خلافات القضاة والمحامين في مصر... أزمة أعمق من نزاع عابر

profile
  • clock 4 فبراير 2023, 6:34:04 ص
  • eye 592
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

على غير عادته حين يقطع الدرجات العشرين لسلم دار القضاء العالي، وسط القاهرة، قفزاً، صعد أسامة درج المحكمة متثاقلاً هذه المرة، فهو يعرف اسم القاضي الذي سيقف أمامه، والذي سيرمقه ككل مرة، كما يستشعر في قرارة نفسه، بنظرات لا يجزم بتفسيرها: هل هي انتقام؟ أم كراهية؟ أم ازدراء؟

وتصاعدت حدة التجاذبات مؤخراً بين جناحي العدالة في مصر، القضاء الجالس ممثلاً في القضاة ووكلاء النيابة، والواقف ممثلاً في المحامين، وهي تجاذبات بلغت حدتها حد قيام المحامين باحتجاجات واسعة قبل أسبوعين، وزحف الآلاف منهم إلى مرسى مطروح في أقصى الشمال الغربي للبلاد، للتضامن مع زملاء لهم سُجنوا إثر مشادات مع موظفي المحكمة. ونجح التصعيد في الإفراج عن المحامين المحبوسين، في سبيل تسوية الأزمة.

آلاف مثل أسامة يراودهم نفس شعوره حين يقفون أمام بعض القضاة. أحياناً يشك أسامة كثيراً في أن هذا الشعور وهمي، ونابع منه لا من القاضي، الذي كان خريجاً معه من كلية الحقوق في جامعة عين شمس، شرق القاهرة. تخرّجا معاً نهاية عقد ثمانينيات القرن الماضي. أسامة بتقدير امتياز ومن أوائل دفعته، والقاضي بتقدير جيد، ومع هذا كافح أسامة في سلم المحاماة متدرباً ثم محامياً، وتدرج في مختلف المحاكم وصولاً إلى النقض، فيما كانت بانتظار زميله، القاضي لاحقاً، وظيفة معاون للنيابة، ليتدرج في سلك القضاء وصولاً إلى منصبه الحالي.

سليمان: تدهور العلاقة يعود للمستوى العلمي والفني للطرفين

يقول أسامة، لـ"العربي الجديد": "حينما أقارن وضعينا اليوم مادياً وأدبياً، أجدني مثيراً للشفقة، رغم أنني كنت الأكثر بذلاً للجهد أيام الدراسة، وما زلت، ورغم شهرتي".

وتتعرض تعيينات القضاة في مصر لانتقادات واسعة، نظراً لشبهات تتعلق بتفضيل أبناء القضاة وأقاربهم، فضلاً عما يتردد عن وجود سماسرة للتعيينات مقابل رشى. وفي مواجهة تلك الانتقادات والادعاءات، تبرز تصريحات لقيادات قضائية تبرر الأمر بأنه من "المهم مراعاة المستوى الاجتماعي للمتقدمين للعمل في سلك القضاة".

وكان رئيس نادي القضاء سابقاً أحمد الزند قد قال إن "ابن الزبال (جامع القمامة) لا يجب أن يكون قاضياً"، وهو التصريح الذي جر عليه هجوماً عنيفاً، واستدعى ذكر مغردين لأصوله الاجتماعية المتواضعة.

أزمة جديدة في العريش

لم يكد المحامون يهنأون بانتصارهم في مرسى مطروح، حتى اندلعت أزمة جديدة في مكان يطل، مثل مرسى مطروح، على البحر المتوسط، ولكن في أقصى الشرق هذه المرة، العريش الملتهبة بعمليات العنف المسلح حتى وقت قريب.

