ديفيد هيرست يكتب: كيف تحول كليجدار أوغلو من “غاندي” تركيا إلى “القومي” المتشدد؟

profile
  • clock 25 مايو 2023, 2:12:31 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أثار أداء الرئيس رجب طيب أردوغان في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة التركية صدمةً كبيرة في صفوف المعارضة، لدرجة أنهم استغرقوا أربعة أيام للتعافي.

في تلك الأثناء وصلت المعارضة إلى درجةٍ من التخبُّط، أجبرت مرشحها الرئاسي على نشر فيديو ليُثبت أنه لا يزال في المنافسة، إذ صرخ في مقطع الفيديو وهو يضرب براحته على الطاولة قائلاً: "أنا هنا"، لكننا شهدنا ظهور مرشح مختلف كلياً مع استئناف حملته.

حيث اختفت النسخة التركية من "غاندي"، الذي كان يُصوّر رسائل حملته من المطبخ، واختفت أيضاً شخصية المفاوض الشامل الذي يسعى لتحقيق التوافق، والذي سيقود تركيا إلى عصر ما بعد الاستبداد، كما اختفت رموز القلب التعبيرية التي كانت ترافق منشوراته.

ظهر بذلك قومي متشدد يحاول شق طريقه نحو السلطة محمولاً على أكتاف الفصيل الأكثر ضعفاً في بلاده، وهم اللاجئون السوريون الذين يصل عددهم إلى 3.6 مليون شخص داخل تركيا، ولا يتوقف الأمر عند هؤلاء فحسب، بل يشمل كذلك "10 ملايين لاجئ آخرين"، الذين سيستقبلهم أردوغان في البلاد حال إعادة انتخابه كما يشير في خطاباته المهاجِمة لـ"أردوغان".

فقد أدلى مسؤول معارض بتصريح أكثر صراحةً من اللازم لموقع "Middle East Eye" البريطاني، عندما قال: "هذا خيار بسيط بين كليجدار أوغلو وأردوغان، وموضوعنا الرئيسي هو الخوف، حيث سنُذكِّر الناس بما سيبدو عليه شكل السنوات الخمس المقبلة في حال إعادة انتخابه".

بعد الإدلاء بذلك التصريح انتشرت اللوحات الدعائية للحملة الانتخابية في كل مكان وهي تحمل العبارة التالية: "سيرحل السوريون، القرار لك!".

لا شك أن قضية السوريين في تركيا ليست قضيةً صغيرة، حيث تستضيف تركيا أكثر عددٍ من اللاجئين في العالم، بإجمالي يصل إلى 3.6 مليون سوري، ونحو 320 ألفاً من "الأشخاص موضع الاهتمام" من جنسيات أخرى.

ففي وقتٍ تجتاح البلاد خلاله مشاعر قوية مناهضة للسوريين، وبعد صدمة الزلزال الهائل الذي دمر جنوب تركيا، من المؤكد أن مهمة أي رئيس مستقبلي ستتمثل في تخفيف حدة الخطاب، وليس تشديده، خاصةً إذا كان المرشح يتباهى بأوراق اعتماده الليبرالية.

رئيس حزب "النصر" المعارض في تركيا، أوميت أوزداغ وكليجدار أوغلو / تويتر
 

حملة قائمة على الخوف

عاد نحو 530 ألف سوري إلى بلادهم قادمين من تركيا بحلول أواخر العام الماضي، لكن الموقع البريطاني نشر تقريراً من إدلب يقول إنه لا يوجد مكان ليعودوا إليه، إذ لا يفرش بشار الأسد السجادة الحمراء من أجلهم بكل بساطة.

يبدو خطاب كليجدار أوغلو المناهض للسوريين أسوأ عند النظر إليه من إدلب، حيث إن أي سحب للقوات التركية أو تغيير في موقف أنقرة سيتسبب في تدافُع اللاجئين على الحدود، كما حدث في تلك المنطقة بشمالي العراق خلال عهد صدام.

