صبحي حديدي يكتب: مقاعد الأمم المتحدة: حيث شرّ البلية ما يُضحك!

profile
  • clock 6 أكتوبر 2023, 11:29:32 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

من بين زعماء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، حضر الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإلقاء الخطاب التقليدي؛ ربما لأنه رئيس الدولة التي تستضيف مقرّ المنظمة الدولية، وغير بعيد أيضاً أنه انتهز المناسبة للاجتماع مع رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وليست مستبعدة كذلك حصّة السياسة الدولية في أجندات التحضير لانتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة. ظاهر، في المقابل، أنّ زعماء روسيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة لم تكن لديهم بواعث كافية لتجشّم عناء السفر إلى نيويورك؛ وذلك رغم أنّ دورة الجمعية العامة لهذه السنة تضمنت برنامجاً يتجاوز إلقاء الخطب العصماء/ الجوفاء؛ لأنها شهدت أعمال «قمّة لإنقاذ أهداف التنمية المستدامة لتحسين حياة البشر في كل مكان» حسب تعبير المنظمة الدولية.
وإذا صحّ أنّ شرّ البلية ما يُضحك، فإنّ غياب فلاديمير بوتين وشي جين بينغ وإمانويل ماكرون وريشي سوناك ليس السبب الباعث على الإضحاك، بقدر حضور بايدن الذي يتزعم القوّة الكونية الأعظم/ الأعلى خيانة للأهداف الـ17 التي تضعها قمّة التنمية المستدامة نصب أعين الأمم في طول العالم وعرضه. وكما هو معروف، تبدأ تلك الأهداف من منع الفقر، وحظر الجوع، والصحة الجيدة وحسن الرفاه، والمساواة في التعليم، والمساواة في الجندر، والماء النظيف والنقي، والطاقة النظيفة الموفّرة، والعمل الكريم والنمو الاقتصادي، والصناعة والابتكار والبنية التحتية، وخفض انعدام التكافؤ، والمدن والجماعات المستدامة، والمسؤولية في الاستهلاك والإنتاج، والتحرّك في ميدان المناخ، والحياة أسفل المياه، والحياة فوق الأرض، والسلام والعدالة والمؤسسات القوية، والشراكة في الأهداف.
وكما في كلّ دورة، طيلة ثماني سنوات أعقبت هذه المبادرة الأممية بصدد التنمية المستدامة، يلجأ الأمين العام للأمم المتحدة إلى البلاغة اللفظية والمناشدة والقلق؛ وهذه السنة أيضاً ذكّر أنتونيو غوتيريش بأنّ الأهداف ليست مجرد قائمة، بل «إنها تحمل آمال وأحلام وحقوق وتوقعات الناس في كل مكان». كما حثّ الحاضرين، وفاته أن يخصّ الغائبين بإشارة صريحة، على تنفيذ خطة الإنقاذ لأنّ 15٪ فقط من الأهداف العالمية اتخذت مسارات صحيحة، بينما لا تبقى الأهداف الأخرى معلّقة في الفراغ فحسب، بل يجري عكس العديد منها. هنا أيضاً، كان في شرّ البلية ما يُضحك، لأنّ غوتيريش تمسّك بتفاؤله المعتاد؛ قبل أن يعتنق إعلاناً سياسياً جديداً للقمّة، يتضمن حزمة تحفيز للأهداف بقيمة… 500 مليار دولار سنوياً! لا أحد سأله، ولا هو تساءل، من أين ستأتي تلك المئات الخمس من المليارات، ولا كيف ستفلح في تخفيف عبء الديون، وتوفير تمويل ميسور التكلفة للبلدان النامية، فضلاً عن «إصلاح البنية المالية الدولية التي عفا عليها الزمن والمختلة وغير العادلة» حسب تعبيره.
حكاية المقاعد الفارغة في مجلس الأمن الدولي ليست جديدة بالطبع، لكنها حين تأخذ وجهة حسابية عالية (1 من أصل 5) فإنها تقود إلى معضلة أكبر لا تخصّ محفل المجلس وامتيازات الدول الخمس الأعضاء فقط، بل هي تشمل المشكلات المستعصية التي اقترنت بمنظومات عمل الأمم المتحدة عموماً. وذات يوم كان جون بولتون، المندوب الأمريكي الدائم إلى المجلس والذي عُيّن رغم أنف اللجنة المختصة في الكونغرس، قد أدخل 750 تعديلاً على مسوّدة من 26 صفحة؛ كانت بمثابة وثيقة وُضعت أمام ممثّلي 191 دولة للبحث في إصلاح الهيئة الدولية. يومها لم يكتفِ بالخوض في المسائل «الخلافية» المعتادة والكلاسيكية، مثل تعريف الإرهاب ومفهوم السيادة الوطنية وتصدير الديمقراطية والكيل بمكيالين في ما يخصّ حقوق الإنسان وتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي ومعالجة الفقر والمديونية ومشكلات البيئة واستثناء الأمريكي من محاكم جرائم الحرب…