وأعلنت نقابة محامي شمال سيناء الفرعية، في بيان الإثنين الماضي، أن المحامين "لن يحضروا نهائياً أمام تحقيقات النيابة العامة طوال فترة انعقادها بمحكمة الإسماعيلية، الأقرب للعريش جغرافياً، وهو الانعقاد المخالف لقرار وزير العدل بعودة العمل بمحكمة شمال سيناء ونياباتها، وذلك اعتباراً من يوم السبت 4 فبراير/ شباط الحالي"، نظراً لما يمثله هذا الامتناع من مضاعفة إرهاق المحامين وموكليهم في الانتقال من شمال سيناء إلى الإسماعيلية والعكس.

وأكدت واقعة العريش، التي جاءت بعد أيام من واقعة مرسى مطروح، أن الأزمة بين الجانبين أعمق من مجرد مشادات ومواقف متناثرة، رغم ما يبدو من هدوء على السطح يخفي توتراً مكبوتاً، ورغم تصريحات ودية متبادلة بين رموز المحامين والقضاة، كان أبرزها إشادة مؤسس محكمة النقض المستشار عبد العزيز فهمي بالمحاماة، واعتبار المحامين شركاء للقضاء في مرفق العدالة، واصفاً القاضي بأنه "متبع" والمحامي بـ"المبدع".

أزمة مطروح على سخونتها لم تكن الأبرز في الصراع بين جناحي العدالة، بل سبقتها معركة أخطر بينهما جرت في عام 2011 على وقع طرح مجلس القضاء الأعلى مشروع قانون لتعديل قانون السلطة القضائية في عام 2012، بالنص على أن "المحامين معاونون للقضاء"، بالمخالفة لمادة من قانون المحاماة، تعتبر أن المحامين شركاء للقضاء في إقامة العدالة.

وامتدت الخلافات حينذاك إلى تخصيص جزء من الغرامات والكفالات لصالح القضاة، وهو ما يغلق الباب أمام أحكام البراءة في ظل وجود مصلحة للقضاء في فرض الغرامات والكفالات، بشكل دفع نقابة المحامين، بقيادة سامح عاشور وقتها، لقيادة مواجهة مع القضاء عامة، ونادي القضاة بقيادة المستشار أحمد الزند حينذاك خاصة.

جمال عيد: يشعر قطاع من المحامين بالغبن تجاه قضاة

وقتها أغلق المحامون المحاكم بالجنازير ومنعوا الموظفين من دخولها، بل وضربوا حصاراً حول نادي القضاة إلى أن انتهت الأزمة المفتعلة، بإعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم حينذاك، بعد عدة أيام من المواجهات الإعلامية، والتي دارت كذلك في ساحة المحاكم، بأن البرلمان المقبل هو المخول بإصدار قانون السلطة القضائية.

تاريخ من التقدير المتبادل

تجدد الخلافات والمواجهات الساخنة بين القضاة والمحامين كل حين، أعاد الحنين لسجل تاريخي حافل من التقدير المتبادل بين جناحي العدالة، بشكل طرح أسئلة حول ما جرى، وسبب كل تلك المناوشات؟

ويحتفظ التاريخ بتصريحات لمؤسس محكمة النقض المصرية المستشار عبد العزيز باشا فهمي، حيث أوضح في أول جلسة من جلسات محكمة النقض عام 1931 أن المحامين شركاء القضاة في إقامة العدالة بغير مجاملة، وأن على القضاة احترام وسماع حججهم وأسانيدهم القانونية، وكذلك احترام حق المتقاضين.

وأشار فهمي وقتها إلى أنه لا مكان لقاضٍ لا يحترم حق المحامي والمتقاضي في إقامة الدفوع، معتبراً أنه من العبث أن يحكم القاضي بقناعته، متجاهلاً حق الدفاع، ومؤكداً أن هذا الحق من أركان العدالة.

