سليم صفي الدين يكتب: أيُّ لونٍ هي؟! "قصة قصيرة"

profile
سليم صفي الدين كاتب صحفي
  • clock 19 مايو 2021, 2:10:48 ص
  • eye 1399
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أقعد مرتبكًا على شيزلونج أرجواني اللون، في حجرةٍ كلها بيضاء، أمام طبيب أحمر الوجه، ذي شعر بني لامع. 

قلت: أي لونٍ هي؟ 

فقال: من؟ 

أجبت: هي! 

فقال: أنا طبيب نفسي، ولكي أعرف عمن تسأل يجب أن تتكلم!

فقلت له: سأحكي لك القصة.

 

في عامي الثالث عشر بدأت أرى الناس بالألوان! كان لكل شخص لون مستقلّ في عيني.. هذا أصفر، وهذا أبيض، وهذا أسود... إلى آخره.

 وقتها أصبت بالذهول، ولم أفهم ما الذي يحدث لي، ولم يكن باستطاعتي بحكم المرحلة العمرية أن أحكي ما أراه. أصبت بالهلع بعد يومٍ واحد من تلك الحالة. 

وكان واضحًا عليَّ أنني غير طبيعي، في صباح اليوم التالي، استيقظت من نوم مليء بالقلق والأحلام المليئة بالألوان، فكان اللون الأسود يطاردني في صورة شيطان، 

وفزعت أكثر من مرة، ولم أنم هادئًا سوى سويعات قليلة بعدما أسكنتني أمي حضنها الدافئ. 

خرجت مسرعا إلى البلكونة كي أرى الناس، فكانت الفاجعة، كل الناس في عيني ليسوا سوى صور هولوجرامية مشوشة الألوان؛

 فزعت أكثر، فقعدت على الأرض في مكاني أحتضن نفسي وأبكي بشدة، أنفاسي تتسارع وبداخلي صراع، والخوف يتملكني.

 جاءت أمي مسرعة نحوي، وأخرجت الهاتف وكلمت أبي الذي حضر مسرعًا، وقررا اصطحابي إلى طبيب صديق للعائلة. 

فعلت كل ما بوسعي كي لا أخرج، لكن دون جدوى. حملني أبي على صدرهِ وخرج بي مع أمي التي كانت تبكي، 

وأنا أنظر إليها متمنيًا حضنها فقط، فهي الأمان وخلاصة السكينة والسلام. الأمر كان أكبر من سني بكثير. 

عند وصولنا إلى العيادة، كان الطبيب في انتظارنا، فلم ننتظر الدور، دخلنا وحكت أمي ما حدث منذ ليلة البارحة. 

الطبيب نظر إليَّ واجتهد في محاولات يصطحبها رفض وعنف مني، للكشف عليًّ.

ثم قال الطبيب لأبي: لازم طبيب نفسي بسرعة، وده مش تخصصي، فمش هاقدر أقول لك أي تشخيص.

 حجز أبي مع طبيب شهير جدًّا، وكان الحجز بعد أربعة أيام، وهذا هو الحجز المبكر المستعجل! في تلك الفترة لم أبرح حضن أمي،

 ولا أرى غير تلك الألوان في منامي، ولا أرى الناس غير صور هولوجرامية مختلطة الألوان، مشوشة.

 انزويت تمامًا ولم أعد أكلم أحدًا، بل إنني لم أنطلق بكلمة واحدة حتى مع أمي، الذهول لم يَخْبُ لحظةً من وجهي الشاحب، 

تحولت إلى قطعة روبوت صغيرة، أتحرك بحساب ولسبب، ولا يظهر على وجهي أي تعبير من أي نوع!

 زرنا الطبيب أخيرًا، شخَّصَني بعد أربع جلسات متتالية بـ"التوحد" ونصح أبي بسرعة المتابعة مع مركز "الضيّ" فهو أحد أفضل المراكز في هذه المسألة.

 لم يتأخر أبي لحظة، فخرج من عنده وتواصل مع خدمة عملاء المركز عبر الهاتف، وحجز معهم، وذهبنا جميعًا إلى المركز كي أتلقى العلاج.