تبدأ تلك الأهداف من منع الفقر، وحظر الجوع، والصحة الجيدة وحسن الرفاه، والمساواة في التعليم، والمساواة في الجندر، والماء النظيف والنقي، والطاقة النظيفة الموفّرة، والعمل الكريم والنمو الاقتصادي، والصناعة والابتكار والبنية

لقد اعترض على كلّ فقرة في الوثيقة، سواء تحدثت عن قِيَم الهيئة الدولية ومبادئها القديمة والحديثة والقادمة، أو الشراكة الكونية في التنمية، أو التطوير الزراعي، أو مجابهة انتشار مرض نقص المناعة، أو مسائل الهجرة، أو السلام والأمن الجماعي، أو حتى… التكافؤ الجنسي بين الذكر والأنثى، وتمكين المرأة، وتطوير العلوم والتكنولوجيا، وحوار الجنوب ـ الجنوب (وليس الشمال ـ الجنوب!)… وظلّ يعترض ويعترض من وحي يقينه بأنّ بلاده هي العالم، أو هي ربما الإمبراطورية المعاصرة الوحيدة التي تحكم العالم على هذا النحو أو ذاك، بالتحالف مع حفنة «شركاء» و«حلفاء» هنا، أو بمقاتلة حفنة «عصاة» و«مارقين» هناك.
وهو، يومذاك، استوفى النبرة النقيضة التي ظهر بها سيّده الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في خطابه أمام الجمعية العامة، حين بدا تسامحياً تصالحياً وشاكراً لـ 115 دولة قدّمت العون لبلاده في محنة إعصار كاترينا (وليس هذا الموقف مألوفاً في التاريخ الأمريكي، للتذكير، لأنّ العمّ سام كان غالباً في موقع الواهب وليس الطالب) من جانب أوّل. وحين بدا، من جانب ثانٍ، متجرداً إلى درجة لافتة من نبرة الغطرسة التي هيمنت على خطابه في المحفل ذاته قبل ثلاث سنوات، حين طالب الأمم المتحدة أن تنخرط مباشرة إلى جانب «العالم الحرّ» في مشروع غزو العراق.
سلفه بيل كلينتون، كي يقتفي المرء سيرورة أمريكية متصلة لا تفرّق بين رئيس ديمقراطي وآخر جمهوري، كان «أشطر» حين اعتلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في «القمّة الألفية» والتي كانت وتظلّ أشهر القمم الأممية: شدّد على أنه أكثر من مجرّد رئيس للقوّة الكونية الأعظم، فهو رئيس العالم بأسره، بأغنيائه وفقرائه، بأقويائه وضعفائه، بالذين يكلّف يومهم المعيشي آلاف الدولارات والذين لا يتيسّر لهم تدبير دولار واحد. اعتلى المنبر، وخطب، وحذّر، وأنذر؛ وفي أكثر من برهة واحدة أثناء الدقائق الثماني التي استغرقها خطابه (وكان بذلك قد تجاوز الزمن المحدّد له ولسواه) لاح أنّ كلينتون يخلط بين الخطبة المحلية السنوية حول حال الإتحاد الأمريكي، وبين الخطبة الكونية الألفية حول حال العالم… أو لعلّه خلط بين الولايات المتحدة والعالم، ورأى اختصار الثاني في الأولى!
كان جدول أعمال تلك القمّة حافلاً بدوره، وكان ينطوي على ردم ما يمكن ردمه من هوّة شاسعة بين الفقراء والأغنياء، وتحسين عمل منظمة الأمم المتحدة بعد مرور 55 سنة على تأسيسها، وتلمّس حلول لمشكلات هذا الغامض الكبير الراهن والمستقبلي الذي يُدعى العولمة. فما الذي فعله كلينتون؟ سيّد العالم لم يهمل الإشارة إلى بنود هذه الأجندة فحسب، بل ذهب مذهباً مختلفاً عن جميع أقرانه زعماء العالم حين تذكّر أولويات الولايات المتحدة وذكّر بها؛ معتبراً أنها كافية وافية! وعلى امتداد أكثر من فقرة واحدة في خطابه كان ضمير الـ «نحن» يخرج عن مدلول تمثيل العالم والرهط المجتمع في القاعة، ويتماهى أكثر فأكثر مع مدلول تمثيل أمريكا وحدها، وربما إقامة الثنائية العتيقة الشهيرة: «نحن» و«هم».
وقد لا يستقيم أيّ نقاش حول صلاحيات المنظمة الدولية، أو فقدانها لأيّ صلاحيات عملية فعلية «ذات أسنان ونواجذ» كما يُقال، من دون استذكار موقف مأثور سجّلته مادلين أولبرايت (1938-2022) حين كانت تتربّع على تمثيل الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي؛ بصدد إعادة ترشيح المصري بطرس بطرس غالي لولاية ثانية في الأمانة العامة للأمم المتحدة: «أليس من المضحك أن يعتقد [وتقصد غالي] أنه قادر على استخدام الفيتو ضدّ سياسات الولايات المتحدة»؟
بالفعل، مضحك… من طراز شرّ البلية أيضاً!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

التعليقات (0)