صادق الطائي يكتب: العراق: المدفع العملاق وصاروخ العابد… أساطير صدام العسكرية

profile
صادق الطائي كاتب عراقي
  • clock 3 يناير 2022, 9:57:55 ص
  • eye 733
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

شاهدت قبل أيام الفيلم الوثائقي السلوفيني “هيوستن: لدينا مشكلة”، وهو فيلم تسجيلي أنتج عام 2016 واعتمد على وثائق يوغسلافية وأوروبية وأمريكية تم رفع السرية عنها وأتيحت للباحثين. ويحكي الفيلم قصة إطلاق الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو عام 1950 برنامجا فضائيا سريا، في خضم حمى التنافس بين موسكو وواشنطن على غزو الفضاء، مع بدء الحرب الباردة.

بيع هذا البرنامج في أوائل الستينيات إلى الولايات المتحدة بمبلغ خيالي هو 3 مليارات دولار، أي ما يعادل حاليا 50 مليار دولار، ونتيجة تعثر المشروع وعدم فعاليته، إذ اتضح أن اليوغسلاف قاموا بالتلاعب بالمعلومات، وأكل الأمريكيين الطعم في حمى تنافسهم مع السوفييت، وبقيت حكومات الولايات المتحدة المتتالية تطارد اليوغسلاف لاسترداد الأموال التي دفعت في تلك الصفقة، من دون نتيجة حتى تم تدمير يوغسلافيا وتفكيكها في التسعينيات.

تذكرت وأنا أشاهد الفيلم السلوفيني، الضجة التي أثارها إعلام مصر الناصرية تزامنا مع زمن الصفقة اليوغسلافية تقريبا، إذ أطلق الإعلام المصري المؤدلج مجموعة حكايات أسطورية، عن تمكن مصر من إنتاج الصواريخ وتكنولوجيا الفضاء، بالتعاون مع العلماء الألمان، ففي عام 1963 في ذكرى 23 تموز/يوليو كان العنوان الرئيس لصحيفة “الجمهورية” القاهرية “برنامج الجمهورية العربية لغزو الفضاء.. سباق بين الجمهورية العربية وفرنسا ومجموعة دول غرب أوروبا لإطلاق قمر صناعي.. الدكتور بليتز كبير العلماء الألمان يرد على الحملة الصهيونية، ويتحدث عن برامجنا العلمية.. مصر ثالث دولة في العالم بعد الاتحاد السوفييتي وأمريكا تصنع صواريخها بنفسها”. أما القنبلة الإعلامية التي أطلقتها مصر الناصرية، فكانت في 16 نيسان/إبريل 1965، عندما نشرت مجلة “المصور” القاهرية تحقيقا صحافيا عن “سر يذاع لاول مرة.. سفينة الفضاء المصرية.. تحقيق كامل بالصور.. قصه كفاح علمي عسكري مدني، ينتهي بإطلاق أول كبسولة فضاء عربية تحمل كائنا بشريا حيا مصريا إلى الفضاء الخارجي.. بدأنا الطريق لإطلاق كبسولة مصرية في داخلها رائد فضاء مصري.. لدينا أحدث الأجهزة التي نصنع بها بأيدينا أول قمر صناعي مصري.. أول تفاصيل تذاع عن إعداد غزاة الفضاء من نسورنا الشبان”، وطبعا لا نحتاج إلى القول إن كل هذا الكلام عبارة عن أكاذيب ومبالغات، اتضح زيفها بعد عامين فقط مع الهزيمة الساحقة التي منيت بها مصر في حرب 5 حزيران/ يونيو أمام الكيان الصهيوني، ولم تكن هناك أية أسلحة ردع استراتيجية لدى المصريين، حتى أن الجنرال سعد الدين الشاذلي، الذي أصبح رئيسا لأركان الجيش بعد هزيمة حزيران، عندما سُئل عن الصواريخ البالستية التي صنعتها مصر، قال إنه زار مصنع الصواريخ واكتشف أنها عبارة عن “خردة”.