يعزو المستشار محمد أحمد سليمان، الرئيس بمحكمة سوهاج الابتدائية سابقاً، تدهور العلاقة بين القضاة والمحامين، من قمة الاحترام التاريخي المتبادل، إلى مثل تلك الوقائع المؤسفة، إلى عدة أسباب، منها المستوى العلمي والفني للطرفين، فالقاضي ذو الكفاءة والمستقل والمتمتع بالحيادية والنزاهة يفرض احترامه على الجميع، وكذلك الأمر يتعلق بالمحامي الذي يمتلك إمكانات علمية وفنية وأخلاقية، ليبقى محل تقدير واحترام الجميع، ويمنع حدوث أي سجال خارج السيطرة بين الطرفين.

وأوضح سليمان، أن واقعة إغلاق المحاكم بالجنازير عام 2011، وما تبعها من حصار لنادي القضاة، وما تلا ذلك من حصار لمحكمة في سوهاج بسبب قيام وكيل نيابة بحبس أمين شرطة، وصولاً إلى ما جرى في مرسى مطروح، يعود في الأساس إلى "عدم احترام القانون"، وعدم سريان أحكامه على الجميع، وما دام القانون "منتهكاً" ليلاً ونهاراً على قارعة الطريق، فـ"لا أمل في نهاية هذه الممارسات".

ولفت إلى أن وصول القاضي لمنصته دون التمتع بالكفاءة والكفاية، بسبب وجود مجاملات في اختيار أعضاء النيابة العامة لأسباب اجتماعية، قد تتوفر في خريج كلية الحقوق صاحب تقدير مقبول في حين يحرم منها الحاصلون على تقديرات مرتفعة، يصيب العدالة في مقتل، فالقاضي الذي وصل إلى منصبه دون التمتع بالإمكانات اللازمة يصاب بنوع من الشعور بازدراء العدالة، ليحكم علاقته بالمحامي نوع من الاستعلاء بالسلطة وحماية أجهزة الدولة.

وتابع: يرد المحامي بتصرفات غير لائقة، اعتقاداً منه بعدم تمتع القاضي بالكفاءة والحيادية والاستقلال، وأنه لولا المجاملات ما وصل إلى منصبه، بشكل يجعل العلاقة مشوهة بين الطرفين.

من جهته، حمل مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان جمال عيد الدولة مسؤولية العلاقة الشائكة بين القضاة والمحامين، عبر مجاملتها القضاة على حساب العدالة، فهم ـ ورغم أنهم فئة مهنية شأنهم شأن الأطباء والمهندسين ـ إلا أنهم ينظرون لأنفسهم باعتبارهم شريحة أعلى من الباقين بشكل يساعد على اختلال العدالة وغياب سيادة القانون.

ولفت عيد، في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن القضاة يستفيدون من الامتيازات الكبيرة التي يحصلون عليها، والدولة بدورها تستفيد من إغماض بعض القضاة أعينهم عن العدالة، والضحية هنا هي سيادة القانون، وهو أمر سجلته تقارير دولية، وضعت مصر في الترتيب رقم 135 من 140 دولة في غياب سيادة القانون، ما يعني أن شريحة من القضاة تستغل مجاملة الدولة لهم والنظرة الفوقية من قبلهم لجميع شرائح المجتمع ـ بمن فيهم المحامون ـ في إفساد مرفق العدالة والوقوف وراء توتر العلاقة.

محامٍ: هناك نوع من النظرة الاستعلائية من قبل القضاة تجاه المحامين

وألقى عيد باللائمة كذلك على غياب دور نقابة المحامين في حفظ كرامة أعضائها، ورفع مستواهم المالي والمهني، والمساهمة في صقلهم ومنعهم من ارتكاب تجاوزات وأخطاء قد تقف وراء حدوث مواجهات مع القضاة، يكون المحامون هم الطرف الأضعف فيها، كما جرى خلال الفترة الأخيرة.

وأشار إلى أن قطاعاً من المحامين يشعر بالغبن تجاه شريحة من القضاة، وصلوا إلى منصبهم، وهم محدودو الإمكانات، وعبر الصلات الشخصية، مثل أبناء القضاة، وشرائح أخرى وصلت إلى المنصة خلال السنوات الأخيرة.

