صادق الطائي يكتب: أسطورة حكاية (تن مين) والرز العراقي

profile
  • clock 7 أغسطس 2023, 6:36:03 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

العراقيون هم الوحيدون الذين يطلقون على الرز اسم (تمن)، وهي كلمة غير عربية، وقد اختلف المتكلمون في أصل الكلمة، حتى ظهرت أسطورة فيسبوكية بقيت تدور في صفحات العالم الأزرق، وكلما تم تفنيدها في مكان، ظهرت في مكان آخر في محيطات الشبكة العنكبوتية المتلاطمة.
القصة، أو الأسطورة الفيسبوكية تقول؛ إن العراق هو البلد الوحيد الذي يطلق شعبه تسمية (تمن) على الرز، والسبب يعود إلى أيام الحرب العالمية الأولى عندما رفض أهل البصرة الوطنيون أن يمولوا قطعات الجيش البريطاني في البصرة بكميات من الرز تكفي لسد حاجة الجنود، عندها كتبت قيادة الجيش البريطاني في العراق إلى وزارة الدفاع في المملكة المتحدة أن يزودوهم بالرز، وفعلا تم إرسال كميات كبيرة من الرز الفاخر من نوع بسمتي معبأ في أكياس من الجنفاص يتوسطها خط أحمر مرسوم عليه شكل كارتوني لعشرة رجال يمسك أحدهم بيد الآخر وكتب تحت الرسم ماركة الرز( Ten Men ). وكان الجندي البريطاني يقول للحمال العراقي عندما يأمره بتفريغ الحمولة من الباخرة (Come on bring Ten Men)، وكانت لغة الجندي البريطاني مدمجة فتقع في أذن العراقي (تم من) فظن العراقيون أن هذه الكلمة معناها رز، ومنذ ذلك اليوم وجميع العراقيين أصبحوا يطلقون اسم (تمن) على الرز! هكذا ببساطة ومن دون حتى تمحيص بسيط في المعلومة، تطلق الأسطورة لتلف وتدور، والكارثة أني قرأتها وقد تبناها أستاذ جامعي هنا، وصحافي هناك، وهما يتبجحان بمعرفتهما أمام جمهورهما.
من المعروف أن المعلومة الخاطئة تنتشر وتشيع لأسباب مختلفة، منها طرافة القصة أو غرابتها، ومنها استسهال المعلومة والكسل في بذل جهد بسيط للتأكد من مصداقية ما نقرأ، وربما هناك أسباب أخرى، وأن طريقة إيجاد مفردة بلغة أجنبية، خاصة الإنكليزية، وليِّها لتطابق المفردة العربية شاعت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وشيوع هذه الفذلكات التي قد تعد أحيانا طريفة، فسمعنا بأسطورة (إيست تي كان) عن أصل تسمية قدح الشاي الصغير (الاستكان)، و(تو وي ريج) عن أصل اسم مدينة طويريج، وغيرها من الأساطير الفيسبوكية.

من المعروف أن المعلومة الخاطئة تنتشر وتشيع لأسباب مختلفة، منها طرافة القصة أو غرابتها، ومنها استسهال المعلومة والكسل في بذل جهد بسيط للتأكد من مصداقية ما نقرأ