يرى بعض الباحثين ممن درسوا سيرة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، أنه سار على خطى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وحذا حذوه في محاولته تزعم (الأمة العربية)، لذلك اشتغلت ماكنة الدعاية في عراق صدام على حملات البروباغندا المماثلة لما جرى في مصر الناصرية. حملات أمسكت طرفاً من قصص السلاح الاستراتيجي، وبنت عليها أساطير تم الترويج لها في وسائل الإعلام، ويمكننا القول وبأطمئنان كامل، إن أبرز إسطورتين في هذا المضمار كانتا، صاروخ “العابد”، والمدفع العملاق الذي عرف باسم “بابل”. طور العراقيون قدراتهم في قطاع الصناعة العسكرية، إبان سنوات الحرب العراقية الإيرانية في عقد الثمانينيات، وهو سياق منطقي لبلد يخوض حربا شاملة كحرب الثمانينيات، وقد تم تسخير كل إمكانات البلد وأمواله وعقول علمائه في مجال التطوير العسكري وخدمة المجهود الحربي، وقام العراق ضمن هذا السياق بتطوير منظومات الصواريخ، إذ عملت منشأة القعقاع المشيدة في بلدة اليوسفية على بعد 15 كلم جنوب بغداد، على تطوير مديات صواريخ سكود الروسية لتصل مديات بعيدة. وقد أطلقت هيئة التصنيع العسكري على الصواريخ المطورة تسميات محلية مثل صاروخ الحسين (650 كم) وصاروخ العباس (900 كم). وكانت هذه الصواريخ ذات قدرات تدميرية كبيرة نتيجة كبر حجمها، إلا أنها احتوت على الكثير من المشكلات في منظومات التوجيه، ما تسبب في عدم دقة إصابتها للأهداف.

لم يكن العراق يمتلك قدرات تصنيع صواريخ معدة لحمل الأقمار الصناعية نهاية الثمانينيات، وربما كان هناك مشروع طموح بهذا الخصوص


إن تطوير منظومات الصواريخ كانت بجهود عراقية، بنسبة كبيرة جدا، مع الاستعانة ببعض الخبرات الأجنبية، ونتيجة هوس صدام حسين بامتلاك أسلحة ردع، تؤهله لاستحواذ مكانة زعيم العرب، أمر وبإلحاح خبراء الصواريخ بالعمل على تطوير وتصنيع منظومات صاروخية يمكن تحميلها برؤوس غير تقليدية مثل، الرؤوس البيولوجية، أو الكيماوية، أو حتى النووية. لكن لم تنجح قدرات العراق حينذاك على الوصول إلى هذا التحدي، إذ لم تتوفر أدلة مؤكدة على نجاح العراق في هذه التجارب، ولا يوجد سوى بعض الادعاءات التي يمكن أن تدخل ضمن حملات البروباغندا التي روج لها نظام صدام حينذاك، عن امتلاك العراق رؤوسا صاروخية غير تقليدية، ولم يعثر مفتشو الأمم المتحدة بعد غزو الكويت وخضوع العراق للعقوبات الدولية على هذه النوعية من الرؤوس الصاروخية، وهذا أمر مثبت في تقارير مفتشي الأمم المتحدة الذين عثروا على منظومات صواريخ بالستية تقليدية. الحديث عن صاروخ “العابد” الذي صنعه العراق بعد الحرب العراقية الإيرانية، يدخل في الأعم الأغلب في باب التكهنات والمبالغات، إذ لم يكن العراق يمتلك قدرات تصنيع صواريخ معدة لحمل الأقمار الصناعية نهاية الثمانينيات، وربما كان هناك مشروع طموح بهذا الخصوص، إلا أنه لم يتجاوز مرحلة التخطيط والتجارب الأولية، لكن البعض تكلم عن نجاح تجربة إطلاق صاروخ العابد في 5 ديسمبر 1989 في الصحراء الغربية في العراق، ولا دليل على ذلك سوى فيلم استمر ثواني يصور عملية إطلاق صاروخ تم عرضه في تلفزيون العراق على إنه تجربة ناجحة لإطلاق صاروخ “العابد” المخصص لحمل الأقمار الصناعية إلى مداراتها في الفضاء. ولأن صدام حسين كان مهووسا بالقدرات العسكرية، فقد كان هناك خلط واضح في الحديث عن هذا الصاروخ، فمرة يوصف بأنه صاروخ حربي مداه 2000 كم، ومرة يوصف بأنه أول صاروخ عربي يدشن غزو الفضاء، علما أن الصواريخ المخصصة لحمل الأقمار الصناعية لا تقاس بمدى الصاروخ مثل الصواريخ الحربية. أما قصة المدفع العملاق، فإنها قصة تراجيدية بامتياز، إذ تعاون العراقيون للحصول على هذا السلاح (الاستراتيجي) مع خبير المدفعية الكندي جيرالد بول، الذي يعد واحدا من أبرز خبراء تطوير سلاح المدفعية في العالم، وتم الاتفاق عام 1989 على تنفيذ مشروع بول، الذي حلم به ووضع خطوطه العلمية في ستينيات القرن العشرين، هذا المشروع الذي بدا وكأنه قصة من قصص الخيال العلمي. المشروع هو تصنيع مدفع عملاق، وصف بأنه أكبر مدفع عرفه التاريخ العسكري، طول ماسورته 156 مترا (أي بطول ملعب كرة القدم مرة ونصف المرة) وبإمكانه إطلاق قذائف قطرها 1000 ملم، أي بحجم برميل، وتزن 2 طن، ووزن المدفع يصل إلى 2100 طن. وكانت فكرة العالم الكندي أن هذا المدفع سيعمل على إطلاق قذائف تحمل أقمارا صناعية إلى مداراتها في الفضاء، بكلف اقل جدا من كلفة الصواريخ التي تحمل الأقمار الصناعية للفضاء.

