صبحي حديدي يكتب: كابلان و«الشرق الأوسط الأكبر»: مديح الطغيان ورثاء الإمبراطورية

profile
  • clock 15 سبتمبر 2023, 12:26:30 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

مفهوم الشرق الأوسط الراهن، التقليدي أو المتفق عليه أو المكرّس على نحو أو آخر، لم يعد يتسع لتنظيرات الكاتب الجيو ـ سياسي الأمريكي روبرت د. كابلان؛ وبديله اليوم هو «الشرق الأوسط الأكبر» وليس الكبير فقط، كما يقترح كتابه الأخير «حلول الزمن: الإمبراطورية والفوضى، من البحر الأبيض المتوسط وحتى الصين» الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية، في نيويورك ضمن منشورات راندوم. أمّا جغرافية المفهوم الأكبر هذا فلا تبدأ من الدول العربية أو المسلمة في آسيا وشمال أفريقيا، بل تشملها حين تمتدّ من غرب الصين، مروراً بآسيا الوسطى وشرق أوروبا، واشتمالاً على شبه الجزيرة الهندية فالمتوسط وبحرَيْ إيجة والعرب وخليج البنغال، وصولاً إلى المحيط الهندي.
دوافع تسطير الكتاب، وهي أيضاً بعض أبرز موضوعاته: 1) اهتمام كابلان بأبعاد ومآلات الحروب (الأمريكية، أساساً) في أفغانستان والعراق، بين 2001 و2021؛ و2) الفوضى، كما يسميها، التي أعقبت «الربيع العربي» وأعادت تأكيد موقفه المعروف القائل بأنّ الطغيان على علاته خير من الفوضى وانعدام الاستقرار؛ و3) إعادة قراءة الحضارات والإمبراطوريات، ليس على ضوء خلاصات صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات، بل من زوايا ثقافية وأنثروبولوجية لا يجد كابلان حرجاً في تلمّسها اتكاء على منهجيات يمينية أو يسارية أو ليبرالية وسيطة، أو يجتمع في خلائطها أمثال أرنولد توينبي وكليفورد غيرتز وإدوارد غيبون وفرناند بروديل و… إدوارد سعيد!
جدير بإشارة فورية أنّ كابلان في هذا الكتاب يعتذر عن موقفه السابق الذي انطوى على تأييد الغزو الأمريكي للعراق؛ ويعترف بأنّ كراهيته لشخص صدّام حسين أعمته عن رؤية الكثير من المزالق التي كان يتوجب أن تبرز بوضوح أمام عينيه قبيل تسرّعه في الحماس لمشروع جورج بوش الابن ورهط المحافظين الجدد. ولعلّ المبدأ العتيق، القائل بأنّ اعتذاره متأخراً خير من عدم اعتذاره نهائياً، لا ينطبق تماماً أو حتى بما يكفي على تنظير كابلان حول الملفّ ذاك، بالنظر إلى أنّ الحصيلة تجاوزت الحماس إلى شهوة التبشير بسلسلة قوانين راسخة ذات صلة بالتصارع الحضاري بين غرب وشرق، وتنوير وأصولية؛ على نحو لم يبقَ فيه من صدّام حسين واستبداده ونظامه إلا النزر اليسير.
ذلك، أيضاً، سبب وجيه إضافي لوضع أفكار كابلان إجمالاً، وتلك التي تخصّ قضايا الشرق الأوسط تحديداً، على أكثر من محكّ يُخضعها للتدقيق والتمحيص والتشكيك؛ أبعد، بكثير، من مجرد السجال والنقد وتطوير الاختلاف العميق، الذي يمكن أن يبلغ شأو الرفض، شكلاً ومضموناً. وعلى هذا المنوال يتوجب أن تُقرأ الصفحات التي يخصصها للانتفاضة السورية، ضمن فصل لا يلوح أنّ المصادفة العفوية وراء عَنْوَنته بـ«الهلال الخصيب»؛ حيث يتكئ على آراء جوشوا لانديز رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما الأمريكية، الذي لا يُظلم كثيراً حين يُوصف بـ«ناطق باسم النظام السوري». إعجاب كابلان بآراء لانديز ينحصر، أو يكاد، في أنّ الأخير خرج عن إجماع المراقبين الأمريكيين للوضع السوري عند انطلاق الانتفاضة الشعبية سنة 2011، وتكهن بأن بشار الأسد لن يسقط، وأنه لا يوجد «شعب سوري واحد» أساساً، وسوريا «منقسمة على خطوط دينية وإثنية وطبقية»؛ مردداً أصداء فريا ستارك الرحالة البريطانية/ الإيطالية، التي جالت في لبنان وسوريا والعراق أواخر عشرينيات القرن المنصرم.