واعتبر أنه في حين أغلقت الأبواب أمام محامين لاعتبارات اجتماعية، فقد فتحت أمام أهل الثقة بشكل يدمر العدالة، ويفتح الباب أمام تساؤلات، عن احترام القاضي للقانون، في حين أن وصوله إلى منصبه تم في بعض الأحيان بأساليب غير مشروعة قانوناً.

ولفت إلى أن تصريحات صدرت عن وزراء عدل مصريين، ومنهم محفوظ صابر وأحمد الزند، عن عدم أحقية ابن عامل النظافة مثلاً في الوصول للقضاء، بالإضافة إلى تصريحات للزند تكشف نوعاً من استعلاء القضاء على باقي أبناء الشعب، مسؤولة كذلك عن تسميم الأجواء بين القضاة والمحامين داخل قاعات المحاكم.

أدوار مشتركة

وأكد نائب سابق لرئيس محكمة النقض المصرية ومحام حالياً، رفض الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، أن هناك نوعاً من النظرة الاستعلائية شهدتها العقود الماضية من قبل القضاة تجاه المحامين، بسبب الامتيازات المادية الضخمة للقضاة، والتي تضاعف الهوة المالية بين الطرفين.

وأشار إلى ما عانى منه مرفق القضاء خلال السنوات الأخيرة، من غياب مفردات العدالة والكفاءة في تعيين بعض معاوني النيابة والقضاة، وكذلك إغلاق الباب كلياً أمام التحاق النابهين من رجال المحاماة بالقضاء، فيما جرت الاستعانة بضباط الشرطة بدلاً من المحامين، ما ساهم في توتر العلاقة بين الطرفين، وإحساس قطاع من المحامين بالغبن، خصوصاً تجاه شريحة من القضاة تفتقد الكفاءة والنزاهة والحيادية.

وشدد المحامي على ضرورة وجود دور أكثر فاعلية لنقابة المحامين في ضمان مستوى جودة أعضائها، بضوابط أعلى للالتحاق، لكي لا تتحول النقابة لمجرد بطاقة مهنية، يلتحق بها خريجون دون المستوى، مع وجود أكثر من 30 كلية حقوق يلتحق بها أصحاب الدرجات الدنيا بعد الثانوية العامة، دفعت لسوق العمل بنحو 300 ألف خريج، بينما كانت الحقوق من كليات القمة قديماً، وكثير من خريجيها تبوأوا مناصب عليا بالدولة، مطالباً باستعادة استقلال نقابة المحامين، والتأكيد على كرامة أعضائها.

عضو سابق بمجلس نقابة المحامين، رفض ذكر اسمه أيضاً، طرح وجهة نظر مغايرة للأزمة بين القضاة والمحامين. وأوضح أنها تعود لافتقاد قنوات التواصل بين الطرفين، وانعدام المصالح المشتركة، والتنافر الناتج عن اعتقاد المحامين أن باب القضاء قد أغلق أمام أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة منهم، حتى لو كانوا نابهين، فيما وصل بعض القضاة لمناصبهم عبر صلات القربى والعلاقات الشخصية، ما يشكل وقوداً للحقد لدى البعض تجاه القضاة.

يضاف إلى ذلك، بحسبه، ميزات هائلة، مادية وسلطوية، يتمتع بها القضاة بمصر، تمنحهم نفوذاً وحصانة وحماية بشكل لا تتوفر لقضاة بدول أخرى، سواء في العالم المتقدم أو النامي.

ودعا إلى لوقف هذه الاستثناءات، وإنهاء التمييز في التعيين في المناصب القضائية، وإزالة كل عوائق انضمام المحامين للسلك القضائي، مع ضرورة إحياء قنوات التواصل بين نادي القضاة ونقابة المحامين، بما يضمن وجود علاقات صحية بينهما.

 

التعليقات (0)