عبد الحليم قنديل يكتب: عندما تنتهي الحرب

profile
  • clock 12 مارس 2022, 5:58:27 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أبشع فظائع حرب أوكرانيا في مكان آخر، ولا تقتصر على تلك المنسوبة للروس، بل للأمريكيين أولا، الذين يزوّرون التاريخ والحاضر بالجملة، ويستخدمون قضية أوكرانيا كحجر على رقعة شطرنج، ولا تعنيهم هموم المقاومة الأوكرانية، إلا بقدر ما توفره من فرص لتركيع المنافس الروسي الشرس، وبدعوى أن روسيا خرقت قواعد القانون الدولي، وتقوض سيادة دولة عضو في منظمة الأمم المتحدة، وهو ما يبدو صحيحا بالنظرة المجردة، لكن الصحيح أيضا، وبقدر هائل من السلامة والوثوق، أن واشنطن آخر من يسوغ له الحديث بحرف عن المبادئ والقوانين وجرائم الحروب، فليس أسوأ من أمريكا مثالا في شناعة الحروب، التي شنتها على الآخرين، بل إن أمريكا ذاتها كدولة، نشأت على مذابح القتل والاجتثاث، وقامت على أنقاض وجماجم عشرات الملايين من الهنود الحمر، وخاضت أكثر من تسعين حرب عدوان، بدءا من الاستيلاء بالقوة على أراضي دول الجوار واغتصاب ولايات تكساس وكاليفورنيا ونيوميكسيكو وفلوريدا من جارتها المكسيك.
ثم توالت عشرات حروبها في دول أمريكا الجنوبية، وفي الصين وروسيا وتركيا وغيرها، وصولا إلى ارتكابها سابقة القصف النووي الوحيدة في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين نهاية ما عرف باسم الحرب العالمية الثانية، وبعدها في حروب تدخل وتآمر من اليونان إلى الفلبين وإيران وغواتيمالا ولبنان وبنما ولاوس وهايتي والإكوادور وكوبا وليبيا والصومال وسوريا، وإلى سواها مما لا تسع حصره مجلدات دم ثقيلة، وقتل أكثر من عشرة ملايين إنسان في حروب غزو فيتنام والعراق وأفغانستان، إضافة لدعمها الإجرامي ومشاركتها في حروب «إسرائيل» ومجازرها ضد العرب والفلسطينيين بالذات. ثم بعد ذلك يحدثونك عن ضمان واشنطن لحقوق الإنسان وحريات الأوطان، والدم يسيل من أفواههم على منابر الأمم المتحدة ومجلس أمنها عديم المعنى.
وقد لا تزر أوزار أمريكا وزر روسيا ولا غيرها، لكن قوات أمريكا التي تقطع آلاف الأميال لتحارب وتفني بلدا آخر، لا تقاس بهمجية إهدارها لأي مبدأ إنساني أو حتى حيواني، إلى ما تفعله روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، فروسيا تحارب وتهاجم أوكرانيا على حدودها المباشرة، وبحق الدفاع عن النفس المقرر أمميا، وبمضاعفات تاريخ معقد، جمع البلدين روسيا وأوكرانيا في دولة «الاتحاد السوفييتي» على مدار سبعين سنة، ثم لزمن طويل قبلها في ظل حكم الإمبراطورية الروسية، كانت «كييف» فيه أول عاصمة لروسيا في القرن التاسع الميلادي، ورغم موافقة روسيا بعد انهيار الحكم السوفييتي، وتوقيعها على «مذكرة بودابست» ـ عام 1994 ـ القاضية باستقلال أوكرانيا مع نزع سلاحها النووي، إلا أن تداخلات البلدين ظلت موضع قلق، فاقمه تدخل وعدوان الأمريكيين وتوابعهم الأوروبيين بعامة، وحنثهم بتعهدات قطعوها لموسكو في عقد