 من هنا بدأت قصة جديدة ومختلفة، فمنذ زيارتي للمركز، في اليوم الثاني تحديدًا، كنت أُمضي وقتًا مع الأطباء والمختصين والأطفال الذين يعانون نفس مرضي..

 بدأت أرى كل الأطفال المرضى باللون الأبيض، لكن ظل الباقي كما هو بنفس الصورة التي وضحتها.. بدأت أتفاعل مع الأطفال،

 وأتقرب منهم، وأبتعد تمامًا عن أي شخص آخر مهما كان. وعندما أعود إلى البيت أنزوى،

 ناظرًا إلى الساعة التي لا تمر عقاربها إلا بحمل ثقيل، حتى يأتي الصباح لأجد نفسي منطلقًا مع الأطفال.

 مر على هذه الحال شهران كاملان، تكلمت فيهما عددًا قليلاً جدًّا من الكلمات، لكنني نطقت على أي حال،

 ولعبت، وابتسمت، وتغيرت ملامح الوجوم في وجهي، بل إنها كانت تختفي تمامًا طوال فترة وجودي بالمركز. 

اتصلت الطبيبة المختصة والمتابعة لحالتي بوالديّ واستأذنتهما في الحضور السريع للضرورة، وبما أنني كنت وحيدًا، 

كان حب وعناية والديّ كلهما لي، فترك أبي شركته والتقته أمي سريعًا، وجاءا مسرعين بعد مكالمة الطبيبة بأقل من ساعة واحدة.

 قعدا في مكتب الطبيبة على كرسيين متقابلين، أبي يسار المكتب وأمي يمينه، وأنا أتوسطهما أمامه مباشرة. دخلت الطبيبة بعد العلم بحضورهما. ألقت التحية وقعدت. 

فتحت ملفًّا وقالت: مين شخَّص آدم بالتوحد؟ 

رد أبي سريعًا: الدكتور جورج الباز. 

دُهِشَت الطبيبة وتكلمت عنه بشكل جيد وأكدت أنه بعد متابعة حالتي أنني لست مريضا بالتوحد.

كنت أنظر إلى الأرض وهي تتكلم، لكني كنت أشعر بلونها يتغير، نظرت إليها فوجدت لونها يتغير إلى الوردي،

 فركزت معها بانتباه شديد.. كلما تكلمت انجلت عنها الصورة المعتادة رؤيتها في كل الناس،

 واللون الوري كأنه ينصب عليها من أعلى حجابها إلى أسفلها، وعندما تسكت، يصعد اختلاط الألوان على اللون الودري من أسفل إلى أعلى! 

وبينما والداي يقاطعانها بأسئلتهما، قلت أنا فجأة: اتكلمي! 

فنظر الثلاثة إليَّ بدهشة وذهول، ثم جثا أبي على ركبتيه تحت قدميّ وقال: عايز إيه؟ اتكلم ماتخافش! 

فقالت الطبيبة: لو سمحتم سيبوني معاه لوحدنا! 

كانت تلك هي المرة الأولى التي يغلق علىَّ باب مع أحد وحدنا ولا أشعر بالخوف، بل بالفضول! 

خرج والداي، وقعدت هي أمامي مكان أمي، وأنا انتقلت وحدي إلى مكان أبي. 

ابتسمت بأمل كبير وقالت بهدوء رطب، وصوت حنون: عايزني أقول إيه؟ 

وهنا تحول لونها بالكامل إلى الأزرق الوردي!

 تكلمت إليها، وللمرة الأولى تكلمت كثيرًا، قلت إنني أراها زرقاء اللون، فانتابتها دهشة لم تغادر كلامها ولا تعبيراتها الخلابة. 

وبعد كلام كثير قالت لي: عشان تقدر تعرف ألوان الناس، وينكشوفوا أمامك، لازم تكلمهم، وتقرب منهم، عشان بواطنهم تظهر لك في صورة لونهم الحقيقي. 

