عبد الحليم قنديل يكتب: سياسة «النعجة دوللي»

profile
  • clock 14 مايو 2022, 5:20:36 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

خلافا لكل التوقعات الغربية المتبجحة، لم يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن شيء مما تسابقوا إليه، فلا هو أعلن عن انتهاء عمليته العسكرية الخاصة في أوكرانيا، ولا هو أعلن تغييرا جوهريا في قواعد اللعبة الجارية، ولا قفز إلى إعلانها حربا روسية كاملة الأوصاف، تستدعي اللجوء إلى حالة الطوارئ والتعبئة الشاملة، بل بدا بوتين في حالة ثبات انفعالي مدهش، تليق بلاعب شطرنج ولاعب «جودو» محترف، وقال إن الأحفاد سينتصرون لميراث الأجداد، وإن النصر العظيم الذي حققه الأجداد قبل 77 سنة على النازية الهتلرية، سوف يحدث مثله في «العملية العسكرية الخاصة» ضد من سماهم بالنازيين الجدد في الميدان الأوكراني، وإن عصر استفراد أمريكا بمصائر العالم قد ولى، وإن الروس اليوم يحررون وطنهم «الأم» حتى حدوده التاريخية في «الدونباس» وما وراء «الدونباس»، وأعاد التذكير باعتقاده أن التحرك العسكري الروسي كان «الحل الوحيد الصائب».
وعشية احتفال بوتين بعيد النصر السوفييتي، كانت الأمارات تتدافع إلى النهاية المتوقعة منطقيا، عبر قراءة خط سير الحوادث، وهو ما أشرنا إليه في مقال سابق بعنوان «نهايات صيفية»، توقعنا فيه أن تمتد العملية العسكرية الروسية إلى مدار شهور سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر المقبلة، وأن يعلن الرئيس الروسي وقتها التوقف عن إطلاق النار أو الهدنة، في اللحظة التي يفرض فيها وقائع على الأرض، لا تكون عندها من فرصة للتراجع عن أهدافه المعلنة من البداية، وباتفاق سلام أو من دونه، وهو ما يجري فعلا، وبهدوء عسكري متمهل، لا يعبأ كثيرا بالصخب الغربي الأمريكي والبريطاني بالذات، ولا بطلب الرئيس الأمريكي جو بايدن لاعتمادات مالية جديدة من الكونغرس تضيف 40 مليار دولار إلى ذخيرة التدفق العسكري في الميدان، وبهدف أمريكي معلن، عنوانه «إضعاف روسيا»، وربما هزيمتها وتفتيتها، وخلع بوتين بثورة متوهمة، دفعت الرئيس الأمريكي إلى إحياء قانون قديم صدر أواخر الحرب العالمية الثانية، يكفل سرعة نقل ووصول السلاح الأمريكي عبر جسر جوي إلى أوروبا «الأوكرانية» هذه المرة، وعلى ظن أن التاريخ قد يعيد نفسه على طريقة استنساخ «النعجة دوللي»، ويلقى بوتين مصير هتلر.