لكني وببساطة أحب أن أشير هنا إلى معلومة معروفة لأغلب العراقيين تنسف أسطورة (التن مين) من جذورها، وهي وجود عائلة بغدادية عريقة ومعروفة تحمل اسم (ابو التمن) قبل الاحتلال البريطاني للعراق بعشرات السنين، بمعنى إن الكلمة معروفة ومتداولة عراقيا قبل الاحتلال بكثير، إذ يذكر الدكتور خالد التميمي في كتابه «محمد جعفر أبو التمن دراسة في الزعامة السياسية العراقية»، جزءا من تاريخ عائلة أبو التمن عبر سرد سيرة هذا السياسي فيقول؛ «ولد محمد جعفر جلبي بن محمد حسن بن الحاج داوود أبو التمن عام 1881 في عائلة مسلمة شيعية عربية في بغداد، وترعرع في دار جده الحاج داوود في إحدى مناطق بغداد المعروفة، وهي محلة صبابيغ الآل على الضفة الشرقية لنهر دجلة»، حتى يصل إلى سبب إطلاق التسمية على هذه العائلة من الجلبية فيقول؛ «كان الحاج داوود، جد جعفر، شخصية معروفة في أوساط بغداد الاجتماعية والتجارية والثقافية، جمع ثروته من تجارة الحبوب والمواشي. وقد وظف جزءا كبير من ثروته في تجارة الإبل والسفن الشراعية، إلا إن تطور النقل النهري والبري في بداية القرن العشرين سبب له خسارة مادية جعلته يقتصر على تجارة الحبوب». أما سبب حمل داوود جلبي لقب (أبو التمن) فيذكره التميمي قائلا؛ «عندما حلت شحة خطيرة في محصول الرز بسبب الجفاف خلال عام 1890، وصحب ذلك استغلال فاحش على مدى واسع، فإن الحاج داوود استمر، على الرغم من تلك الظروف، في بيع الرز بأسعار معقولة، بل قام بتوزيع الرز (التمن) مجانا على المعدمين من الفقراء ولذا لقب بأبي التمن». ويذكر الشيخ جلال الحنفي في مقال بعنوان (التمن في الألفاظ البغدادية) نشر في مجلة «بغداد» العدد العاشر في شباط/فبراير 1964؛ «يطلق البغداديون على الرز لفظة (التمن)، وهي لفظة عراقية قديمة وقد وردت في معجم الحسن بن بهلول الطيرهاني النسطوري المسيحي من رجال القرن الرابع الهجري. وهو معجم آرامي عربي». ويشير الى أن «ابن بهلول قد وضع معجمه بطريقة خاصة، فكتب الى جـوار الكلمة الآرامية (تمن) معنى اللفظـة قائـلا (برنج) ولم يقـل الرز»، و(البرنج) كما هو معروف لفظة فارسية معنـاها الرز. كما بحث الكاتب الأحوازي توفيق النصاري في أصل كلمة (تمن) في مقال له بعنوان (محاولة في تحديد أصل كلمة تِمَّن) ووجد أن الكلمة غير موجودة في المعاجم العربية، ولا في اللغات السامية، ولا في لغات الشعوب القريبة من العراق مثل اللغات الفارسية والتركية والهندية والأوردية، حتى توصل إلى استنتاج تاريخي مهم مفاده أن أقدم ذكر لـ(التمن) في المصادر العربية ورد في كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» للرحالة والجغرافي العربي شمس الدين محمد بن أحمد المقدسي (ولد في القدس سنة 336هـ 947م)، إذ يقول المقدسي في كتابه عند حديثه عن الأهواز؛ «ومن الإقليم في اللحم والسمك غير الأهواز أربعة أرطال، ومن الخبز مكّيّ، ومن الأهواز بغداديّ في كلّ شيء. ونقودهم مثل المشرق، الذهب بالدوانيق كلّ دانق ثمان وأربعون تمونة وهي الأرزّة»، ونفهم من هذا الاقتباس أن كلمة التمونة هي (التمنّة) أو (التمنايّة) في العامية العراقية اليوم، ومعناها الحبة الواحدة من الرز (التمن). ومعنى ذلك إن كلمة (التمن) كانت متداولة في الأهواز وجنوب العراق بشكل طبيعي قبل ألف عام تقريبا، ثم طغت عليها التسمية العربية للرز، فاختفت كلمة (التمن) لقرون ثم ظهرت مجددا في العراق.
ويستمر الحنفي في جهده لتبيان أصل كلمة (تمن) العراقية، إذ يشير إلى أنه تتبع هذه الكلمة سعيا وراء أصلها القديم في مختلف اللغات الحية والميتة، فوجد أن هناك أصلا صينيا لها، إذ يقول؛ «إن الصينيين يسمون الشلب الذي تم نضجـه وحان أوان حصاده (تامي)»، وهي كلمة قريبة جدا من التسمية العراقية (تمن). وتجدر الإشارة الى إن علاقات ممالك وامبراطوريات العراق القديم التجارية مع الشرق الأقصى معروفة وموثقة تاريخيا، إذ كانت الرحلات التجارية البحرية تتم عبر الخليج ومنه إلى بحر العرب والمحيد الهندي، وصولا للشرق الأقصى وتحديدا الهند والصين، وبالتأكيد تم في مرحلة مبكرة نقل الرز من موطنه الأصلي في الصين والشرق الأقصى إلى وادي الرافدين ومعه تسميته الأصلية (تامي) التي تحورت في العراق إلى (تمن). لكننا عندما نقرأ كتب الطبيخ في العصر العباسي، نجد انهم يستعملون لفظة الرز، ولا يأتي ذكر (التمن) التي غابت لقرون ثم ظهرت مجددا، ويقول جلال الحنفي في ذلك؛ «ومن الأمر العجيب أن لفظة التمن لم ترد في النصـوص البغدادية خلال دهر طويل.. كما أن العقاقيريين لم يشيروا إليها ، ولا ذكرها الذين ألفوا في الطب»، ويبدو أن المفردة العربية طغت على التسمية العراقية الآرامية، كما يشير الحنفي إلى: أن «لفظة (برنج) جاءت في الطبيخ والأمثال والكنـايات وسائر ضـروب النصوص والألفاظ البغدادية المشهـورة». لكن لفظة (تمن) قد شاعت شيوعا مستفيضا في الألفاظ البغدادية منـذ حوالي الأربعة قرون فعادت للاستعمال، حيث وردت في الأمثال العاميـة العراقية القديمة مثل؛ «عمرت لك يا رجل بيت، ومن تمن المغسول ضميت»، و»تمن المهّدى للسلاطين يتـودي».


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)