التسعينيات من القرن العشرين، ومدهم لحضور حلف شمال الأطلنطي «الناتو» شرقا على موجات إلى حدود روسيا، وتدبيرهم لانقلابات معادية للروس في أوكرانيا، زادت حدتها عام 2014، مع فوضى الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش المقرب من روسيا، ودفعه للهروب إلى موسكو، والاستنجاد بقوتها العائدة بعد عقدين من الهوان والضعف، وهو ما دفع بوتين إلى التدخل بالقوة العسكرية الخاطفة، واستعادة شبه جزيرة «القرم» التي كان نيكيتا خروشوف، قد أضافها لأراضي أوكرانيا عام 1956، ودعم تمرد سكان أوكرانيا من الروس، الذين تصل تقديرات متفاوتة إلى كونهم من خمس إلى ثلث سكان أوكرانيا، ويقيم أغلبهم في منطقة «دونباس» الأغنى بثرواتها ومواردها ومزارعها ومصانعها في أوكرانيا كلها، وهو ما يفسر نزعات الانفصال التي اجتاحت الشرق الأوكراني، وإقامة جمهوريات لوغانيسك ودونيتسك وغيرهما، وقد تحول سكانها إلى هدف للعدوان والإبادة على مدى سنوات طويلة، وحرموا من أبسط حقوقهم في التحدث والتعلم والتعامل بلغتهم الروسية، التي جرى إسقاطها وحذف مكانتها دستوريا كلغة رسمية ثانية بأوكرانيا، وقهر الروس الأوكران على يد القوميين الأوكران، الذين تلقوا دعما بلا حدود من الأمريكيين والأوروبيين والصهاينة اليهود.

روسيا تدرك أنها تحارب أمريكا والغرب في أوكرانيا، وتسعى إلى نهاية تحقق لها أعظم المكاسب بأقل الخسائر

إلى أن انتقلت الرئاسة في «كييف» من بوروشينكو ملك الشيكولاته، إلى الممثل الكوميدي اليهودي الصهيوني فولوديمير زيلينسكي، الذي تصوره الدعاية الغربية اليوم كبطل قومي أوكراني، بينما كان «القوميون الأوكران» متهمون بالولاء لنازية هتلر عند كل هؤلاء، وفيما يواصل بوتين والدعاية الروسية وصم «القوميين الأوكران» بالنازيين، فقد تراجع الغرب «الديمقراطي!» وانقلب على مواقفه، ونقل القوميين الأوكران من خانة النازية ومعاداة السامية إلى خانة الحركة التحررية الديمقراطية، ورد اعتبار ستيبان بانديرا مؤسس حركة القوميين الأوكران، وقد قتل في مدينة ميونيخ الألمانية أواخر 1959، ونسب اغتياله إلى عميل للمخابرات السوفييتية «كي. جي. بي» ومن دون أن يبكيه أحد في الغرب، الذي يعيد استخدام اسمه ورمزيته اليوم، وهو يحظى بشعبية هائلة في غرب أوكرانيا بالذات، ويعاد تمجيد اسمه وإنشاء متاحف تخليده، وهو ما أضاف استفزازا لا يطاق عند الروس، الذين يعتبرون بانديرا وجماعته من قتلة وأعداء الروس، بسبب تعاونه وجماعته مع الغزو النازي في الحرب العالمية الثانية، وقد قتل فيها ما يزيد على 25 مليون روسي، وهو ما يفسر حساسية الروس المفرطة من حركة القوميين الأوكران، التي تجد اليوم في الغرب «الديمقراطي» حليفها الرئيسي، وفي مدينة «لفيف» عند الحدود مع بولندا، عنوانا ومدارا لحركة السلاح المتدفق على أوكرانيا من أمريكا ودول أوروبا الأطلنطية، رغم أن بانديرا (1909 ـ 1959) ابن مدينة «لفيف» بدأ نشاطه القومي بالحرب ضد بولندا بالذات، وهو ما بدا كمفارقة