د. أحمد خالد توفيق يكتب ..عن شجاعة الجهل

profile
  • clock 11 أبريل 2021, 3:14:27 ص
  • eye 925
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كنت متأخراً عن ذلك الموعد مع رجل لم أزره في بيته من قبل، وعندما أوقفت سيارتي في تلك المساحة الخالية خارج المدينة بدا لي منظر البيت جديرا بفيلم رعب.. فقط سوف يخرج من الداخل ذلك الرجل مشوه الوجه الذي يحمل منشاراً ترددياً يريد أن يقطع به أطرافي.. هذا ما ينقص المشهد. 

على كل وجدت باباً مفتوحاً يقود لما يمكن أن يكون مرآباً خالياً، فدخلت في ثقة وأنا أنادي الرجل.. هناك غرفة مفتوحة على اليسار دخلتها.. فوجئت بالرجل الذي جئت لزيارته جالساً خلف مكتب، وقد امتقع وجهه فصار بلون الورقة، وهو ينظر لي في ذهول نظرة أثارت رعبي.. وسأل بلهفة:

ـ "كيف دخلت؟" 

ـ "وجدت الباب مفتوحا و.." 

عاد يكرر في جنون: 

ـ "كيف دخلت؟" 

ثم أمسك بي بيد راجفة باردة واقتادني إلى مدخل الغرفة التي نحن فيها، هنا خيل لي أن أبواب الجحيم انفتحت. هناك كلبان أسودان عملاقان جديران بالأساطير الإغريقية، يبلغ ارتفاع الواحد منهما ارتفاع كتفي بلا مبالغة، وكانا يزأران ويعويان وينبحان واللعاب يتطاير من شدقيهما، والعيون تلتهب بضوء فوسفوري مخيف.. لكنهما كانا مدربين على عدم دخول هذه الغرفة لحسن الحظ. 

قال الرجل وهو يشير لهذين الوحشين: 

ـ "هذان كان يمكن أن يمزقاك! أنا نفسي أخشاهما ولا أضمن ألا ينقلبا علي! كيف دخلت بهذه الجرأة؟ ولماذا لم تقف على الباب لتناديني كي أدخلك؟" 

نظرت للكلبين وتذكرت كيف دخلت وحدي في شجاعة وثقة وخفة، وقلت بصوت مبحوح: 

ـ "هذه شجاعة الجهل!" 

هذا المشهد خالد في الأفلام العربية الكوميدية على كل حال. صديق البطل يلبس ثياب الغوريلا ليثير رعب حبيبة البطل.. هنا يحدث خلط وتظهر غوريلا حقيقية هاربة من حديقة الحيوان، لكن البطل لا يعرف.. يعتقد أن الغوريلا الحقيقية هي صاحبه المتنكر ويربت عليها ويحتضنها ويصارعها.. كل هذا نموذج على شجاعة الجهل. ثم تأتي لحظة الحقيقة عندما يرى صديقه يجري مذعوراً من بعيد.. عندها يقلب الموقف في ذهنه.. يبدأ في الفهم، في ذات اللحظة تكشر الغوريلا الحقيقية عن أنيابها وتنقض عليه.. لقد تخصص (فؤاد المهندس) رحمه الله في هذا المشهد. 

في رحلة ريفية رأيت مجموعة من أصدقائي يلعبون لعبة سخيفة: علقوا زجاجة مياه غازية فارغة من غصن شجرة وجعلوها تتأرجح كبندول الساعة، ثم راحوا يصوبون عليها بالبندقية من مسافة بعيدة نسبياً.. دنوت منهم وقررت أن أجرب.. ما هذه؟ بندقية؟ كيف تطلقون بها؟ ما المطلوب بالضبط؟ إصابة هذه الزجاجة؟ دعوني أجرب.. وضغطت الزناد بلا تفكير لتتناثر شظايا الزجاجة في كل اتجاه ويشهق أصدقائي ذهولا.. عرفت فيما بعد أنهم يحاولون منذ ساعة وأن ثلاثة منهم حاصلون على جوائز في الرماية لكنهم فشلوا! لو كنت أعرف كل هذا مسبقاً لفشلت حتما.  

شجاعة الجهل.. لولاها لما فعلنا أي شيء لأننا نتوقع الفشل منذ البداية.  

لهذا لم أندهش عندما قرأت عن ذلك الشاب الأمريكي الذي دخل قاعة المحاضرات متأخرا فوجد على لوح الكتابة معادلة غير محلولة. نسخها وافترض أن هذه هي واجبه المنزلي.. هكذا عاد لداره وسهر حتى أتم حل هذه المعادلة وقدمها لأستاذه في اليوم التالي.. أصيب الأستاذ بالذهول وطلب الفتى ليخبره بالحقيقة : هذه المعادلة لا حل لها أو هكذا اعتقد أساتذة الرياضيات عبر التاريخ، وقد كتبها الأستاذ على لوح الكتابة كنموذج للمعادلات مستحيلة الحل.. الطالب الذي لم يعرف هذه الحقيقة حلها غي ليلة واحدة!! 

لا أعرف مدى صحة هذه القصة، لكنني متأكد من قصة أخرى عن طالب أميركي عابث لاه، طلب منه أستاذه بحثاً في الفيزياء موضوعه (إمكانية أن تتمكن مجموعة إرهابية من صنع قنبلة ذرية).. هذا البحث كان فرصته الأخيرة قبل الطرد من الكلية نهائياً.. هكذا عمل الطالب بجد على هذا البحث وسهر كثيرا جدا.. في النهاية تمكن من تقديم البحث لقسم الفيزياء بعد أسبوعين، وكل همه ألا يرسب نهائيا ويطرد من الكلية. بعد يومين فوجئ بمن يزرونه من رجال CIA ورجال FBI ومهمتهم معرفة هل هناك جهات أجنبية قدمت له معلمومات بصدد هذا البحث.. لقد توصل الفتى بالفعل إلى طريقة عمل القنبلة الذرية! وبالطبع صودر البحث وإن سمحوا للفتى بأن يكتب كتاباً عن قصته هذه دون ذكر تفاصيل. هذا الخبر كان مشهوراً جداً في الثمانينات وكتبت عنه الصحف كلها. الفتى الذي كان يجاهد كي لا يرسب توصل إلى اللغز الذي تدفع أجهزة المخابرات في العالم كله الملايين كي تعرفه.  

العبرة الأخلاقية لهذا المقال؟ أنا أكره المقالات التي تكتب من أجل عبرة أخلاقية ما، لكنها على كل واضحة تماما هنا.. يجب أن نتحلى بشجاعة الجهل ولا نفكر في مدى صعوبة ما نحن بصدده، ولا بعدد من فشلوا قبلنا.. هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة للنجاح، أما لو حاصرتنا أشباح المخاوف قبل أن نبدأ فلسوف تخرج تلك الكلاب السوداء المفترسة لتمزقنا قبل أن نخطو خطوة واحدة.


د. أحمد خالد توفيق

التعليقات (0)