عبد الحليم قنديل يكتب: «حلاوة روح» أمريكا

profile
  • clock 16 أبريل 2022, 12:33:44 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

بعد خارجيته سيرجي لافروف، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن هدف حربه في أوكرانيا أبعد من حدودها، وأنه يتطلع لكسر الهيمنة الأمريكية على مصائر العالم، ولوحظ أن تصريحات مماثلة صدرت عن الصين في الوقت نفسه، وأن بكين اتهمت واشنطن بالكيل بمكيالين، وأنها لا تتذكر قواعد القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة، إلا حينما تكون مؤاتية لمصالحها.
وربما لا يكون من جديد نوعي في التصريحات، ومثلها كثير سبق، من تصريحات بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2006، وإلى إعلان صيني ـ روسي مشترك صدر قبل شهرين في بكين، وكلها تتحدث صراحة عن الحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب، وعن ضرورة تفكيك الهيمنة الأمريكية الأحادية ومعاييرها المقلوبة، كان ذلك قبل انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، التي تبدو كواقعة فارقة في حياة العالم المعاصر، انتقل فيها الصدام الكوني من الأقوال إلى الأفعال الساخنة، وبدا أن أمريكا تخوض حربها الأخيرة، وباستخدام كل ما ملكت من أدوات هيمنة عسكرية واقتصادية ومالية ودعائية، حاولت بها حشر روسيا «بوتين» في الزاوية، واستنزافها بسلاسل عقوبات اقتصادية ومالية هي الأقسى على الإطلاق في التاريخ، وجذبت إليها ما استطاعت من حلفاء وتابعين، واستدعت إلى جوارها جماعة حلف شمال الأطلنطي «الناتو» في أوروبا، ودفعت إلى ساحة الحرب الأوكرانية أكبر حملة نقل لسلاح «فتاك»، جاوزت في قيمتها عشرات المليارات من الدولارات، وإلى حد تصريح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن واشنطن تتعهد بتسليم أوكرانيا عشرة أنظمة من صواريخ «جافلين» ـ صائدة الدبابات ـ مقابل كل دبابة روسية، ناهيك من صواريخ «ستينجر» وأنظمة الدفاع الجوي والمسيرات الانتحارية والمروحيات وقطع المدفعية، فوق تزويد أوكرانيا بقوات ظل سرية خاصة أمريكية وبريطانية وفرنسية، تتستر وراء لافتة «فيلق الأجانب»، الذي أعلن عنه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع بدء الحرب.

لم تأخذ أمريكا في حسابها التغيرات الدولية، وإعادة توزيع توازنات الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح، ما جعل تفوقها واحتكارها لكرسي العرش العالمي ذاهبا باطراد إلى خبر كان

