سهير الشربيني يكتب: لماذا تراجعت جاذبية العمل بالمصانع للأجيال الجديدة في آسيا؟

profile
  • clock 18 أغسطس 2023, 2:01:55 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

قبل عقدين من الزمان، كان مشهد العمل في آسيا شديد الاختلاف؛ حيث كان العثور على عمال شباب للعمل في المصانع، أمراً بسيطاً لا يحتاج جهداً كبيراً، ولا تواجهه أي عقبات، إلا أنه بمرور الوقت، تغيَّرت توجهات الأجيال الجديدة من الشباب؛ إذ لم يعد الشباب الآسيوي لديه الرغبة في العمل في المصانع؛ ما جعل الشركات والمصانع الآسيوية تواجه صعوبات في توظيف العمال الشباب والاحتفاظ بهم، وهو ما يُشكِّل تهديداً خطيراً للميزة التنافسية التي لطالما تمتعت بها المصانع في آسيا، والتي تتمثل في انخفاض تكاليف العمالة ووفرتها.

وبينما تحاول المصانع في آسيا أن توفر بيئة عمل أكثر إغراءً للشباب، في ظل مخاوف من تراجع الإنتاج، فإن ذلك يدق جرس إنذار لدى الشركات الغربية التي تعتمد على العمالة الرخيصة في تلك المنطقة، لإنتاج سلع استهلاكية بأسعار معقولة. ولعل ما يواجهه واقع العمالة في المصانع الآسيوية الرخيصة للغاية حالياً، يعد بمنزلة أحدث اختبار لنموذج التصنيع الآسيوي، الذي قدم على مدى العقود الثلاثة الماضية مجموعة واسعة من السلع المنتجة غير المكلفة للمستهلكين في جميع أنحاء العالم.

وتظل المصانع الآسيوية أمام خيارات رئيسية قد تساعدها على التغلب على أزمة نقص العمالة، مثل زيادة الأجور، واعتماد استراتيجيات مكلفة في بعض الأحيان للاحتفاظ بالعمال، من تحسين جودة حياة أولئك العمالة، والإيفاء بمتطلباتهم، وربما تسريع عمليات الأتمتة للاستعاضة بها عن العمالة الشابة، خاصةً في الوظائف الروتينية.

عوامل محركة

ثمة أسباب ودوافع رئيسية وراء عزوف كثير من الشباب الآسيوي عن العمل في المصانع، يمكن استعراضها فيما يأتي:

1– ارتفاع المستوى التعليمي للشباب: خلال العقد الأخير، أضحى الشباب الآسيوي أكثر تعليماً مما كان عليه آباؤهم، وهو ما فتح لهم فرص عمل واسعة أخرى بخلاف العمل في المصانع. وكذلك فإنه بدلاً من الاستقرار في وظائف دون مستوى تعليمهم، فإن الشباب الآسيوي أصبحوا أكثر اهتماماً برفع مستوى تعليمهم من خلال الدراسات العليا. ويدلل على ذلك، تقدم عدد قياسي بلغ 4.6 مليون صيني للدراسات العليا في العام الماضي. وبحسب وسائل الإعلام الحكومية الصينية، فإنه خلال شهر نوفمبر من عام 2022، كان هناك نحو 6 آلاف طلب مقدم لكل وظيفة في الخدمة المدنية، وهو ما يظهر حرصاً شديداً من قبل الشباب بتوظيف التعليم كسلم للصعود الاجتماعي، في ظل النظرة الدونية إلى العمل في المصانع التي تكونت لديهم.

2– اختلاف أنماط حياة وثقافة الشباب الآسيوي: تم بناء القدرة التنافسية لقطاع التصنيع الموجه للتصدير في آسيا، على مدى عدة عقود، على الاستثمار المدعوم من الدولة في الطاقة الإنتاجية وانخفاض تكاليف العمالة، غير أن الحفاظ على هذا الوضع الراهن يتعارض مع تطلعات جيل من الشباب الآسيوي الأفضل تعليماً والأكثر تطلعاً إلى حياة أكثر راحة.

