عبد الحليم قنديل يكتب: فلسطين الأخرى

profile
  • clock 5 فبراير 2022, 6:25:25 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

«فلسطين الشعب» غير فلسطين الواجهات الأمامية والفصائل، أخبار الأخيرة تبعث على الانقباض وعدم الارتياح، وتكاد توحي بأن القضية ماتت، بينما «فلسطين الشعب» تقاوم ببسالة هائلة، وفي حال اشتباك يومي، جسور مع الكيان المحتل، وفي كامل الوطن من النهر إلى البحر، من القدس إلى الخان الأحمر ونابلس وجنين وغزة والنقب، والحركة دائبة، الشهداء يصعدون، والأسرى يزفون، والأمهات ملح الأرض وأشجار السنديان يلدن الفدائيين، ويرتلن الصلوات والأغنيات، ويرابطن في الساحات والمساجد والكنائس، والكل يثق في وعد الله الآتي حتما بتحرير كل فلسطين.
كل يوم ملحمة في فلسطين، يصنعها الناس العاديون جدا، ومن دون تنظير ولا تأطير، مرابطات المسجد الأقصى يفزعن العدو بالتكبيرات، وشيوخ البدو في «النقب» يستميتون دفاعا عن قراهم، وشباب المقاومة يديرون عملياتهم التلقائية الجريئة، ويردون ويصيبون ما تيسر من عسكر الاحتلال وقطعان المستوطنين، والعدو يجن جنونه، ويشهر نفتالي بينيت ـ رئيس حكومة إسرائيل ـ عجزه عن مواجهة بدو النقب، رغم استخدام كل الأسلحة من خراطيم المياه «العادمة» إلى قنابل الغاز إلى الطائرات المسيرة، وحتى الرصاص الحي، ومن دون أن يرفع أهل النقب راية بيضاء، بل تزحف تجمعاتهم ومظاهراتهم هادرة إلى مقر حكومة العدو، وتجتمع على صيحاتها لجان المتابعة العربية داخل الأراضي المحتلة عام 1948.

حركة مقاومة الشعب الفلسطيني تتطور، وبمبادرات شعبية تلقائية غالبا، بينما حركة الفصائل والواجهات الرسمية المتنازعة تمضي في الاتجاه المعاكس

