حازم حسني : عن مأساة الحلاج وبساتين الاستبداد

profile
  • clock 13 يونيو 2021, 3:50:33 ص
  • eye 667
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

برغم تصدره لعنوان هذه الرسالة فإن الحلاج ليس موضوعها، وإنما هو فقط من أوحى لى بكتابتها مستحضراً أزمات وجودية أخرى تعانى منها مصر، وأبرزها أزمة العقل، وأزمة الضمير، وأزمة الإرادة الحرة للإنسان، وجميعها أزمات وثيقة الصلة بأزمة الحلاج، كما هى وثيقة الصلة بالأزمة التى تعانى منها الصوفية بعد أن فقدت هويتها وانفصلت عن جذورها الفلسفية التى نبتت منها، وإن كان لهذه الأزمة الأخيرة حديث يخصها لا أريده أن يفسد علينا مقاصد هذه الرسالة التى تبحث عن بذور النبت فى بساتين الاستبداد.

بدايةً دعونا نتواضع إلى الله ونقر بأن دفاعنا عن الحلاج لن يبرئه أمام ربه إن كان مذنباً، ولا هجوم هذا الفريق أو ذاك عليه سيدينه أمام خالقه إن كان بريئاً؛ فالإنسان أضعف – وأخشى أن أقول إنه أتفه - من أن ينصب نفسه أمين سر لمحكمة الآخرة! … لا أحد فينا له أى حق فى ادعاء علمه بمكانة هذا أو ذاك عند ربه، وكلنا أقل كثيراً من أن ندعى امتلاك مفاتيح أبواب الجنة لنعد بها من يوافقنا الرؤية والمعتقد، أو مفاتيح أبواب الجحيم ليبتز بها بعضنا بعضاً؛ فمثل هذا الادعاء أو ذاك إنما يضاهى ما ادعته الكنيسة الأوروبية فى القرون الوسطى من أحقيتها فى محاكمة الضمائر، ومن أنها الوكيل الرسمى للسماء فى منح "صكوك الغفران"!

معتقدات بعضنا ليست حجة على غيرهم من أصحاب العقائد المغايرة، فقد يكون لهذه العقيدة أو تلك حظها من الحق، وقد يكون بها  ما يجعل لها نصيباً من الباطل، والله وحده هو من يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الدين، فلا أحد منا يعرف إن كان على الحق أو على الباطل، وإن كان الكل يرتاح لما اختاره من الدين الذى يرى فيه الحق وإلا ما كان قد ارتبط به، لكن اختياره هذا يبقى تعبيراً عن حق نسبى يختلف من صاحب عقيدة لصاحب عقيدة مغايرة.

من حق كل إنسان إذن أن يرفض ما قال به الحلاج، لكن ليس له الحق فى أن يدينه أو أن يتهمه فى علاقته بربه، فالحكمة القرآنية تقول : “كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً"، وهى حكمة تستدعى دراسة فلسفية معمقة ليس هنا مجال تقديمها … لم يقل القرآن "كفى بجارك اليوم عليك حسيباً"، ولا هو قال "كفى بفقيهك اليوم عليك حسيباً"، ولا "كفى بمرشدك اليوم عليك حسيباً"؛ وهو ما قد يفسر قول الحلاج: “ما لى وللناس كم يلحُوننى سَفَهاً .. دينى لنفسى ودينُ الناسِ للناسِ" … يوافقه فى هذا القول من يوافقه، ويرفضه من يرفضه، لكنه مجرد مدعٍ من يتصور أنه يملك بجانب حق الرفض حق الإدانة، أو يتصور أن عليه بجانب واجب الفهم واجب الحكم على صاحب القول، ناهينا عن الاعتقاد بضرورة قتله!

قد يرى فريق من الناس أن الحلاج كان صاحب فكر منحرف وشاذ ومنفلت، يسحر الناس بحلو كلامه، ويدس لهم فى حلو الكلام سموم الكفر والزندقة؛ وقد يكون أصحاب هذه الرؤية على حق وقد يكونوا عكس ذلك، لكنها – بالمناسبة - نفس التهمة التى ووجه بها القرآن فى بدايات الرسالة المحمدية، وووجهت بها تعاليم المسيح عليه السلام فى بداية دعوته … بل قد يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن الحلاج كان ممسوساً يؤاخى الشياطين، وهى نفس التهمة التى ووجه بها المسيح عليه السلام، كما كانت نفس التهمة التى وجهتها الكنيسة الأوروبية فى العصور الوسطى لكل المختلفين معها من أصحاب الفكر المستقل الذى لا يلتزم بتعاليم البابا فى روما، فكانت تُحرَق كتاباتهم، فضلاً عن إحراق أجسادهم وأصحابها أحياء!

حين خرج جاليليو بنظريته عن كوكب الأرض اتهمته الكنيسة وقتها بالهرطقة، وبالخروج عن "صحيح الدين المسيحى"، وكادت تحكم بحرق الرجل حياً لولا أن اشترى الرجل نفسه بتراجعه عن نظريته، وباعتذاره للكنيسة التى عادت بعد قرون من موته، وأمام حركة تطور الفكر العلمى الكاسحة، لتعتذر له حتى يمكنها الاحتفاظ ببعض سلطانها الآخذ فى الأفول!