وقد كشفت وسائل التواصل الاجتماعي عن أنماط حياة وثقافات بديلة للشباب الآسيوي. ولعل النمو الاقتصادي السريع في دول آسيوية كالصين في السنوات الأخيرة، مثَّل عاملاً إضافياً في تغيير نمط حياة وثقافة الشباب، ورفع تطلعاتهم، حتى أضحوا ينظرون إلى العمل في المصانع على أنه مجال غير جذاب على نحو متزايد.

3– تغير تفضيلات الشباب لطبيعة العمل: اختلفت تفضيلات الشباب الآسيوي للعمل في الوقت الحاضر عن ذي قبل؛ إذ يفضِّل قطاع كبير من الشباب الهندي العمل في قطاع الزراعة، والحياة الزراعية التي تدعمها برامج الرعاية الحكومية، عن العمل المؤقت في المدن، والعيش في مهاجع المصانع في المراكز الصناعية؛ ما دفع مديري المصانع في الهند إلى الشكوى من صعوبات استبقاء العمال الشباب بالمصانع.

وعلى الجانب الآخر، يكشف أبهيونداي جيندال Abhyuday Jindal العضو المنتدب لشركة Jindal Stainless الهندية المصنعة للفولاذ المقاوم للصدأ، أن معظم الشباب يبحثون في قطاع تكنولوجيا المعلومات عن وظائف مكتبية حتى عند تعيينهم في الوظائف الفنية.

4– التأثير الممتد للتحولات الديموغرافية: تلعب التحولات الديموغرافية دوراً كبيراً في عزوف الكثير من الشباب الآسيوي عن العمل في المصانع؛ حيث ينجب الشباب في آسيا أطفالاً أقل مما كان ينجبه آباؤهم، وفي سن متأخرة؛ ما يعني أنهم يتعرضون لضغوط أقل لكسب دخل ثابت في العشرينيات من العمر. فيما يوفر قطاع الخدمات المزدهر خيار العمل الأقل صعوبةً، كالعمل في المتاجر بمراكز التسوق، وكموظفي استقبال في الفنادق.

فيما تتعرض الصين لأزمة ديموغرافية عميقة؛ فبينما يتزايد معدل الشيخوخة في الدولة، فإن معدل البطالة بين الشباب في ازدياد بلغ نحو 21% في يونيو 2023؛ وذلك رغم ما تعانيه المصانع من نقص في الأيدي العاملة؛ ما دفع الشركات المتعددة الجنسيات إلى نقل الإنتاج من الصين إلى دول مثل ماليزيا وإندونيسيا وفيتنام والهند، رغم ما تعانيه المصانع في تلك الدول كذلك من عقبات أمام إقناع الشباب بالعمل معها.

5– انعكاسات كوفيد–19 على قطاع التصنيع: شكَّلت موجة كوفيد–19 التي انتشرت عبر المناطق الصناعية في فيتنام ضغوطاً شديدة على قطاع التصنيع في الدولة، التي تمثل أحد مراكز التصنيع الرئيسية في آسيا، وتُنتِج سلعاً لبعض أكبر العلامات التجارية الغربية في مجالات التكنولوجيا والملابس الرياضية. وقد حذرت تقارير في ذلك الوقت، حول تداعيات تفشي الجائحة، من حدوث تأخيرات في تسليم وتعطيل توريد كل شيء، بما في ذلك الهواتف المحمولة والسيارات والستائر.

وفي غضون ذلك، توالت الضغوط على العمال، خاصةً ممن يهاجرون هجرة داخلية أو يقدمون من الريف؛ إذ إنه مع تصاعد حالات كوفيد، تم فرض إغلاق شديد في المناطق الصناعية، ومنع الناس من مغادرة منازلهم حتى لشراء الطعام، فيما انتقل مئات الآلاف من العمال إلى المصانع من خلال ترتيب ضاغط؛ حيث ينام العمال ويعملون ويأكلون في مصانعهم، وهي الأزمة التي أبرزت هشاشة حياة العمال المهاجرين، والحاجة إلى حماية حكومية أفضل؛ نتيجةً لعملهم بوظائف منخفضة الرواتب، ومحفوفة بالمخاطر، ودفعت كثيراً من العمال بعد ذلك إلى ترك العمل بالمصانع، في ظل عدم شعورهم بالأمان والاستقرار من جراء العمل بها.