فضلاً عن أن اتخاذ الرئيس الجديد لموقفٍ موالٍ للغرب سيزيد من تعقيد المحادثات مع الروس والإيرانيين والأسد، ويُمكن وصف توازن القوى في الشمال السوري بأنه يشبه حقل الألغام، الذي يمكن أن يُفجِّر الوضع من جديد، ويسفر عن تداعيات دولية، وبهذا سيكون "سمسار الشعبوية" ضعيف الاطلاع وصاحب الصوت المرتفع آخر شخصٍ تحتاج إليه كرئيس في وضع كهذا.

قد وعد أردوغان بإعادة السوريين أيضاً، لكنه امتنع بكل وضوح عن وضع جدولٍ زمني لتلك الخطوة، حيث قال: "الحقيقة المعروفة هي أن اللاجئين، وطالبي اللجوء، وغيرهم ممن أعدناهم إلى أراضيهم قد بدأوا الإقامة في منازل الطوب بشمال سوريا، لكن لدينا الآن خطة تستهدف إعادة مليون لاجئ، ومن المؤكد أن هذا الهدف سيتحقق بمرور الوقت".

فأيهما سأثق فيه أكثر عندما يتعلق الأمر بهذه القضية؟ هل سأثق في الرجل الذي يستغل الخوف كسلاحٍ لحملته، أم الرجل الذي يقول إن الإعادة القسرية ليست سلوكاً إسلامياً؟ إجابتي في هذه الحالة هي أنني سأثق في الرجل الإسلامي.

لا يمكن وصف حملة الخوف التي يشنها "كليجدار أوغلو" بأنها مجرد كلمات مرسلة، إذ يبدو أن لوم الضحايا على الكارثة التي تسببت في تشريدهم هي سمة من سمات المنطق القومي.

فقد أصدر مؤخراً مجلس مدينة "تكيرداغ" التركية، الذي يُسيطر عليه حزب الشعب الجمهوري، قراراً بطرد ضحايا الزلزال من فنادق "كومباغ"، ونحن نتحدث هنا عن ناجين أتراك من أسوأ المناطق المتضررة، مثل "كهرمان مرعش وهطاي"، وانتشرت الملصقات التي تطالبهم بأن يرحلوا بحلول يوم الأحد، الموافق 28 مايو 2023، لكن عملية الإخلاء تأجلت حتى الأول من يونيو 2023، وسط غضب الناجين، وألقى المجلس باللوم على الحكومة قائلاً إنه استنفد الأموال المخصصة بموجب ميزانية طوارئ الزلزال.

لكن قرار الإخلاء يأتي بدافعٍ محتملٍ آخر، وهو حقيقة أن المنطقة منحت أصواتها لحزب الحرية والعدالة الذي يقوده أردوغان، وبأغلبيةٍ ساحقة، ولا شك أن مثل هذه القرارات تُكذِّب فكرة "الشمولية" المزعومة لنسخة "كليجدار أوغلو" الأولى، لكن يكفي أن تلك النسخة حاولت إخفاء الأمر على الأقل، أما الحملة التي يقودها الآن فهي حملة لا تحاول إخفاء هذا القبح القومي من الأساس.

لكن كليجدار أوغلو قرر تحويل حملة ترشُّحه من قائد لتحالف ألوان قوس قزح إلى زعيم للحزب البغيض، ما سيكون له تداعيات على المعارضة نفسها.

أولاً: لم يعد في مقدور "كليجدار أوغلو" أن يصف نفسه بالليبرالي الذي يتبع أجندة التحوُّل الديمقراطي، من أجل إعادة السلطة إلى البرلمان وإعادة حقوق الإنسان إلى البلاد، إذ لم تعُد حملته قائمةً على حقوق الإنسان، بل صارت قائمةً على التصيُّد ولوم القطاعات الأضعف والأفقر.