مديح الإمبراطوريات، أو إبداء الأسف على انحسارها، محور مركزي في غالبية مؤلفات كابلان، وهو هنا يعيد تكرار المعزوفة ذاتها على هذا النحو، الاختزالي بقدر ركونه إلى التبسيط المخلّ

مديح الإمبراطوريات، أو إبداء الأسف على انحسارها، محور مركزي في غالبية مؤلفات كابلان، وهو هنا يعيد تكرار المعزوفة ذاتها على هذا النحو، الاختزالي بقدر ركونه إلى التبسيط المخلّ: الثورة الفرنسية جلبت الترهيب بدل نظام ملكي فاسد، والثورة الروسية استبدلت طغيان آل رومانوف بحكم البلاشفة الشمولي، والثورة الإيرانية أحلّت استبداد آيات الله محلّ حكم الشاه الأوتوقراطي؛ وهذه مسارات تدفعه إلى الاستنتاج بأنّ واحدة من «مصائب» السياسة الخارجية الأمريكية كانت الإيمان، تبعاً لمخيّلة الرئيس الأسبق وودرو ولسون، بأنّ «التاريخ الإنساني يتدرّج وفق خطوط تقدمية». وجولات كابلان في الشرق الأوسط، تركيا وكردستان وأفغانستان والباكستان وسوريا والسعودية ومصر وليبيا وإثيوبيا، أقنعته بأنّ ما شهده هو «عالم هوبزوي» نسبة إلى الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (1588 ـ 1679) صاحب الخلاصة الشهيرة القائلة بأنّ الدول والمجتمعات لا يمكن أن تكون مستقرة وآمنة إلا تحت سلطة حاكم مطلق.
ولعلّ كابلان هو الوحيد الذي يتجاسر على تصريح، أخرق وجزافي وأحمق واستفزازي، مثل التالي: «قصارى القول إنّ الشرق الأوسط بعد 100 سنة لم يجد بعدُ حلاً ملائماً لانهيار الإمبراطورية العثمانية»؛ فما بالك بطيّ صفحات الإمبراطوريات الآشورية والرومانية والفارسية والبيزنطية والبريطانية والسوفييتية والأمريكية، والتعداد من عنده بالطبع. ورثاء الإمبراطوريات، بعد مديح أنظمة الطغيان، هو بوّابة أولى تمنح كابلان فرصة القدح بكتاب سعيد «الاستشراق» 1978؛ والتهليل لأعمال برنارد لويس، بطريرك الاستشراق كما تفضّل هذه السطور تسميته. هي، إلى ذلك، نافذة كابلان كي يردّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي إلى جذور استشراقية، تُبعد عن الكيان الصهيوني أيّ عناصر صريحة لاستعمار استيطاني وعنصري، ينزلق اليوم حثيثاً صوب أسوأ منظومات الأبارتيد باعتراف عدد من المراقبين اليهود الإسرائيليين والأمريكيين على حدّ سواء.
وللمرء أن يعود إلى كتابات (يجدر القول: نبوءات) صدرت عن كابلان في الماضي القريب، واعتمدت حتميات مختلفة الطراز، لكنها تخرج من جهاز تفكير واحد، ساكن وسكوني، سطحي وتسطيحي؛ كما في هذا المثال من مقالة بعنوان «تحريك التاريخ»: «البلدان الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس لم تمتلك إلا القليل فقط من المعنى قبل القرن العشرين. فلسطين ولبنان وسوريا والعراق لم تكن سوى تعبيرات جغرافية غامضة، وأمّا الأردن فلم يكن في الوارد أصلاً. وحين نزيل الخطوط الرسمية على الخريطة، فإننا سنجد رسماً عشوائياً بأصابع اليد لتكتلات سكانية سنّية وشيعية تتناقض مع الحدود الوطنية (…) وإذا كان في الشرق الأوسط جزء يتشابه على نحو مبهم مع يوغوسلافيا السابقة، فإنه المنطقة من لبنان حتى إيران، حيث نواجه انحلال نظام الدولة الذي ظلّ، طيلة عقود، الحلّ الكفيل باضمحلال الإمبراطورية العثمانية».
أو تلك الحتمية العجيبة: أنّ أولى انتفاضات العرب بدأت في تونس، من بلدة سيدي بوزيد تحديداً، لأنها تقع ضمن خطّ هزيمة هانيبعل، القائد العسكري القرطاجي، على يد الجنرال الروماني سكيبيو الأفريقي، في موقعة زامة؛ حين حفر الأخير خندقاً حدودياً يمتد من طبرقة إلى صفاقس؟ في عبارة أخرى، ضمن صياغة كابلان للفكرة ذاتها: لولا أنّ تونس هي النقطة الأفريقية، وبالتالي العربية، الأقرب إلى أوروبا، وإلى «المناطق المتمدنة»؛ هل كانت أولى انتفاضات العرب ستقع فيها؟ يكتب كابلان: «بدأ الربيع العربي من تونس، البلد الأكثر تأورباً بين جميع البلدان العربية، والذي يقع على مسافة ثماني ساعات على ظهر ناقلة بطيئة تبحر نحو صقلية. وبالنسبة إلى كثيرين، كانت تونس متكاملة مع السياسة الإيطالية أسوة بتكامل صقلية معها»!
ورغم إقرار كابلان بأنّ النظرة السلبية إلى الإمبراطوريات ناجمة عن التاريخ الدامي للغزوات الأوروبية (بديله عن تعابير مثل الاستعمار والاستيطان والاحتلال) فإنه لا يتورّع عن صياغة الرسالة الأوضح في كتابه: الزمن الذي خيّم ويحوم وسوف يطلع، هو ذاك الذي سيثبت أنّ الإمبراطورية شكل طبيعي في الحكم، ومظهر للتاريخ في كلّ بقعة من العالم. وذاك قدر جيو ـ سياسي محتوم، ولا رادّ له!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

التعليقات (0)