كما بدت كل سياسات بايدن منقولة بالحرف عن عصر الحرب الباردة الطويلة، زمن الصراع مع السوفييت، التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي، وإذلال روسيا من بعده، وهو ما لم يعد ممكنا بعد صحوة روسيا مجددا، واستيعابها لدروس ما مضى، وبعد التغير الواسع العميق في توازنات الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح على خرائط الدنيا، واستناد روسيا على جدار التفوق الصيني، الزاحف إلى القمة الدولية باقتدار، والتكامل الروسي ـ الصيني الزائد الذاهب إلى «علاقة بلا حدود»، وليس الرئيس الأمريكي وحده في سياسة استنساخ «النعجة دوللي»، التي نفقت بأمراض الشيخوخة المبكرة، بعد ست سنوات لا غير، ووضعت بقاياها للعبرة في متحف «إسكتلندي»، بل بدت القصة ذاتها مؤثرة متجددة في موطنها الأصلي، وسايرتها بريطانيا التي كانت امبراطورية عظمى في زمان صار بعيدا، وتحولت إلى دولة من الدرجة الثانية بعد هزيمتها التاريخية في «حرب السويس» المصرية، لكنها تتصرف مع روسيا الجديدة بروح «أنكلوساكسونية» متعجرفة، وتلجأ إلى نوع من «الريبيرتوار» المسرحي، تعيد فيه عروضا قديمة ذهب أوانها، تماما كما يفوت اليوم زمن القوة الأمريكية المنفردة المتسلطة كونيا، ولجأت لندن أكثر من واشنطن إلى عروض «كاريكاتيرية» مثيرة للسخرية، تأمل ـ مثلا ـ تصريحات بريطانية صدرت متواقتة مع «عيد النصر» الروسي، بينها تصريح عجيب لوزير الدفاع البريطاني بن والاس، قال فيها بالنص «إن أوكرانيا قادرة على تدمير الجيش الروسي»، قبلها نصح بوتين بألا يختبر بريطانيا، بدا الأمر فكاهيا، خصوصا بعد بدء تساقط ضباط وجواسيس بريطانيين في قبضة القوات الروسية، وبدء العد التنازلي لانكشاف «خبيئة آزوفستال» على ما تحمله من انفضاح أسرار الحشد الأمريكي البريطاني، ونشاطه المريب في أوكرانيا، ليس اليوم فقط، بل منذ ضم روسيا لشبه جزيرة «القرم» عام 2014، وهو ما لا يتخفى به المريب الذي «يكاد يقول خذوني»، وتدل عليه التقارير اليومية للبنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية عن مجريات الحرب الأوكرانية، وكلها تؤكد ما تزعمه من هزائم لحقت وتلحق بقوات الجيش الروسي، وعلى انهيارات متسارعة في الدائرة اللصيقة بالرئيس الروسي، وعلى تخاريف من نوع إصابة الرئيس الروسي بالسرطان أو بالشلل الرعاش، وعلى اعتقال بوتين لوزير دفاعه الجنرال سيرجي شويجو، وعلى اكتئاب الأخير وتعذيبه، ودخوله إلى غرفة العناية المركزة، وعلى سواها من ركام الأكاذيب المذاعة على مدار الساعة، كاشفة للأمنيات وكأنها حقائق، وقد سقطت بالجملة في احتفال 9 مايو، الذي استعرض فيه شويجو قواته بفخر ظاهر، وبدا فيه الرئيس بوتين بكامل الصحة والعافية واليقظة الذهنية المتألقة، بينما يدور الخصوم في متاهات الغيبوبة النفسية والعقلية، وتتوالى حلقات مسلسل «الخرف» الذي يضيع فيه العجوز بايدن، وتميد الأرض تحت أقدام رفيقه وتابعه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي ذهب إلى الهند، كما ذهب قبلها إلى السعودية، وفي مسعى خاب لردع أطراف مؤثرة عن التعاطف أو التبادل التجاري مع روسيا، وأفلتت من فمه في زيارة الهند عبارة تلقائية صريحة ناطقة، قال فيها بالنص «إنه لمن المحزن أن احتمال انتصار بوتين يبدو أمرا واقعا»، لكن جونسون لم يتوقع احتمالات هزيمته شخصيا، وفي عقر داره، حين جاءت الانتخابات المحلية البريطانية الأخيرة بنذر كوارث، تعده ليس فقط بالخروج الإجباري اللاحق من منصب رئيس الوزراء، بل بمخاوف مضافة على مصير المملكة المتحدة نفسها، مع الغلبة المفاجئة للقوميين الاستقلاليين الانفصاليين في إسكتلندا وأيرلندا الشمالية، بل في ويلز أيضا، ومع هزيمة واسعة لحزب المحافظين الحاكم في إنكلترا نفسها، وكأن أحلامه في تفتيت روسيا انقلبت إلى كوابيس في مقاطعات بريطانيا أولا.