ابتسمتُ بخجل. وأمضينا وقتًا طويلاً نحاول تصنيف الألوان. قصصت عليها حلمي الذي ظهر فيه اللون الأسود كشيطان يطاردني. 

فقالت لي: كده عرفنا لونين، الأزرق الوردي يعني الأمل، والأسود يبقى الشر! 

صنفنا مجموعة ألوان أخرى، وأنهت حديثها معي قائلة: اعتمد على فطرتك وقوتك تصنيف الألوان، مش على كلامي.

 أخرجتني من الحجرة واستقبلت والديَّ. لم أعرف ما دار في تلك الجلسة، لكنهما خرجا فرحين جدًّا. 

أمضيت عدة أشهر أتحول من شخص انطوائي، إلى اجتماعي جدًّا، وواجهتني مشكلات كثيرة، فمرة كان عمي يقعد في حجرة الصالون مع والدي، 

وأنا أستمع إليهما. كان عمي يحكي لأبي عما ربحته الشركة في العام المالي المنصرم، بما أنه المدير المالي. تحول لونه إلى كحلي داكن، فقلت من دون سابق إنذار: كذاب! 

فنظر أبي إليًّ وعنفني، وأمرني بالانصراف من الغرفة. 

ومرة ثانية كنت مع أمي في نادي الزمالك، وكانت تتكلم مع صديقاتها، فوقفتُ فجأة وأخذت أشير إلى كل واحدة وأقول "منافقة.. صريحة.. كذابة..." 

ولم أكد أكملي تصنيفي بناء على الألوان الواضحة أمامي تمامًا كالشمس، حتى صرخت أمي في وجهي: آآآدم! 

سكت، واعتذرت إليهن وانصرفت.

في طريق العودة من النادي بسيارة أمي، قالت لي: موهبتك وقدرتك على كشف بواطن الناس منحة ليك، ممكن تخليك أفضل حد في الدنيا،

 ده لازم يفضل سر، ماحدش يعرفه، ولازم كمان مايكونش سبب في نفور الناس منك.. احتفظ ببواطن الناس يا آدم، بلاش تفضحهم.

 وقتها تبدلت حياتي تمامًا، وصرت أعرف الناس من ألوانهم وأحتفظ بمعرفتي لنفسي ولا أصرح بها لأحد. كثيرون في تلك الفترة تعجبوا مني لأنني قطعت علاقتي بهم دون سبب، 

وآخرون انبهروا من معرفتي بما يحبون، أستاذي في الجامعة كان شخصًا انتهازيًّا محبًّا للثراء، أحضرت له قطعة أثاث فخمة من شركة أبي كهدية، ولم أفعل شيئًا بعدها في مادته وحصلت على تقدير امتياز.


"أتممت عامي الخامس والعشرين منذ أيام قليلة، وقابلتها منذ شهر مضى..." 

قاطعني الطبيب سائلاً: دي اللي إنت عايز تعرف لونها؟ 

أجبت بتنهيدة تحمل كل معاني السؤال والشفقة: أيوة.. 

فقال: كمل، كمل! 

عندما قابلتها كانت تحيطها هالة من ضيّ، هو ليس نورًا، إنما ضي، ولا لون لها! لكن شيئًا كان يحملني إليها.. تعرفنا، 

وتكلمنا كثيرًا، كانت دائمًا تسألني عن سر نظراتي إليها، ولماذا أتمايل لأنظر إليها من زوايا مختلفة! كنت مثل المجنون! لم أخبرها عن قصة الألوان، ولم أعرف لها لونًا حتى الآن!

ضحك الطبيب بصوت عالٍ جدًّا، ثم قال: يا أخي قلقتني.. 

حركت رأسي يمينًا ويسارًا بسرعة بإيماءةِ تساؤل، فقال: إن دققت النظر فيها، ماذا سترى؟ 

فقلت: قد أرى ما خلفها! كأنها شفافة! 

ابتسم الطبيب ابتسامة عريضة وقال: إنت محتاج محل ورد، مش طبيب نفسي.. إنه لون الحب يا عزيزي!

 


التعليقات (0)