تسفي برئيل: غزة و"رؤية أردوغان" بعد الحرب.. من خطاب البحر الأسود إلى الخريطة الإقليمية

profile
  • clock 6 نوفمبر 2023, 5:36:24 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، ضم تركيا في اللحظة الأخيرة إلى قائمة اللقاءات المزدحمة له، وهبط في أنقرة أمس في زيارة ليومين. وصل هناك بعد يوم من قيام رئيس تركيا أردوغان، بإعطاء تعليمات لإعادة السفير التركي من إسرائيل من أجل التشاور. وقد أرفق هذه التعليمات ببيان براق أعلن فيه أن “نتنياهو لا يمكن اعتباره شريكاً من الآن فصاعداً. لقد محونا اسمه”.
التفسيرات المفصلة أسمعها أمس أردوغان في لقاء في إقليم رضا على شاطئ البحر الأسود. “لن نترك إخواننا في غزة وحدهم. مسؤوليتنا تجاه التاريخ تلزمنا بالكشف عن جرائم الذين يؤيدون هذه المذبحة غير الأخلاقية، التي لا يمكن وصفها”، وأضاف: “تركيا تنوي تقديم جرائم إسرائيل لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي”.
لكن شهر العسل الدبلوماسي الذي استمر 15 شهراً لم ينته. قال أردوغان إن وزير الخارجية هاكان فيدان، ورئيس المخابرات إبراهيم كاليم، يجريان اتصالات مع الجهات الإسرائيلية. وبشكل عام، فإن قطع العلاقات الدبلوماسية غير موجود على الأجندة، لأنه يرى أن “هذا الأمر ليس قطعاً للعلاقات، خاصة العلاقات بين الدول”. اردوغان يقوم بالتدقيق، حيث إنه هو والبحرين أو بوليفيا، الذين أعادوا السفراء، لم يعلنوا عن قطع العلاقات مع إسرائيل. أيضاً المرات التي أعادت فيها مصر السفير من إسرائيل، في حرب لبنان الأولى وفي الانتفاضة الثانية، ظلت علاقات العمل مستمرة، بما في ذلك التعاون الأمني، كما أن التعاون الاستخباري والتجاري مع تركيا استمر في السنوات التي لم يكن فيها سفراء، وطبقة كثيفة من الجليد غطت على العلاقات بينهم.
لم يصل بلينكن إلى تركيا لتحسين العلاقات بين أردوغان ونتنياهو. يبدو أنه بعد اللقاء الذي أجراه بلينكن مع وزراء خارجية للدول العربية الخمس، السبت في عمان، بات ملزماً بتعزيز العلاقات مع أردوغان الذي أبعدته الولايات المتحدة عن العمل الدبلوماسي الكثيف. ولكنها فرصة لتسوية بعض القضايا غير المتعلقة بالحرب في غزة، مثل المصادقة على انضمام السويد لحلف الناتو، وصفقة شراء طائرات “اف 16” العالقة في أروقة الكونغرس.
موقف أردوغان من الفلسطينيين غير جديد. المساعدات والدعم وحرية العمل والحركة التي أعطاها لقادة حماس – بما في ذلك السماح بإقامة شركات اقتصادية جندت الأموال لحماس واستثماراتها، كانت دائماً في مركز الخلافات بين إسرائيل وتركيا. وبعد استئناف العلاقات الكاملة بين أنقرة و”القدس”، استمرت العلاقات الجيدة بين أردوغان بشكل شخصي وقادة الحركة، من بينهم إسماعيل هنية، وصالح العاروري الذي أقام في تركيا إلى أن طلب منه بشكل مهذب المغادرة هو وعدد من كبار قادة حماس.
عند اندلاع الحرب في غزة اقترحت تركيا التوسط في قضية إطلاق سراح المخطوفين، وأجرت اتصالات مع حماس وإسرائيل إلى جانب قطر، حليفتها. وزير الخارجية فيدان، الذي كان رئيس المخابرات، يقيم علاقات وثيقة مع رؤساء الموساد في إسرائيل. ويعتبر يوسي كوهين صديقاً شخصياً له. إبراهيم كالين، الذي كان المستشار المقرب من اردوغان وعُين رئيساً للمخابرات بدلاً من فيدان، أقام هو أيضاً ويقيم شبكة علاقات وثيقة مع رجال الاستخبارات في إسرائيل.
لكن، حسب مصادر إسرائيلية، عندما تم فحص إمكانية انضمام تركيا لجهود الوساطة تبين أن حماس التي تضررت من تغير معاملة الرئيس التركي لها، فضلت وساطة قطر ومصر على وساطة تركيا. مصدر في تركيا قال للصحيفة إنه “لم يكن لتركيا الكثير مما تعرضه حتى بعد أن تحدث اردوغان وفيدان مع هنية بشكل شخصي، وحاولا استيضاح شروط حماس لإطلاق سراح المخطوفين. أدركت تركيا بأنه بدون مقابل حقيقي مثل وقف إطلاق النار وضمان حياة رجال حماس وإدخال الوقود إلى القطاع وهي الطلبات التي ترفضها إسرائيل بشدة، فليس هناك ما يمكن النقاش فيه”.
