د. عصمت سيف الدولة : ثلاث نقاط على حروف الثورة .. النقطة الثالثـــة

profile
  • clock 20 يونيو 2021, 10:28:20 ص
  • eye 1178
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

(1948)

مقهى " الشمس " يطل على شارع فؤاد . فيما يلى الشارع دار القضاء المختلط . قضاء الأجانب . يملك المقهى ويديره " يونانيان " عتيقان . ليس هذا غريبا . لا يملك المصريون شيئا فى شارع فؤاد من أول دار القضاء المختلط إلي دار الأوبرا . ولا يتحدث أحد ، غير الخدم والعاطلين من الشيوخ ، اللغة العربية فى شارع فؤاد . شارع فؤاد مقسم فيما بين شملا ، وشيكوريل ، وأوريكو ، وبنزايون ، وصيدناوى ، ومزراحى ، وعدس .. بنايات ومتاجر .. ولا تزال الأنوف المعقوفة تطل منذ شهر من وراء النوافذ الزجاجية على مظاهرات صاخبة فى شارع فؤاد . مظاهرات تقول تسقط الصهيونية ، ويعلقون عليها بلغة لا يفهمها المتظاهرون . فما بال مقهى " الشمس " عامرا بالعمائم والملابس الداكنة والوجوه التى تعلمت الصبر من طول المذلة . كأنه قطعة من أسيوط . منذ الصباح الباكر ، كل صباح ، يرد إليه لابسو الجلاليب السوداء الفضفاضة ورقابهم العارية الهزيلة يخبون فى مشيتهم خشية السيارات كأنهم سرب خائف من النعام الأسود . وهناك يجتمعون . وهناك ينتظرون . صاحب المقهى يعرف من الذى ينتظرون فينظرهم الى حين . فلا يشربون شيئا ولا يدفعون .

  عندما ينتصف النهار ينهضون فجأة ، فتصفق أطراف جلابيبهم ويتزاحمون على يد القادم . يصافحونها ويقبلونها . حتى إذا ما جلس " البك " تحلقوا حوله . يبث كل منهم شكواه . 

   كان ذلك فى حزيران ..

   كان الأفندى من بين المنتظرين ، صحب " فتحى " وأباه . أبوه طاغية وفتحى صديق مرحلة الدراسة الثانوية ، فذهبوا جميعا الى حيث ينتظر الجميع "البك".. سيد بلادهم وابن سيدها ..

ـ    الم أقل لك يا فتحى دعك من الوظيفة 

ـ    اسكت حتى لا يسمعك هذا الرجل . ألا ترى أنه يجرنى كالعجل الصغير . لقد ربانى كما يربى أبقاره . ولا يعرف الآن أنه قد جاء وقت الحليب . وعلى أن ادر عليه وفاء.

ـ   فتحى . لماذا ترضخ .

ـ   أنت تتعابط . إنه طاغية . إنه مخيف . قد يقتلنى .

ـ   أنت الآن تبالغ .

ـ   أبالغ .إنه أبى . كيف اذن استولى على نصف أرض القرية وهولا يملك منها إلا القليل . كيف يقتسم المحاصيل جزية على الفلاحين . كيف بعث الى السجون بعشرات من الشباب جزاء جرائم ملفقة هو فاعلها وشاهدها وهم ضحاياها . كيف يلحق الصبايا بخدمته فى بيتنا عنوة ويهجر إليهن فراش زوجاته الأربع . أسكت . لم يقتل أحد فى بلدنا إلا كان هو قاتله . وفى الدوار يجتمع كل مساء عتاة المجرمين . دوار العمدة .

ـ   أولى بك إذن أن تهرب .

ـ   يا أخى ، لقد ظل عشرين عاما يبيع أصوات الناخبين فى القرية صفقة واحدة لهذا " البك " بدون أن يقبض الثمن . الثمن وعد بأن أصبح موظفا بإدارة المركز . مركزنا . وها هو يقودنى الى هنا ليقبض ثمن ما باعه من بشر طوال عشرين عاما . فهل ترانى أفسد الصفقة . يقتلنى والله يقتلنى . إنه أبى وأعرفه . وله غيرى ثمانية ذكور .

   وجاء دور الطاغية ..

   خدامك وابن خدامك فتحى ابنى أخذ الشهادة ، كلنا خدامينك . وقد شخت وأصبحت قدمى على حافة القبر . أريد أن أمتع عينى بأن أراه موظفا فى المركز . قبل أن أموت . ووالله ، والله والله وأنت تعرف انا ما أتمنى الصحة إلا من لأجل خدمتك . ولد يا فتحى . سلم على سيدك وقبل يده .

ـ   لا. لا . لا سمح الله .

ـ   لا والله . على " الطلاق " ليسلمن عليك ويقبل يدك . هذه بركة . أنتم الأسياد . خلقكم الله لتنفعوا عباده . جلت حكمة الله .