بدت كل سياسات بايدن منقولة بالحرف عن عصر الحرب الباردة الطويلة، زمن الصراع مع السوفييت، التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي

ولم يعد من شيء في القصة خافيا، فلسنا بصدد حرب محدودة لروسيا في أوكرانيا المجاورة، بل بصدد حرب ذات طابع عالمي، دخلتها ضد روسيا 43 دولة اجتمعت في قاعدة «رامشتاين» الأمريكية على الأراضي الألمانية، ومن دون أن تؤدي الحرب الشاملة إلى شيء مما زعموه عن «عزل روسيا»، فرغم آلاف العقوبات المالية والتجارية غير المسبوقة ضد موسكو، ورغم إشاعة العداوة العنصرية الكارهة لكل ما هو روسي، ورغم تدفق السلاح «الفتاك» من الأنواع والأجيال كافة إلى الميدان الأوكراني، ورغم الحملة المحمومة عالميا، فإن شيئا مما أراده الغرب، ومما أرادته واشنطن، ومعها الحلف «الأنكلوساكسوني» بالذات، وكلها أهداف وأمانٍ معلنة، لم يتحقق منها شيء في الواقع المنظور، بل ربما تحقق الكثير على العكس منها، فقد تكون التعبئة الضارية قد أدت إلى نوع من إعاقة التقدم العسكري الروسي، لكنها لا تمنع قدرا تاريخيا يبدو مرجحا، هو النصر الروسي العسكري المحقق، وطبقا لأهداف موسكو المعلنة، و»الأرض تكذب الهجاصين» كما يقولون، فرغم انسحاب القوات الروسية من حصار كييف، والتركيز أولا على جبهة الشرق الأوكراني، وتبنيها لتكتيك عسكري، يهدف إلى خفض الكلفة المالية والبشرية، واعتماد سياسة القصف الصاروخي والجوي لكل مناطق أوكرانيا، ومداومة التدمير اليومي لمخازن وخطوط نقل السلاح الأمريكي والغربي، مع اتصال الزحف البري بنفس بطيء هادئ، يقضم أراضي إقليم «الدونباس» بلدة فبلدة، وصل إجماليها حتى كتابة السطور إلى خمسة وثمانين في المئة من إقليم «الدونباس» الأغنى بموارده المعدنية والزراعية والصناعية، ولم تبق في «الدونباس» مدن مهمة خارج حوزة الروس والقوات الحليفة، سوى سلافيانسك وكراماتورسك، وهي ستسقط حتما كما يبدو، إضافة لاستيلاء الروس على مقاطعة خيرسون الجنوبية منذ بداية الحرب، وعلى أجزاء كبيرة من مقاطعات خاركيف وميكولايف وأوديسا، والاقتراب الحثيث من قطع اتصال ما يتبقى من أوكرانيا بالبحر الأسود، بعد ضم بحر آزوف وماريوبول بكاملها، وكلها تطورات مرئية ملموسة، شجعت على زيادة الشروخ في التحالف الغربي الأوسع، الذي اندفعت إليه أطراف بالحرج وبالإكراه الهستيري، وبينها ألمانيا وفرنسا، وهو ما يفسر حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على مداومة الاتصال بالرئيس الروسي، وكلامه عن التوصل لاتفاق بعيد عن خرافة «إذلال روسيا» الأمريكية البريطانية، مع تعليق رغبة أوكرانيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي، وتصاعد الخلافات الأوروبية في جدوى العقوبات المزمعة ضد موارد الطاقة الروسية، والانتعاش المذهل لعملة «الروبل» الروسي، وغرق أوروبا وأمريكا في دوامة التضخم وغليان الأسعار، واحتمالات ذهاب بايدن إلى محنة الوهن والغياب السياسي، وربما إلى مزابل التاريخ.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)