وهي الحالة نفسها في القدس والضفة الغربية، وفي صمود الناس أمام الاستيطان وهدم المنازل والأحياء العربية، ولا تخفت المقاومة أبدا، رغم القمع والقتل والاعتقال، ففي أول شهر من العام الجاري، أسرت «إسرائيل» مئات من الأطفال والشباب والشابات والمجاهدين المضافين إلى أسرى عام 2021 الذي سبق، وقد بلغ عددهم ما يزيد على ثمانية آلاف فلسطيني وفلسطينية، كان بينهم 1300 قاصر وقاصرة، وما أن يفرج عن بعضهم بعد الترويع، حتى يعودوا إلى الاشتباك من جديد، على نحو ما فعل مثلا الشهيد المقدسي فادى أبو شخيدم، الذي أطلق الرصاص على عسكري إسرائيلي فأصابه، وعلى المستوطن إلياهو كاي فقتله، وهدم العدو منزل أسرته انتقاما، ومن دون أن يجدي ذلك قهرا، أو يطفئ لهيب المقاومة، فقوافل «خنساوات فلسطين» تواصل طريقها إلى نهايته، وقبل أيام، توفيت فقيدة فلسطين أم محمد عز الدين من بلدة عرابة في جنين، وهي أم وجدة لعشرات الأسرى في سجون الاحتلال، بينهم سبعة من كبار الأسرى المحررين، حرم بعضهم من المشاركة في جنازتها بسبب الإبعاد إلى غزة، ومثل أم محمد كثيرات وبالمئات، ففي سجون الاحتلال الثلاثة والعشرين، يقبع ما يزيد اليوم على خمسة آلاف أسير فلسطيني، بينهم 700 أسير في حالات مرضية حرجة، لم تمنعهم من المشاركة في إضرابات متصلة متنوعة، حققت انتصارات كسرت جبروت العدو، كما حدث في حالة الأسير هشام أبو هواش، الذي أضرب عن الطعام لمدة 141 يوما متتابعة، وأرغم الاحتلال على التسليم بالإفراج عنه، وكما يحدث اليوم في حالة الأسير المصاب بالسرطان ناصر أبو حميد، الذي تواصل الحركة الأسيرة حملاتها لتحريره، ومن دون أن تفتر همة الأسرى والأسيرات، وقد بلغ عددهم منذ بداية احتلال فلسطين 800 ألف، منهم من قضى نحبه، ومن ينتظر، ولا يبدل ويثبت على وعد وعهد الحرية، لا يخيفهم كما لا يخيف أحرار شعبهم، الباسل المبدع، أن موازين القوة العسكرية في صالح الاحتلال، وأن حكومات أمتهم في غالبها تسند عدوهم بالتطبيع الفاجر، فصبوات الروح المقاومة أقدر على تعديل الموازين المختلة، ولا يوم يمر بدون إنهاك قوة العدو، وابتداع الفلسطينيين لأساليب جديدة، من حفر الأنفاق تحت السجون بالملاعق، إلى التصنيع الذاتي لتكنولوجيا الصواريخ والطائرات المسيرة، والثبات المذهل بالصدور العارية كما يجري في «القدس» و»النقب» وإرضاع الأمهات أطفالهم حليب التحدي، والثقة الكاملة بأن يوما سيأتي، تتحرر فيه كل فلسطين، ولو زحفوا شبرا فشبر، وجيلا بعد جيل.
وفي مقابل حيوية الشعب الفلسطيني، الذي يصنع الحدث، ويفرش الأرض بسيل الدماء الزكية، بينما الواجهات الفلسطينية في مكان آخر تماما، توالى حواراتها العقيمة، تحت عناوين صارت مزمنة، كمصالحات الفصائل وغيرها، وتذهب إلى الجزائر بعد مقابلات القاهرة، ومن دون أن تصل إلى جديد يذكر، فالهوة على حالها بين «فتح» و»حماس» منذ الاحتراب الدموى أواسط 2007، وبين سلطتي رام الله وغزة، وكأننا بصدد كيانين عدوين، وليست فصائل تنتسب إلى شعب واحد، وما أن يتم اتفاق على بيان مشترك، حتى يجري نسخه عمليا وبالجملة، واستئناف الدوران في حلقات مفرغة، لا تنتهي أبدا، إلى غاية تجديد منظمة التحرير الفلسطينية، ولا إلى برنامج تحرير متوافق عليه، فلا تزال الأوهام تفرض قانونها، ودعاوى الذهاب لمفاوضات تتواصل