لافتة، فبولندا التي صارت من سنوات عضوا في «الناتو» صارت معبرا رئيسيا لتزويد ورثة بانديرا بالسلاح، وعبر مطار سري في بولندا قريب من «لفيف» تهبط فوق مدرجاته يوميا 17 طائرة نقل سلاح أمريكية ضخمة من طراز «سي ـ 17» تحمل آلاف الأطنان من الصواريخ والأسلحة الفتاكة، وتعبر برا إلى أوكرانيا لتسعير الحرب والقتل وجرائم الإبادة فيها، وجعلها ساحة استنزاف للأوكران والجيش الروسي، الذي اختار خطة لعمليات من نوع مختلف على ما يبدو، لا تعتمد على استخدام القوة الباطشة وتفوق النيران الساحق، بل على الخنق البطيء التدريجي للمدن، وعدم التورط في حروب شوارع استنزافية مستعجلة، بل على تدمير ممنهج للبنية العسكرية التحتية، وباستخدام الصواريخ الباليستية المتطورة فائقة الدقة غالبا، وتحويل أراضي أوكرانيا إلى مصيدة لترسانات السلاح الأمريكي، ونزع سلاح جيش أوكرانيا، الذي تقوده كتائب «آزوف» وغيرها من جماعات القوميين الأوكران، وتأجيل التعامل العسكري مع مناطق الغرب الأوكراني، الذي لا تمانع روسيا على ما يبدو في انفصاله، ربما كما كان عند نشأة «جمهورية غرب أوكرانيا الشعبية» زمن بانديرا، بشرط خفض سلاحه، وجعله منطقة عازلة محايدة على حدود روسيا الاستراتيجية مع حلف «الناتو» وهو ما يفسر تكتيكات «الخض والرج» التي تقوم بها روسيا، ومزجها لتحركات السياسة مع السلاح، وإعلاناتها المتكررة الموقوتة عن المفاوضات، ووقف إطلاق النار وفتح المخارج للراغبين في الهروب من المدن، وتصميمها على انتزاع صك استسلام نهائي من حكومة أوكرانيا، فروسيا تدرك أنها تحارب أمريكا والغرب في أوكرانيا، وتسعى إلى نهاية تحقق لها أعظم المكاسب بأقل الخسائر، وتدرك أن الحلف الغربي لن يغامر بحماقة خوض حرب نووية مع موسكو، ولن يخاطر بفرض منطقة حظر طيران في سماء أوكرانيا، حتى لو أبادت روسيا زيلينسكي وجماعته.
المعنى إذن، إننا بصدد حرب من نوع خاص، لا يصلح فيها الاحتجاج بمبادئ القانون الدولي، خصوصا إذا كانت أمريكا على منابره، وهو ما ينزع عنه كل قيمة أخلاقية، ويجعله تلاعبا بالقانون ضد القانون نفسه، فواشنطن لا تعرف سوى لغة القوة العارية، ولن تفيدها على الأغلب حملاتها الدعائية المحمومة، ولا معاييرها المزدوجة والمثلثة والمعشرة، ولا تمسحها الكاذب بالمبادئ وسيادة الدول، ولا آلاف السلاسل من العقوبات القصوى التي نزلت وتنزل بمطارقها على رأس موسكو، فنحن بصدد حرب أوسع من حدود أوكرانيا، حتى إن كان البلد المنكوب ضحيتها الأولى، لكنها تطورت إلى حرب ذات طابع عالمي، تستثمر فيها أمريكا كل ما تبقى من قوتها وهيمنتها الكونية الغاربة، ولا يعنيها أن تذهب أوكرانيا إلى الجحيم، بقدر ما تريد تصفية الحساب مع روسيا وحليفتها الصين، وهو ما يبدو حصاده ظاهرا من اليوم، فليس لأمريكا في النهاية، سوى أن تسلم باكتمال عناصر استقطاب دولي جديد، ينزع عن واشنطن صفة «القوة الأعظم» الوحيدة، وينزلها إلى منزلة «قوة عظمى» بين متعددين، لا تكون بينهم الأولى.
 

التعليقات (0)