لكن يبدو أن التفاوض الذي تم في كانون الثاني/يناير 1988 بين جيرالد بول والدكتور عامر السعدي، أحد أهم رجال التصنيع العسكري في العراق، والرجل الثاني بعد الجنرال حسين كامل، صهر صدام حسين، الذي كان يشرف على الصناعة العسكرية والنووية والاستراتيجية في العراق، كان يسير باتجاه إمكانية الاستخدام العسكري لهذا المدفع العملاق، الذي سيعرف في أدبيات التصنيع العراقي باسم (مدفع بابل العملاق)، على أن الاتفاق شمل تصنيع نموذج أولي أصغر حجما يعرف باسم (مدفع بابل الصغير) بقذيفه قطرها 350 ملم وطول ماسورة المدفع حوالي ثلث المدفع العملاق. وضع العراقيون مبلغ 25 مليون دولار تحت تصرف بول وشركته، وتم بالفعل البدء بعمليات التصنيع، وفق المخططات والتصاميم الهندسية لشركة جيرالد بول ومقرها في بروكسل العاصمة البلجيكية، وتمت عمليات تصنيع المواسير العملاقة في المملكة المتحدة. بعض خبراء التصنيع الذين حاولوا أن يروجوا الأمر للرئيس صدام حسين، على أنه فتح كبير في عالم الأسلحة الاستراتيجية لم يلتفتوا إلى ملاحظات خبراء السلاح العالميين حول إمكانيات المدفع العملاق، إذ أشارت الملاحظات السلبية إلى أن “هذا المدفع سيكون سلاحاً غير فعال، فحجمه العملاق لن يسمح بنقله أو تحريكه أو حتى إعادة توجيهه، كما أن فترة تجهيز إطلاق القذيفة طويلةً جداً، وكان من السهل تحديد موقعه، ما يسمح بتدميره بسهولة، كذلك كان الكل سيعرف مكانه لأن طاقة ارتداد إطلاق قذيفة منه ستتسبب في حدوث زلزال فعلي قوي ستسجله جميع أجهزة الرصد حول العالم، والنتيجة سيكون هذا المدفع عرضةً للهجمات الجوية بسهولة”.

انتهت هذه الأسطورة مع غزو العراق للكويت، وإيقاف سلطات الجمارك في موانئ أوروبا لعمليات شحن أجزاء المدفع المصنعة، ومن ناحية أخرى انتهت القصة نهاية تراجيدية، عندما تم اغتيال الخبير الكندي جيرالد بول أمام باب شقته في بروكسل بثلاث رصاصات أطلقت على رأسه من مسدس كاتم للصوت، ووجهت أصابع الاتهام حينذاك إلى جهاز الموساد الإسرائيلي، لتطوى صفحة حكاية أسطورية من الأساطير العسكرية لنظام صدام.


*كاتب عراقي

التعليقات (0)