وقد كان ذلك كله قائما منذ عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة «القرم»، وزادت وتيرته على نحو جنوني في الأسابيع الأخيرة، وكأن أمريكا تريد أن «تحارب روسيا حتى نهاية آخر أوكراني» كما قال المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، لكن هذا الحشد كله، لم يؤد إلا إلى متاعب وخسائر تحملتها القوات الروسية، التي قررت الانسحاب من حصار العاصمة الأوكرانية «كييف»، وإعادة تركيز جهدها الأساسي في اتجاه الشرق والجنوب الأوكراني، واستكملت الاستيلاء على مدينة ماريوبول الاستراتيجية على بحر آزوف، ودفعت المجموعات الأجنبية إلى الهروب، واحتفظت بما تيسر من جثث وأسرى رجال المخابرات الغربيين، فوق تدمير كتائب «آزوف» و»الجناح الأيمن» العصب الأقوى في الجيش الأوكراني، وجرى ذلك كله بهدوء وتحفظ نسبي، في الوقت الذي لم تدفع فيه روسيا بعد بقوتها الحاسمة إلى الميدان، وهو ما يتوقع حصوله في الأيام والأسابيع المقبلة، وخوض معارك باتجاه «خاركيف» و»أوديسا»، قد تستخدمها موسكو في جولة ضغط واعتصار أخيرة.
وإذا فعلها بوتين، وهو على الأغلب سيفعلها، وربما يلجأ إلى تكتيك إعلان هدنة لا وقفا دائما نهائيا لإطلاق النار، بما يتيح له توجيه الضربات الانتقائية، كلما رغب إلى ما يتبقى من أوكرانيا، وإذا فعلها الرئيس الروسي، فربما يكون قد كسب جولة أوكرانيا، وبأقل تكاليف ممكنة، ودونما انتظار لموافقة «كييف» من عدمها على تأكيد روسية القرم، وفصل منطقة «الدونباس»، وربما ضمها لاحقا باستفتاء يشبه ما جرى في «القرم»، واستنزاف قوافل السلاح الغربي، والنزع العملي لسلاح أوكرانيا، والحيلولة دون ضمها للناتو أو لأي حلف معاد، وتجنب استخدام أوكرانيا كمصيدة استنزاف ممتد للقوات الروسية، ودفع تناقضات الأرثوذكس والكاثوليك واليهود إلى مداها في الغرب الأوكراني، الذي يصير محروما من ثروة الشرق وموارده الطبيعية والزراعية والصناعية، التي تضاف كلها كمدد إلى روسيا، وإلى حساب صمودها في وجه الحصار الأمريكي الغربي، الذي طال كل ما هو روسي، من الاقتصاد إلى السياسة والرياضة والثقافة والفن، فوق سرقة الأصول المالية الروسية في عواصم الغرب جميعا، ومن دون أن تؤدي أدوات العقاب الباطشة إلى خسارة تقعد الاقتصاد الروسي، الذي صعدت عملته «الروبل» إلى أرقام قياسية غير مسبوقة، بعد إعلان بوتين التوجه إلى تصدير الغاز والبترول لأوروبا مقابل الروبل لا الدولار واليورو، وربط قيمة «الروبل» بالغطاء الذهبي، وتطوير نظم دفع بديلة لنظام «سويفت» المالي العالمي، الذي تسيطر عليه أمريكا وبنوكها، وتشجيع التبادل التجاري مع الآخرين، باستخدام العملات الوطنية، أو بنظام المقايضة، أو بغطاء «اليوان» الذهبي الصيني، وكلها اختراقات ملهمة، وإن لم تكن وليدة ساعتها، تؤدي مع استطراد عملها وصقله، إلى تفكيك ديكتاتورية الدولار، التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية باتفاقية «بريتون وودز»، ثم بتحكم «البنك الدولي» و»صندوق النقد الدولي»، ثم بجعل الدولار عملة احتياط عالمية، ومن دون غطاء ذهبي مقابل، وهو ما جرى أواسط سبعينيات القرن العشرين، بفرض الدولار أساسا لتسعير البترول والمعادن الأخرى، وهو ما مكن أمريكا من إدامة سيطرتها المالية، بمجرد طباعة أوراق بنكنوت، من دون استناد إلى غطاء ذهبي ولا إلى إنتاجية اقتصادية عينية منظورة، وبما خلق مفارقة عبثية، جعلت أمريكا نظريا في وضع الاقتصاد العالمي الأول، رغم أنها أكبر مدين في التاريخ الإنساني، وزادت جملة ديون اقتصادها إلى اليوم على الثلاثين تريليون دولار.
وحتى قبل أن يعلن بوتين انتصاره المتوقع في العملية الأوكرانية، فقد بدا فزع أمريكا من هزيمة تنتظرها ملحوظا، وراحت تتصرف بشراسة «حلاوة الروح» المعروفة عن الثيران وقت الذبح وطلوع الروح، وقد أعادت تجريب الأساليب نفسها التي اتبعتها في زمن الحرب الباردة القديمة مع الاتحاد السوفييتي السابق، ثم أعادت تجريب أساليبها في زمن القطبية الأحادية بعد انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين، ومن دون أن تأخذ في حسابها كثافة التغيرات الدولية، وما جرى من إعادة توزيع متسارعة لتوازنات الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح، جعلت التفوق الأمريكي واحتكاره لكرسي العرش العالمي ذاهبا باطراد إلى خبر كان، ثم جاءت عملية أوكرانيا لتكشف الغطاء عن ما جرى ويجري، فقبل عشرين سنة، كان بوسع واشنطن أن تهش الآخرين بعصاها، وأن تردد مقولة جورج بوش الابن «من ليس معنا فهو ضدنا»، وأن يؤتي تهديدها أكله، وبما شجعها على خوض حربين استنزافيتين طويلتين في أفغانستان والعراق، إضافة لعشرات الحروب والغارات الأصغر، انطلاقا من مئات القواعد العسكرية الأمريكية في أربع جهات الدنيا، وجاءت نتائج حروب واشنطن للمفارقة إنهاكا لما تبقى من قوتها، وتحطيما للهيبة الأمريكية الكونية المفترضة، بدت أماراته ظاهرة في الانسحاب الفوضوي المخزي المذل من أفغانستان قبل شهور، وبما جعل حديث جو بايدن العجوز الخرف عن استعادة «القيادة الأمريكية للعالم» محط سخرية واستهزاء، ونزع خوف التابعين من سطوة أمريكا المزعومة، وعلى نحو ما بدا في تصويتات الأمم المتحدة نفسها في مجرى العملية الأوكرانية، فقد حشدت أمريكا كل قوتها وضغوطها، وحملت 141 دولة على إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة مع بدء الحرب، ثم تناقص العدد إلى 93 دولة في التصويت اللاحق لتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، أي أن 48 دولة خرجت عن طاعة أمريكا في أسابيع، وفي المقابل، رفضت أو امتنعت 82 دولة عن التصويت ضد روسيا، وهو ما جعل دعوى أمريكا عن عزل روسيا محض هراء وطلقات أوهام، زادت من فزع أمريكا الغريزي، خصوصا أن الدول التي رفضت أو امتنعت عن إدانة روسيا، تكون الجزء الأكبر من سكان العالم وطاقاته في عوالم السلاح والاقتصاد، وبما دفع واشنطن لإشهار غضب منفلت، قادها لتدبير ودعم انقلاب في باكستان لإزاحة عمران خان بعد لقاء الأخير مع بوتين في موسكو، تبعته الحملة المحمومة على رئيس الوزراء الهندي مودي لوقف استيراده للغاز والبترول من روسيا، ومن دون أن تثمر الضغوط حتى على البلدين النوويين المتجاورين المتحاربين تاريخيا، فقد اندفع طوفان عارم من التأييد الجماهيري الجارف لعمران خان في باكستان، وصار بوسعه أن يكسب بسهولة أي انتخابات مقبلة في «إسلام آباد»، وامتنعت الهند عن تقديم أي تعهد مريح إلى واشنطن، والهند وباكستان كما هو معروف، تجمعهما علاقات تجارة واقتصاد أكثر تنوعا وتشابكا مع بكين حليفة موسكو، فوق ما ظهر من خسائر دول الغرب وشركاته الكبرى المقاطعة لموسكو، وهو ما قد يعني ببساطة، أن واشنطن تعاقب حلفاءها وتجدع أنفها.
كاتب مصري

 


 

التعليقات (0)