقية، وتطوير أدوات تمويل مبتكرة وتعزيز مشاركة القطاع الخاص، فضلاً عن بناء وتوسيع الشراكات المتعددة الأطراف مع مختلف أصحاب المصالح، بما في ذلك المجتمع المدني.


 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)