6– ارتفاع تكلفة العيش وانخفاض الرواتب: على خلفية سلسلة الأزمات الدائمة التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال السنوات القليلة الماضية، فإن الاقتصاد الآسيوي لم يَنْجُ من تبعاتها؛ حيث اتجهت ضغوط التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة لتُمارِس مزيداً من الضغوط على العمال الشباب الذين يتقاضون على الجانب الآخر أجوراً ضعيفة، وهو ما دفع الكثير من الشباب لترك العمل والبحث عن وظائف أخرى مجزية، استجابةً لضغوط المعيشة في ظل الأزمات الاقتصادية وتباطؤ النمو الاقتصادي التي شهدتها بلدانهم.

تداعيات واسعة

نتيجة للعوامل السالفة الذكر التي تدفع بقوة نحو عزوف الشباب الآسيوي عن العمل في المصانع، فإن لذلك التوجه الحالي، تداعيات واسعة، يمكن تناول أبرزها فيما يأتي:

1– عجز كبير في المصانع الصينية: بحسب مسح أجرته (CIIC Consulting) فإن أكثر من 80% من الشركات الصينية المصنعة، واجهت نقصاً في العمالة يتراوح من مئات إلى آلاف العمال في العام الماضي؛ أي ما يعادل 10% إلى 30% من القوة العاملة لديهم. وتتوقع وزارة التعليم الصينية عجزاً يقارب 30 مليون عامل تصنيع بحلول عام 2025، وهو العجز الذي سيكون له تأثير حاد على القوة البشرية لقطاع التصنيع.

2– ارتفاع معدلات البطالة: رغم حاجة المصانع الآسيوية إلى العمالة، فإنه في المقابل ترتفع معدلات البطالة في العديد من الدول الآسيوية، في ظل عدم رغبة الشباب في العمل في المصانع حتى إن كان البديل البقاء بلا عمل؛ ففي الصين، على سبيل المثال، يوجد ما يقرب من 18% من الصينيين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً عاطلون عن العمل؛ وذلك رغم نقص العمالة الواضح في الصين، وهو ما يدفع إلى القول بأن استمرار ذلك التوجه قد يدفع نحو مزيد من الارتفاع في معدلات البطالة في مراكز التصنيع الآسيوية الرئيسية في العالم.

3– تزايد أسعار المنتجات المختلفة: إذا استمر الواقع الحالي للتصنيع في آسيا، ما لم تستطع الشركات والمصانع جذب الشباب إلى العمل معها، فإن على المستهلكين في جميع أنحاء العالم إعداد أنفسهم لأسعار أعلى في كافة الصناعات من الملابس والالكترونيات إلى الألعاب والأثاث؛ إذ من شأن نقص العمالة الآسيوية أن تدفع الشركات المتعددة الجنسيات نحو المزيد من الأتمتة الموسعة مقابل العمالة، وهو ما يفرض تكاليف أعلى سيتم تحميلها على المستهلك برفع أسعار السلع المختلفة.

4– إحباط المصنعين من نقص العمالة وتراجع الإنتاج: يساهم نقص العمال الآسيويين ممن هم في سن العشرينيات والثلاثينيات من العمر في إحباط المصنعين في آسيا؛ إذ ربما يدفع ذلك النقص في العمالة إلى تراجع الإنتاج، وربما يتوقف المصنعون عن العمل ويضطرون إلى الإغلاق إذا لم يتحملوا تكاليف الأتمتة الكاملة، وهو ما يتسبب بدوره في خسارة العالم مراكز التصنيع الرئيسية والمهمة، التي توفر المنتجات بأسعار رخيصة.

5– كبح الطلب في أسواق التصدير الرئيسية: قد يزداد الأمر سوءاً في ظل ارتفاع التضخم وتكاليف الاقتراض، وهو ما قد يترتب عليه بالتبعية كبح الطلب في أسواق التصدير الرئيسية في مراكز التصنيع الآسيوية من ناحية، ومن ناحية أخرى خروج الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مجال التصنيع من تلك البلدان؛ فيخسر العالم مراكز التصنيع الآسيوية التي تقدم سلعاً لجميع دول العالم بأسعار معقولة.