قريباً منا فى الزمان وفى المكان كان أحد الشيوخ يجلس مع أصحابه فى بيت أحدهم يتدارسون أفكارهم الشيعية، فتم سحلهم جميعاً بحجة أنهم أصحاب أفكار دينية شاذة ومنحرفة لا تتفق مع "صحيح الدين الإسلامى"، ففاضت أرواحهم تحت سمع وبصر وبتحريض من آلة الحكم التى كانت تحكم مصر وقتها بالمادة 219 على مذهب "أهل السنة والجماعة"، واسألوا عن هذا التحريض اجتماع الصالة المغطاة … الغريب هو أن الذين ارتكبوا هذا الجرم المشهود، أو هم هللوا له كما يهللون لما أصاب الحلاج، هم أنفسهم أول من تباكوا بعد ذلك على إجهاض ما أسموه أول تجربة ديمقراطية! وكأن الديمقراطية تقوم فى مجتمعات "القطيع" التى يتماثل كل أفرادها فى أفكارهم واختياراتهم وسلوكياتهم وإلا حكم عليهم المجتمع "الديمقراطى" بأنهم أصحاب فكر شاذ ومنفلت يستحقون عليه تجرع السم كما تجرعه سقراط!

هل رأيتم كيف تداعت الأفكار، وكيف أن المأساة ليست مأساة الحلاج وحده، ولا هى كانت مأساة سقراط قبل ذلك بقرون؟! … المأساة فى حقيقتها هى مأساة الإنسان الحر الذى يسعى لأن يكون نفسه: يقبله من يقبله ويرفضه من يرفضه، ويسعى لفهمه من يروم الفهم، ويعتزله من لا يرغب فى إرهاق عقله بالتفكير، ولا فى إنهاك ضميره بمراجعة ما كان قد استقر على أنه الفطرة، ولا هو يقدر على تحمل مسؤولية الاحتكام لإرادته الحرة عند التعامل مع الأفكار والمعارف والرؤى ومعطيات الواقع المعاش!

المأساة الحقيقية ليست فى أن المحكمة التى حاكمت الحلاج على أفكاره قد أدانته، وإنما المأساة هى فى انعقاد المحكمة أصلاً … المأساة كانت فى مبدأ أن يحاكَم الحلاج على أفكاره حتى وإن كانت قد برأته المحكمة! … تخيلوا ماذا كان سيحدث للرسالة المحمدية لو أن قريشاً كانت قد حاكمت صاحب الرسالة على أفكاره التى كانت ترى فيها قريش شذوذاً وانفلاتاً لا يتفقان مع صحيح دينها!! وتذكروا ماذا حدث للمسيح حين حوكم على تعاليمه التى لم توافق معتقدات ولا أهواء من حاكموه!!

المأساة الحقيقية هى فى بذور الاستبداد التى تبذرها المجتمعات فى حدائقها ثم تشكو أن البساتين لم تنبت حرية بل أنبتت استبداداً! ... وكأن هناك من يتصور أن تنميط البشر دينياً منفصل عن تنميطهم سياسياً، أو أن استبداد السلطان السياسى لا علاقة له باستبداد السلطان الدينى أو السلطان المجتمعى!

الاستبداد هو الاستبداد، وهو – أياً كانت صورته - إنما يبدأ من اعتقاد لدى القوى – كان هذا القوى فرداً أو جماعة أو أغلبية مجتمعية – بأنه يملك الحقيقة المطلقة، أو هو يبدأ من اعتقاد هذا القوى بأن الحق هو ما تقول به القوة! … هذا – بكل أسف – هو قانون روما الذى يتوارثه أصحاب السلطان جيلاً من بعد جيل، أو ربما هو قانون قديم تأسس قبل وجود روما بأزمان وأزمان: قانون “الويل للمغلوب"!

نصيحة لمن يوافقون على محاكمة الأفكار وإدانتها إن هى تعارضت مع ما يؤمنون به من أفكار، أو إن هى تعارضت مع مصالحهم الدنيوية فى السيطرة على عقول وضمائر الناس، بل ويقرون بالحق فى إعدام صاحب الفكر المخالف بحجة أنه شذوذ عن الحق (حتى وإن كان بالفعل شذوذاً عن الحق!): لا تتباكوا على أى حرية ضاعت، ولا على أى تجربة تروجون لكونها كانت ديمقراطية؛ فالحرية إما أن تكون للجميع أو لا تكون، وحكم الأغلبية لا يسمى بالحكم الديمقراطى إذا لم يكن المجتمع تعددياً لا وصاية فيه لأصحاب فكر على أصحاب فكر آخر، ولا مكان فيه لمواد دستورية على شاكلة المادة 219، وفى هذا حديث يطول، لا هو مكانه هنا ولا هو أوانه.

لا تستدعوا بدايات الاستبداد ظناً منكم أنكم أصحاب الحقيقة المطلقة، فكل الحقائق تبقى نسبية عدا حقيقة واحدة هى الله سبحانه وتعالى الذى لا نعرف "ما هو" حتى وإن عرفنا "من هو"، وأرجو ألا يستغلق فهم هذا التعبير الأخير على إدراك أصحاب التعليقات الساخنة من هواة ابتزاز أصحاب الآراء المخالفة باستدعاء أسماء أو أقوال هذا الفقيه أو ذاك، ممن لهم الحق فى أن نحترم جهدهم الفكرى، لكن رؤاهم وأفكارهم تبقى رؤى وأفكار نسبية تخطئ وتصيب ككل أفكار البشر فى كل زمان ومكان!

لا تبذروا بذور الاستبداد، وتتبنوا مبدأ قتل المختلف عنكم فكرياً، ثم تتباكوا على حريتكم إن هى أضاعها الاستبداد الذى بذرتم بذرته الأولى! … مرة أخرى، الاستبداد هو الاستبداد، كان استبداد الفوهرر فى ألمانيا النازية، أو استبداد الدوتشى فى إيطاليا الفاشية، أو استبداد القيصر فى روما، أو استبداد الخليفة فى بغداد أو فى اسطنبول … الاستبداد واحد، ولا يسقط عنه هذه الصفة اعتقاد أصحابه أنهم على الحق، وأن فرقتهم هى الفرقة الناجية!

التعليقات (0)