عبد الحليم قنديل يكتب: فرصة ليبيا الأخيرة

profile
  • clock 19 فبراير 2022, 5:49:00 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ربما لا تكون حكومة فتحي باشاغا كسابقاتها في دفاتر ليل ليبيا الطويل، بدأت القصة كما هو معروف بانتفاضة شعبية حقيقية في 17 فبراير 2011، ثم سرعان ما جرى تلويث المشهد، وبدأت «العسكرة» الفورية والصدامات الدامية، وتوالت معارك كتائب نظام العقيد القذافي مع المجموعات المسلحة المعارضة، وطلبت الأخيرة تدخلا أجنبيا عسكريا، لم يتأخر بقرار لمجلس الأمن وضع ليبيا تحت أحكام «الفصل السابع» وجرى القصف الجوي المركز من دول حلف الأطلنطي «الناتو» وكانت النتائج فاجعة كبرى، انتهت إلى تدمير ما كان قائما على هشاشته من كيان الدولة في ليبيا، وابتذال معنى الثورة، وسيطرة مئات من عصابات السلاح والإرهاب والجريمة المنظمة، وخوض حروب أهلية متعاقبة، وتشكيل حكومات وحكومات مقابلة، إلى أن بدت فرصة خلاص نسبية، بعد الإعلان عن خط أحمر عند «سرت» و»الجفرة» وسط ليبيا، وعلى مسافة ألف كيلومترغرب الحدود المصرية.

غياب القدرة على إعادة بناء الدولة، حرم الليبيين من التنعم بثرواتهم، وأحل مظاهر البؤس والدمار، وجعل ليبيا محطا لوصايات دولية وإقليمية

وقد لا تكون من حاجة لإعادة سرد الرواية الليبية الحزينة، ووعود الخلاص التي تكاثرت، ومن دون أن يتحقق شيء منها، في بلد متسع الجغرافيا تزيد مساحته على 1.76 مليون كيلومتر مربع، وتمتد إطلالته على البحر المتوسط إلى 1700 كيلومتر، وبعدد سكان قليل (نحو سبعة ملايين نسمة) مع توافر ثروات طبيعية هائلة في شرق ليبيا وجنوبها بالذات، ففيها أكبر مخزون احتياطي بترولي في القارة الافريقية بكاملها، وموارد «غاز طبيعي» ضخمة.
لكن غياب القدرة على إعادة بناء الدولة، حرم الليبيين من التنعم بثرواتهم، وأحل مظاهر البؤس والدمار، وجعل ليبيا محطا لوصايات دولية وإقليمية متكاثرة الأطراف، فوق جعلها مرتعا لجماعات الإرهاب وعصابات الهجرة غير الشرعية، وتهاوي رمزية الحكومات التي جرى تشكيلها تباعا، من «المجلس الوطني الانتقالي» إلى حكومات محمود جبريل وعلي الترهوني وعبد الرحيم الكيب وعلي زيدان وعبد الله الثني وأحمد معيتيق وعمر الحاسي وخليفة الغويل وفايز السراج وعبد الحميد الدبيبة، وقد حملت كلها أسماء براقة، من نوع «الإنقاذ» و»الوفاق الوطني» و»الوحدة الوطنية» ومن غير أن يكون لأي منها نصيب في اسمها، فلم يكن يرادفها غير العجز والفساد ونهب ثروات البلد، مع التكرار «الإسهالي» لكلمات الثورة والديمقراطية والسيادة والحرية، والوجود المزمن لمجالس يفترض أنها كانت منتخبة، فاتت أزمنتها جميعا، من نوع «مجلس النواب» المنتخب عام 2014، وسلفه «المؤتمر الوطني العام» المنتخب في 2012، وتغير اسمه إلى «المجلس الأعلى للدولة» بعد عقد «اتفاق الصخيرات» أواخر 2015، ومن دون أن يحل اللاحق محل السابق، ولا أن يختفيا بحكم انقضاء مدد صلاحيتيهما، بل