ثانياً: يُمكن القول إنه يطارد هدفاً صعب المنال بمحاولته رفع نبرة خطاب القومية التركية في حملته، مع الإبقاء على تحالفه مع حزب الشعوب الديمقراطي، ومحاولة كسب المزيد من الأصوات الكردية في الوقت ذاته، ومن المؤكد أن هذا التناقض لن يمر على الأكراد مرور الكرام.

ثالثاً: لم يكن مشهد ضرب الطاولة بمعصمه مشهداً مقنعاً، ولا يليق هذا الأسلوب بموظف الخدمة المدنية الذي يعمل في المجال العام منذ عقدٍ على الأقل، ولا يصدقه أحد في تركيا عندما يلعب دور الرجل القوي.

إقبال كبير من الناخبين

ما الخطأ الذي حدث؟ وكيف يُساء لهذه الدرجة تقدير حجم التأثير الذي لا يزال أردوغان يحظى به بين الناخبين؟ ولماذا أخطأت استطلاعات الرأي في توقعاتها بالكامل؟

لماذا توقع فريق محترم من العلماء السياسيين ومنظمي استطلاعات الرأي قبل شهرين فقط أن 51.5% من الناخبين سيصوتون ضد أردوغان، بينما سيصوت 37.6% فقط لصالحه؟ إذ قال منظمو استطلاعات الرأي: "من شبه المستحيل أن يفوز أردوغان في الجولة الأولى؟".

قد صدّق "كليجدار أوغلو" تلك الأحكام المسبقة، كما فعلت غالبية وسائل الإعلام الغربية، فلماذا كانوا على درجةٍ كبيرة من الخطأ؟

هناك عدد من العوامل التي تلعب دوراً مهماً، حيث يمكنك أن تطلق على العملية الانتخابية ما تشاء لكن يبدو أن الإجماع الغربي حر ولكنه غير عادل، لكن حقيقة الأمر هي أن الأتراك أنفسهم يؤمنون بها بشدة. 

حصلت تركيا على ثاني أعلى نسبة إقبال على التصويت في العالم، ولم تكن الجولة الأولى لهذا الشهر استثناءً، مع تصويت ما يقرب من 90% ممن يحق لهم التصويت، فقارن هذا بالانتخابات المهمة في البلدان التي تصف أردوغان بالاستبداد، فستجد أن نسبة الإقبال في تركيا تفوق نظيراتها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. 

كما بلغت نسبة الإقبال في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، العام الماضي، والتي وقف فيها إيمانويل ماكرون ضد مارين لوبان، واعتُبِرَت وجودية بالنسبة لفرنسا، أقل بقليل من 72%، وانتُخِبَ ماكرون بنسبة 58.45% من الأصوات. 

تنتاقض الثقة التركية في نظامها مع الناخبين في ظل الأنظمة الاستبدادية الحقيقية، الذين يُظهِرون عدم ثقة في حكامهم من خلال مقاطعة الانتخابات، وحدث هذا في مصر في عام 2018، عندما حصل عبد الفتاح السيسي على 97% من مشاركة بلغت 41% فقط ممن يحق لهم التصويت، رغم جهود الجيش المصري لجذب أكبر عدد ممكن من المصريين إلى مراكز الاقتراع. 

حدث الشيء نفسه في تونس، حيث حصل "الديكتاتور" قيس سعيد على مشاركة بنسبة 11% فقط في كل من الجولتين لبرلمانه المزيف. 

إن عدم الاعتراف بقوة الديمقراطية في تركيا لأنها تؤدي إلى نتيجة خاطئة، بينما يُغَض الطرف عن الانتخابات الزائفة في مصر وتونس التي قاطعها الناخبون، أصبح شيئاً من اختصاص المفكرين الليبراليين الغربيين، لكن هذا هو أحد الأسباب التي تجعلهم يخطئون في فهم الشرق الأوسط مراراً وتكراراً.