 رغم أن كلمة كيان الاحتلال قاطعة، وحكومة بينيت تؤكد عدم اعترافها حتى باتفاقات «أوسلو» سيئة الصيت، وبينيت نفسه يرفض أي مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين المعنيين، ويعتبر أن إقامة دولة فلسطينية، حتى لو كانت منزوعة السلاح بمثابة انتحار لإسرائيل، وهو كصهيوني متطرف، لا يؤمن بغير مبدأ «إسرائيل الكبرى» والاستيطان اليهودي الكامل للقدس والضفة الغربية، ولا مانع عنده من اتصالات لا مفاوضات مع سلطة رام الله، يحصر غايتها في تقليص الصراع لا حله، وحث عمليات «التنسيق الأمني» في الضفة الغربية، وتجنيد الطرف الفلسطيني في خدمة مشروعه الاستيطاني الإحلالي، بينما لا تجد عند الواجهات الفلسطينية جديدا، سوى التنادي إلى اجتماعات تعقب الاجتماعات، ودعوة ما يسمى «المجتمع الدولي» إلى إدانة الاحتلال، والاستغاثة بعطف موهوم من إدارة جو بايدن، وتكرار الاتصالات الملحة مع بايدن، أو مع وزير خارجيته الصهيوني أنتوني بلينكن، والشكوى إليه من توحش الاستيطان وهدم بيوت الفلسطينيين، ومن تباطؤ واشنطن في إعادة افتتاح قنصلية اتصال مع الفلسطينيين في القدس، فيما تتلاعب واشنطن بأعصاب المسؤولين في الواجهات الفلسطينية الرسمية، ولا تنفذ عمليا سوى رغبات الكيان الإسرائيلي، الذي لا يريد أبدا عودة قنصلية أمريكية للفلسطينيين في القدس، ويعتبر إقامتها مخالفة صريحة لاعتراف واشنطن بالقدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، وهو القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ولا يجرؤ خلفه على شطبه، تماما كما يمتنع بايدن عن إعادة فتح ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، ويقترح على الرئيس الفلسطيني محمود عباس حلا هزليا، وتعيين مستشار قانوني للمنظمة في واشنطن، بدلا من إعادة فتح السفارة، ثم يذهب إلى ما هو أنكى، ويدعو السلطة الفلسطينية لإيقاف رواتب الأسرى الفلسطينيين، مع استمرار التظاهر بدعم واشنطن لما يسمى «حل الدولتين» والمعنى ظاهر، فلا جديد عند «واشنطن بايدن» مختلف عن «واشنطن ترامب» ولا وقت عند الإدارة الأمريكية الحالية للاهتمام بمشاغل الفلسطينيين الرسميين، فمشاكلها الداخلية والدولية بالكوم، ولها أولوية مطلقة، بينما الإدارة الفلسطينية لا تفعل غير اجترار ما فات، والتعويل على اتفاقات «أوسلو» التي شبعت موتا، ويتنصل منها رئيس الوزراء الإسرائيلي بصورة كاملة، ويعد بعدم التفاوض حول إقامة دولة فلسطينية طوال فترة رئاسته للوزراء الممتدة نظريا إلى أغسطس/آب عام 2023، ثم عرقلة أي مساعي من شريكه ووريثه يائير لابيد لتجديد التفاوض مع الفلسطينيين الرسميين، والتعهد بالانسحاب فورا من الحكومة وإسقاطها إن حدث شيء من ذلك، خصوصا أن الحكومة لها أغلبية صوت واحد في الكنيست، وبينيت لديه سبعة أصوات ممثلة لحزبه «البيت اليهودي» وهو ما يعني ببساطة ووضوح، أنه لا فرصة لظهور طرف إسرائيلي رسمي مستعد لمفاوضة الفلسطينيين سياسيا، حتى نهاية العمر الافتراضي للحكومة الإسرائيلية الحالية بنهاية عام 2025، أي إلى وقت مرور 32 سنة على توقيع اتفاقية «أوسلو» جرى خلالها تفاوض متقطع على مدى عشرين سنة، لم يحرر شبر أرض، بينما جرى إجبار كيان الاحتلال على الجلاء عن غزة، ومن طرف واحد، وبقوة المقاومة والانتفاضة الفلسطينية الثانية وحدها.
والمفارقة الظاهرة في المحصلة، أن حركة مقاومة الشعب الفلسطيني تزدهر وتتطور، وبمبادرات شعبية باهرة تلقائية غالبا، بينما حركة الفصائل والواجهات الرسمية المتنازعة تمضي في الاتجاه المعاكس غالبا، وقد صار التناقض بين الحالتين مزمنا، ولا حل له ولا تسوية منظورة، بغير ترك الأوهام والالتحاق بالأحلام، والخروج نهائيا من متاهات «أوسلو» وما تلاها، وربما حل السلطة الفلسطينية ذاتها، وتجديد شباب القيادة في منظمة التحرير الفلسطينية، وجعلها عاصمة قائدة لمقاومة كل الشعب الفلسطيني.

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)