 عندما انحنى " الاستاذ " فتحى يقبل يد " البك " تساقطت من جبهته نقط من العرق ..

 قبَّل ثم جلس ثم صمت .

 وأخرج الأفندى من جيبه سيجارة وأشعلها . فاتجهت إليه عيون صغيرة لامعة . واهتز أكثر من شارب . وسرت همهمة . وتخلى الطاغية عن مكانه لتنعقد صفقة أخرى . بشر باعوا أنفسهم سنين طويلة وجاءوا يقبضون الثمن . وبشر جاءوا يبيعون أنفسهم بثمن آجل .

 ونهض البك وانصرف فصفقت أطراف الجلابيب السوداء وهى تغادر مقهى "الشمس ".

بعد شهرين .. فى آب 1948 ..

ذهب الأفندى الى قريته ، كعادته ، قابله أبوه بترحاب كبير . واحتضنه حتى دمعت عيناه . أبوه قدوة لأسرته أما الباقون ، أما أهل القرية ، أما أهل القرى المجاورة فقد كانوا لا يزالون يتجادلون فى أمره . لم يستقر بهم الأمر على وجه واحد . فلم يرحب به أحد الى أن يستقر الأمر .

   قال فريق : لقد فسدت أخلاقه فى المدينة فلم يعد يعرف الأدب .

   وقال فريق : ان التعليم هو المفسدة لأنه يصيب صاحبه بجهل الحدود .

   وأفتى  إمام المسجد بأنه كفر إذ خالف قوله تعالى " وأطيعوا الله ورسوله وأولى الأمر منكم ". والأدب جزء من الطاعة . وأولى الأمر منا لا يجهلهم إلا كافر .

   وقال العاطفون لكل عالم هفوة . يغفر له هفوته شبابه .

   قال : ما شأن الناس يا أبى ؟.

   قال أبوه : إنهم يخوضون فى هذا الحديث منذ شهرين . ولقد كاد الأمر يؤدى الى مخاطر الاقتتال . فقد انبرى بعض أبناء عمومتك يدفعون عنك الألسنة . ولكنك لم تفعل شيئا غير لائق بك .

  قال : ولكن ما الأمر ؟..

   قال أبوه : لقد إتصل بعلمهم ثم شاع ، أنك قد أشعلت سيجارة أمام " البك " فى مقهى الشمس " فمنهم من حسبها هفوة . ومنهم من حسبها كفرا . ومنهم من حسبها جهلا ، ومنهم من حسبها تجاوزا لحدود أقامها الله بين الناس ورفع بها طبقات فوق طبقات . وفى هذا يختلفون حتى اليوم . إنها ـ يابنى ـ نواميس العبودية المورثة . ألم تر الى الواحد منهم يقتل أخاه ردا للإهانة بالكلمة . ثم يفخر بعدد ما تلقى على قفاه من صفعات الشرطى . إنهم لا يزالون يقارنون بينك وبين الاستاذ فتحى ويحسدون والده إذ أحسن تربيته فعرف الحد الفاصل بينه وبين سيده حين قبل يده .  

   كل الأجنة فى بطون الامهات خرجت الى الدنيا ذكورا وإناثا . منذ عام 1952، وضعت الأمهات ملايين الذكور والإناث . فى كل شهر تبنى مدرسة. فى كل قرية تبنى مدرسة. والجامعات تنتقل الى حيث أولاد الفلاحين. يحتضن العلم الأطفال ذكورا وإناثا. يرعاهم بدون مقابل، تكتظ الجامعات بأولاد الفلاحين بدون مقابل. وينتظر العمل الطالب على باب خروجه. لا يتشرد أولاد الفلاحين. لا يُقَّبِل أولاد الفلاحين أيدى السادة من أجل ما يستحقون. أما الآباء فلا يبيعون أصواتهم من أجل مستقبل أولادهم. لا ينتظرون أحد على المقاهى. إنهم مشغولون بملء نصف مقاعد كل الهيئات الشعبية ، موزعون بجلابيبهم الداكنه على مقاعد مجلس الشعب.

   ويفلسف أولاد الفلاحين نقد الثورة فيقولون أن بعض حروف الثورة تفتقد نقاطا. ماذا تعنى حروف الثورة غير المنقوطة ؟ ويتمردون من أجل مزيد من المساواة . تفلسفوا تفلسفوا … فالعلم غزير . وتمردوا تمردوا … فالطريق طويل .. ثم أجيبوا :

   ـ من علم هذا الجيل المتمرد أن الناس سواء ؟ من علمهم أن الثورة حق ؟ .. من علمهم حق الثورة ؟….

  ـ الثـــــــورة ..



القاهرة عام 1977

التعليقات (0)