تشكيل الأمة الحديثة

هناك أمثلة أخرى عندما سارت الدبابات على جسر البوسفور الشهير في إسطنبول، في 15 يوليو 2016، دعا أردوغان، الذي كان يقضي عطلة في جنوب تركيا، الجميع إلى الشوارع، فاستجابوا للنداء وسرعان ما أطلقوا المقاومة الوطنية للانقلاب، لماذا؟ لأن الأتراك من جميع الأطراف لا يريدون أن يؤخَذ صوتهم وحقهم في الاختيار منهم، فحظيت حالة الطوارئ ضد أتباع كولن، الذين اتهموا بالمؤامرة، بتأييد سياسي واسع. 

إذا كان هناك شخص قد بنى تركيا اليوم بالبنية التحتية الحديثة والمستشفيات والجامعات المزدهرة  فهو أردوغان، إنه يتفوق على الخصم في المقام الأول لأنه يُعتَبر اختيار الوطنيين. 

إذا كان هناك أي شخص مسؤولاً عن إخفاقات النظام الرئاسي الذي بناه وإخفاقات الاقتصاد الذي لا يستطيع إنشاء مؤسسات مستقلة أساسية، مثل بنك مركزي موثوق فهذا أيضاً هو إرث أردوغان. 

بالإيجابيات والسلبيات شكّل هذا الرجل الأمة الحديثة، المفارقة هي أن أردوغان مع دخوله الجولة الثانية والأخيرة من الانتخابات، ربما يكون الآن في موقف سياسي أقوى من أي وقت مضى منذ أن خسر التصويت في أكبر مدن تركيا: إسطنبول وأنقرة. 

بالفعل هناك دلائل على فشل استراتيجية حزب الظفر المتشدد وتودد كيليجدار أوغلو بنشاط إلى المرشح القومي سنان أوغان، الذي جاء في المركز الثالث في الجولة الأولى، وحقق مفاجأة بحصوله على 5.2% من الأصوات، ومع ذلك أعلن أوغان يوم الإثنين 22 مايو 2023 تأييده لأردوغان، دون أن يضطر الرئيس للذهاب إليه، ولم يقدم أي التزامات لسنان أوغان، الذي حصل على أصوات من أردوغان في معاقله، وبالتالي يجب أن يعود هذا التصويت إلى أردوغان. 

المرشح الرئاسي سنان أوغان مع الرئيس أردوغان / تويتر
 

السلطة الأخلاقية 

حصل أردوغان وتحالفه على البرلمان بالفعل، ومنحه سلطة معنوية للجولة الثانية، وهذا يترك الطريق مفتوحاً لولاية ثالثة كرئيس، إذا نجح المستشارون في إقناع أردوغان بفعل بالحكمة "وإذا كان الجانب الأيسر من دماغه"، على حد تعبير أحد المستشارين، يستمع إلى الجانب الأيمن فعليه تعيين نواب أقوياء له، ذوي مصداقية في كل من السياسة الخارجية والاقتصاد.

قد يؤدي هذا إلى حل مشكلتين: السياسة النقدية التي تبتلع المليارات من احتياطيات العملة الصعبة والذهب، وصوت السياسة الخارجية الذي يحتاج إلى المصداقية.

هذا لن يمنع وسائل الإعلام الغربية من الصياح بأن تركيا في طريقها إلى الديكتاتورية، لكن وجهة نظرهم أصبحت على نحو متزايد بعيدة عن الواقع، والحقيقة هي أن أردوغان هو الزعيم الأكثر نجاحاً واستقلالية في الشرق الأوسط، ولم يعد بإمكان الغرب إرسال الجيوش والزوارق الحربية لتغيير ذلك. 

إن دعم الرئيس الأمريكي جو بايدن المعلن للمعارضة التركية ليس فقط بلا معنى، بل ربما تكون له نتائج عكسية، في يومٍ ما قد يتعلَّم الرئيس الأمريكي من ذلك، ولن يكون ذلك في أي وقت قريب. 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)