لكن تركيا لا تعتبر نفسها وسيطة محتملة فقط أو كمن “دورها التاريخي هو الوقوف إلى جانب الأخوة في غزة”، بل تعتبر نفسها دولة إقليمية عظمى، تقتضي منها مكانتها أن تكون مشاركة في أي نزاع في منطقة الشرق الأوسط أو في القوقاز، الذي تنتمي بعض دوله لـ “اتحاد الشعوب التركية”، التي تريد تركيا أن تنشر رعايتها التاريخية عليها.
رؤية تركيا العالمية تأتي مع خارطة جيوسياسية صممتها وهي تجتهد لتحقيقها، وترى أنها الدولة التي يجب أن توزع الأوراق. وهذا ما حصل في النزاع بين أذربيجان وأرمينيا في موضوع ناغورنو قره باغ، وفي سوريا التي احتلت فيها تركيا مناطق في الشمال، وفي ليبيا أيضاً التي هي وقطر أدارتا معركة عسكرية ضد الانفصاليين بقيادة خليفة حفتر، وإلى جانب الحكومة المعترف بها.
في هذه العملية حققت تركيا مكاسب اقتصادية هامة، عندما وقعت الدولتان على اتفاق ترسيم الحدود البحرية، الذي دق إسفيناً بين مصر وأوروبا وهدد بإزعاج تسويق الغاز من مصر وإسرائيل إلى أوروبا. وفي الساحة الدولية، أصبحت تركيا أحد اللاعبين الرئيسيين في الحرب في أوكرانيا، وتطالب بتغيير بنية مجلس الأمن بحيث تتخلص من يد الدول الخمس الكبرى التي تحتفظ بحق الفيتو، وهي تحتفظ بمفتاح توسيع الناتو (أردوغان صادق في الحقيقة على انضمام السويد للناتو، لكنه يعيق الآن مصادقة البرلمان التركي على الخطوة).
في الحرب في غزة أيضاً تركيا بدأت في بلورة رؤية لـ “اليوم التالي” ومكانتها ودورها فيه. بعد أسبوعين على اندلاع الحرب، عرض وزير الخارجية فيدان خطة سياسية تستند في أساسها إلى حل الدولتين، ويتم في إطارها وضع قوة متعددة الجنسيات في غزة بحيث تقوم عدة دول بدور الدول الضامنة لتطبيق شروط الاتفاق السياسي. حسب هذه “الوصفة”، ستكون تركيا إحدى الدول الضامنة للطرف الفلسطيني، وتكون دول أخرى ضامنة للطرف الإسرائيلي. لم يبين فيدان هوية الدول الأخرى، لكنه قصد الولايات المتحدة بالأساس.
لا جدوى من التحدث عن إمكانية تحقق فكرة تركيا، بالأحرى تطبيقها، في فترة ليس فيها حتى أي تفاهمات على “هدن إنسانية”. ولكن مجرد طرح هذه الفكرة في هذا التوقيت، يدل بقدر كبير على طموح تركيا ورؤيتها لمكانتها في أنها مساوية للولايات المتحدة. ولكن ليس الحلم وحده هو الذي يوجه تركيا؛ فهي تقرأ الخارطة الإقليمية جيداً وتضع إلى جانبها الدول العربية الرائدة، حليفاتها الجديدة مثل السعودية ومصر والإمارات، التي تبلور جبهة أمام السياسة الأمريكية التي تؤيد حتى الآن بدون قيود إسرائيل. هذه الكتلة، كما تقدر تركيا بشكل واقعي، قد تكون الدول التي ستملي قواعد اللعب الأمريكية، وهي نفسها تريد أن تكون هناك.
تركيا، التي كانت أول الدول التي أرسلت المساعدات في الطائرات التي هبطت في مطار العريش، تعهدت أمس باستيعاب ألف فلسطيني من مرضى السرطان الذين سيخرجون من غزة ويصلون إلى الأراضي المصرية (من غير الواضح كيف حتى الآن). تقول وسائل الإعلام التركية إن زيارة بلينكن لتركيا ستتناول مسألة اليوم التالي للحرب، من خلال الاعتراف بقدرة تركيا على أن تكون شريكة فيه. اردوغان نفسه سارع أول أمس إلى القول إن “غزة يجب أن تكون جزءاً من الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية”. هكذا يضع اردوغان نفسه على الخارطة حتى لو لم يكن للولايات المتحدة نفسها، ليس فقط لإسرائيل، أي فكرة حتى الآن عن كيف سيكون اليوم التالي وإلى أين يمكن السعي.

كلمات دليلية
التعليقات (0)