خيارات رئيسية

هناك ثلاثة خيارات رئيسية أمام المصانع والشركات في آسيا، يمكن اللجوء إليها في الوقت الراهن في سبيل معالجة عدم التوافق في سوق العمل ونقص العمالة الشابة، وتتمثل فيما يأتي:

1– التضحية بهوامش الربح لصالح زيادة الأجور: يمكن أن تلجأ الشركات والمصانع الآسيوية إلى زيادة الأجور وتحسين بيئة العمل، عبر التضحية بهوامش الربح، كعامل جذب للعمالة الشابة في آسيا، وهو المسار الذي تتحرك فيه عدد من الدول الآسيوية فعلياً؛ ففي فيتنام – على سبيل المثال – زادت أجور المصانع لأكثر من الضعف منذ عام 2011، لتصل إلى 320 دولاراً في الشهر؛ أي ثلاثة أضعاف معدل الزيادة في الولايات المتحدة، وفقاً لبيانات منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة. وفي الصين كذلك، ارتفعت أجور المصانع بنسبة 122% من عام 2012 إلى عام 2021.

ولعل الدفع نحو مزيد من رفع الرواتب قد يسهم في جذب العديد من الشباب، واستبقاء من هم يعملون بالفعل. وعلى الجانب الآخر، يحاول أصحاب المصانع الآسيوية حالياً جعل الوظائف أكثر جاذبية، بما في ذلك دعم رياض الأطفال، وتمويل برامج التدريب الفني، فيما يقوم البعض بنقل المصانع إلى المناطق الريفية؛ حيث يكون الناس أكثر استعداداً للقيام بالأعمال اليدوية، لكن هذا يضعهم بعيداً عن الموانئ والموردين، ويجبرهم على استيعاب الحياة الريفية، بما في ذلك غياب العمال أثناء الحصاد.

2– الاستثمار الموسع في الأتمتة: تتجه مراكز التصنيع الآسيوية إلى مزيد من الأتمتة، للاستعاضة بها عن العمالة في الوظائف الروتينية، ويبقى ذلك حلاً براقاً أمام صانعي السياسات في المنطقة؛ حيث يشدد صناع السياسة الصينيون على الأتمتة والتحديث الصناعي باعتبارهما حلاً لمعضلة القوة العاملة المسنة. وربما تحمل الفترة المقبلة توسعاً كبيراً في الاستثمارات في سبيل تحقيق الأتمتة الكاملة في المصانع، بيد أن ذلك الخيار يظل مكلفاً للغاية، ويضع الكثير من العراقيل التمويلية أمام تحقيقه.

3– خروج الاستثمارات الأجنبية من مراكز التصنيع الرئيسية: ربما تلجأ المزيد من المصانع والشركات الأجنبية في بعض مركز التصنيع الرئيسية في آسيا، على غرار الصين، في ظل نقص العمالة إلى البحث عن مراكز تصنيع آسيوية أخرى، تواجه صعوبات أقل أمام استبقاء العمال الشباب، وتكون بها الإنتاجية أرخص كفيتنام أو الهند. وهو ما قد يدفع نحو خسارة الصين مكانتها بصفتها واحداً من أهم مراكز التصنيع الآسيوية.

وإجمالاً، يعي رؤساء المصانع الآسيوية أن استبدال دماء الشباب مكانَ القوى العاملة المسنة، يحتاج في المقابل إلى تقديم أجور أعلى، وظروف عمل أفضل، وهو ما ينظرون إليه على أنه تقويض لميزتهم التنافسية الممثلة في العمالة الرخيصة. فيما يرى مصنعون أصغر أن الاستثمارات الكبيرة في تكنولوجيا الأتمتة إما أن تكون باهظة التكلفة أو غير حكيمة، كما تفرض عقبات تمويلية كبرى، لكن تظل الأزمة إذا لم يتم معالجتها تشكل تهديداً خطيراً لمكانة آسيا بصفتها مركز تصنيع عالمياً ذا ميزات تنافسية كبيرة، وهو ما يفرض على المصانع في آسيا حتمية تقديم تنازلات لجعل بيئة العمل في المصنع أكثر جاذبية للشباب. ويتجه محللون في هذا الصدد إلى القول بأن قوى السوق قد تجبر الشباب والمصنعين على السواء على الحد من تطلعاتهم، والالتقاء في منطقة وسط ترضي الطرفين.

كلمات دليلية
التعليقات (0)