تحولا إلى عنوانين لانقسام جهوى مخيف، تأكدت ملامحه مع الحرب الأهلية الثانية، التي بدأت عام 2014، وتوالت أطوارها حتى حملة الجنرال خليفة حفتر للاستيلاء على العاصمة طرابلس، في أوائل إبريل 2019، توقفت بعد التدخل التركي لنجدة جماعات الغرب الليبي، وتراجع جماعة «الجيش الوطني» إلى غرب «سرت والجفرة» بالخط الأحمرالمعلن من مصر أواسط 2020، مع نشر أكثر من عشر قواعد عسكرية أجنبية، وتكاثف حضور جماعات المرتزقة في شرق ليبيا وغربها، وهو ما جعل إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جامعة مستحيلا، على نحو ما جرى بإلغاء انتخابات 24 ديسمبر 2021، والعودة إلى نقطة الصفر من جديد، حتى التقاء إرادة المتصدرين في الشرق والجنوب مع قيادات مؤثرة من الغرب الليبي، والاتفاق مؤخرا عبر «مجلس النواب» على تكليف باشاغا، الذي وعد بتشكيل حكومة جامعة، تعد لانتخابات رئاسية وبرلمانية أواسط 2023 المقبل، يسبقها استفتاء على وثيقة دستورية، تصوغ ملامح نظام حكم مستقر، وتمنع انزلاق ليبيا إلى تفكيك نهائي. ولعل بعض ما قد يحسب للحكومة المنتظرة، أن إرادة أطراف ليبية، كانت متحاربة، التقت عليها، من دون تجاهل بالطبع لأدوار أطراف أجنبية وعربية مؤثرة في الوضع الليبي، لكن إخراج الحكومة على الأقل بدا ليبيا ذاتيا وعلى أرض ليبية، وبقرار جماعي من «مجلس النواب» الذي توافق أكثر مع بقايا «المجلس الأعلى للدولة» قبلها كان التفاهم ظاهرا بين حفتر وباشاغا، وكانا ممن ترشحوا في الانتخابات الرئاسية الملغاة، وجمعهما لقاء وفاق علني مفاجئ في بنغازي أواخر ديسمبر 2021، قبلها كان الرجلان طرفي حرب دموية ضروس على أبواب طرابلس، وكان باشاغا وقتها وزيرا لداخلية حكومة السراج، وقطبا مركزيا في تعبئة جماعات «مصراته» المسلحة، وهي القوة العسكرية الأكبر في مدن الغرب الليبي، وكان باشاغا يصف غريمه حفتر بنعوت غاية في القسوة، لكن لقاء بنغازي، جعل العدو السابق كأنه الولي الحميم، وهو ما بدا للعيان في الترحيب الفوري لجيش حفتر بتنصيب النواب لرئيس الوزراء الجديد، الذي تعهد بعدم الترشح مجددا لانتخابات الرئاسة المقبلة، وهو ما قد يوحي بإفساح المجال لإعادة ترشيح حفتر، أو أحد حلفائه رئيسا، ربما سدا للطريق على فرص سيف الإسلام القذافي، الذي يحلم باستعادة كرسي أبيه، ويحظى بتأييد شعبي ملموس في الغرب والجنوب الليبي بالذات، بينما يسيطر حفتر عسكريا وسياسيا على الشرق، وأغلب الجنوب، ويبدو حضور باشاغا قويا في الغرب، وفي عاصمة سلاحه «مصراته» وفي سوابق لصدام قواته مع ميليشيات من مدن «طرابلس» و»الزاوية» و»الزنتان» و»زوارة» وغيرها في الغرب الليبي، ربما تكون بروفة لصدام متجدد وارد، يرمي لإجبار حكومة الدبيبة على التنحي، و»الدبيبة» ينحدر من «مصراته» أيضا، وإن كان يعتمد على أمواله، لا على ثقل سياسي وعسكري راسخ، وقد بدا باشاغا واثقا من فرصه، خصوصا بعد أن التقت به الأمريكية ستيفاني ويليامز مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الليبية، وكانت سابقا رئيسة بعثة الوصاية الدولية، وبدت في السنوات الأخيرة كحاكمة بأمرها في ليبيا، وأدارت عملية فرض الدبيبة، عبر ما سمى «لقاء الحوار الليبي» في جنيف، وقد بدأ الدبيبة عمله في 5 فبراير 2021، وأعطاه مجلس النواب ثقة، سرعان ما جرى سحبها، مع ظهور معارضة جماعة حفتر (القيادة العامة للجيش الوطني الليبي) لوجوده ودوره تماما، ومد حبال تحالف مصالح بين عقيلة صالح رئيس مجلس النواب وفتحي باشاغا، وكانا ترشحا معا على قائمة واحدة في «حوار جنيف» السابق، وهكذا جرى تمهيد الأرض لخلع الدبيبة، وإحراج راعيته ستيفاني، التي ربما نصحته بالرحيل دونما ضجيج، ولا استعانة بميليشيات اشتراها، وبالذات بعد حصول حكومة باشاغا المتوقع على ثقة مجلس النواب التلقائية، وبما يعني رفع الغطاء الدولي عن الدبيبة، بعد تلاشي الغطاء المحلي، وحصول باشاغا على تأييد قوي من القوى الإقليمية المؤثرة، فله علاقات ثقة سابقة مع تركيا، وكانت مصر الدولة الأولى في إعلان الترحيب باختياره، وهو ما عنى تأييدا مصاحبا من الجزائر وتونس، وقد زاد توثق علاقات القاهرة وتونس والجزائر في الفترة الأخيرة، وبدا الإجماع غالبا في العواصم العربية الثلاث المجاورة على رؤية متقاربة للوضع الليبي، وصد مخاطر جماعات الإرهاب التي تستوطن الفراغ الليبي.
ومع تقدير قيمة التوافق السياسي على تشكيل حكومة ليبية جامعة، إلا أن «التحدي الأمني» يبدو الأخطر، فلا إمكانية لانتظام دولة في ليبيا بدون جيش موحد، وبدون إخراج المرتزقة والقوات والقواعد الأجنبية، وكل ما جرى من تحسن أمني إلى اليوم، أن وقف إطلاق النار ظل صامدا عند خط «سرت ـ الجفرة» وأن اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) آتت بعض أكلها، في فتح المطارات والطرق، وفي عقد لقاءات رفيعة المستوى بين «القيادة العامة» في الشرق و»رئاسة الأركان» في الغرب، لكن المعضلة المعقدة، أن قيادة الشرق العسكرية بلا منافس منازع في جغرافيا سيطرتها شرقا وجنوبا، بينما لا تبدو الجماعة العسكرية المقابلة في الغرب على الحال نفسه، ولا تستطيع إلزام عشرات الميليشيات في الغرب بموقف أو بسلوك، وقد بذل باشاغا جهودا لدمج أو حل بعض هذه الميليشيات، حين كان وزيرا للداخلية، والمهمة المعلقة ذاتها تنتظره بعد تكليفه رئيسا للوزراء، وهو ما قد يستدعي صدامات عسكرية في الغرب المزدحم بالميليشيات والعصابات، وبنفوذ محسوس لتيارات اليمين الديني المتداخلة مع جماعات الإرهاب، فاستعادة الأمن في ليبيا مهمة عسيرة، خصوصا مع اتساع المساحة، وتركز 90% من السكان في مدن الساحل الليبي، وترامي فراغ مرعب في الجنوب بالذات، وانفلات الحدود مع تشاد والنيجر والسودان، والوجود الغالب لأكثر من 140 قبيلة، إضافة لمجموعات عرقية، قد توفر ملاذات اجتماعية حاضنة لجماعات الإرهاب العابر للحدود .
كاتب مصري


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)