- ℃ 11 تركيا
- 2 مايو 2024
د .عصمت سيف الدولة يكتب : ثلاث نقاط على حروف الثورة
د .عصمت سيف الدولة يكتب : ثلاث نقاط على حروف الثورة
- 14 يونيو 2021, 2:24:14 ص
- 735
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
باسم المالكين أبناء المعدمين ، باسم العاملين أبناء العاطلين ، باسم العمال أبناء الفلاحين ، باسم الطلبة أبناء الأميين ، باسم الأصحاء أبناء المرضى ، باسم الأحرار أبناء المستبعدين ، باسم الأعزاء أبناء المستضعفين ، باسم سكان القرى تنيرها الكهرباء أبناء الذين عاشوا وماتوا فى الظلام ، باسم الذين لم يذوقوا قطرة ماء عكر أبناء الذين كانوا يشربون الماء بالطين ، باسم المصانع ، باسم المزراع ، باسم المدارس ، باسم الجامعات ، باسم الوحدات الصحية ، باسم الأدوية المجانية ، باسم التخطيط ، باسم الاشتراكية …
نحيى الذكرى الخامسة والعشرين لثورة 23 يوليو ..
النقطة الأولى .. 1946
بعد سبع ساعات طويلة وقف القطار ، من المحطة الى شركة حافلات "الخواجة مقار " . مقار لم يكن أجنبيا ، مقار كان " قونصلاتو " ، كان أعيان الريف يلتحقون بخدمة الدول الأجنبية ليحتموا بالامتيازات . كان الأجانب لا يخضعون للقانون المصرى فى مصر . " القونصلاتو" مقار صاحب إمتياز المياه والنور والمواصلات فى محافظة أسيوط . من شركة مقار تتسكع "الحلزونة" ( الباص ) على قنطرة أسيوط متجهة إلي شرقى النيل ، نترك وراءنا كل ما يمت الى القرن التاسع عشر بصلة حضارية . أسيوط البندر لا تزال فى القرن التاسع عشر . أوائله . فى الشرق الأمر يختلف . لا سكة حديد ، لا طرقات ، لا مياه ، لا إنارة . لاشئ أضيف منذ حكم المماليك . ليس الأمر سيئا الى هذا الحد . الطرق معبدة . أسلاك الكهرباء ممتدة فوق القرى حتى قرية " الساحل " . أربعون كيلو مترا جنوب شرق أسيوط . حدائق وقصور وكهرباء ومياه ومدرسة ثانوية . الساحل قرية عائلة محمد باشا . محمد باشا رئيس حزب وكان أبوه مرشحا للملك أثناء الحرب الكبرى الأولى . رشحه الإنجليز لضمان توريد المصريين لخدمة جيوش المحتلين . ابتداء من الساحل تغيب المدنية . " الحلزونة " ومن فيها غارقون فى سحابة التراب التى تثيرها . تلائم الحافلة العتيقة بين حركتها وحفر الطريق فتكاد تتمزق أوصالها . أنفاس الناس المكدودين حامية . جدار الحافلة ملتهب . التراب الساخن يهرى الصدور . شمس تموز المحرقة تمد كل شئ بقبس من لهيبها . الناس لا يتكلمون . يكحون فقط . وإمرأة تقئ وطفلتها تبكى . تقئ المرأة داخل حجابها . النساء محجبات فى صعيد مصر . يتجمع الناس فى جانب من الحافلة فتميل ويلعنهم السائق . يولون المرأة ظهورهم ويفسحون لها حتى تقئ خارج حجابها . من جوفها الى جوف الحافلة . لا تزال الشهامة فضيلة فى الصعيد . ولكن رائحة الهواء الساخن المترب أصبحت نتنة .
الأفندى القادم من القاهرة تحت كومة من البشر . رائحة عرقهم نفاذة . يكاد يقئ . عيب . هل يقئ هو وإمرأة فى وقت واحد ؟ وماذا يقول الناس حين ينتشر الخبر ؟ لم تفلح سنوات الدراسة فى الجامعة . لا يزال يعيش قيمه القبلية . "الحلزونة " الركيكة ، الخليعة تتأرجح على الطريق وتشق غبارها بصعوبة لمدة خمس ساعات ، ثم تكح وتبطئ . وترتعش حتى تقف . قطعت ستين كيلو مترا . هنا المركز . هنا السلطة . الدولة . هنا القضاة الذين يحكمون . ورجال النيابة الذين يحققون الجرائم . ورجال الشرطة الذين يطاردون المجرمين . والمدرسة الابتدائية بتلاميذها الأربعين . وليس فى المركز كهرباء ولا ماء ولا مطاعم ولافنادق ولاطرق مأمونة .
هنا منفى الموظفين . كل شئ توقف عند " الساحل " لأن الساحل قرية بيت السيادة . لماذا ـ إذن ـ لا ينقل المركز الى القرية ؟ لأن السادة لا يريدون أن تجاور سيادتهم فى قريتهم سيادة القانون . لهم قوانينهم وقضاتهم وسجونهم الخاصة .
من المركز جنوبا على ظهر حمار . منذ أن كان الأفندى طفلا كان يتصايح مع أترابه ويسابق كل أهل قريته . كل أهل القرية حتى المحجبات من النساء كانوا يتسابقون الى الطريق ينتظرون سحابة من التراب الكثيف بانت فيما يلى شجر السنط من ناحية الشمال . الرجال يعجبون ويصطنعون الوقار . النساء يتهامسن ويصطنعن الحياء . والأطفال يصخبون ويعبرون عن دهشتهم بكلمات منكرة . وعندما تمر سحابة التراب يزفها الجميع مصفقين . ويرددون " الكمبيل أهه .. الكمبيل أهه " . منذ أن كان طفلا كان مرور سيارة فى ردائها الترابى الكثيف عرسا تزفه القرية على قارعة الطريق يقولون أن الزفة كانت تتكرر كل عام أو كل نصف عام . مايزال الحمار مطية للذين يملكون الحمير على أى حال .
الحمار ثقيل والتراب ثقيل والحر ثقيل . وكل شئ باهت فى وهج الشمس . هو على ظهر الحمار وبضعة من أبناء عمومته يحيطون به مرحبين به كثيرا فدون الكثير فقليلا ثم يسكتون . بعد عشرة كيلو مترات انقطعت الأصوات إذ انقطعت الأنفاس وأصبح الموكب جنائزيا حقا .
فى الجنائز يحدث الناس أنفسهم أحاديث حلوة . وراء قناع التجهم الجنائزى تعربد ذكريات مرحة . كم مرة قطع هذا الطريق ذهابا وعودة من المدرسة الابتدائية . مئات المرات . ربما آلاف المرات . على ظهر ذات الحمار ؟ لا. على ظهر أم الحمار ذاته . فى الفجر من صباح كل يوم تحمله الى مدرسته . وتعود فتحمله الى قريته . فى أيام الشتاء " يصرونه" فى قطعة من القماش السميك خشية البرد . ويضعونه على ظهرها كما توضع زكائب الخضر المرسلة الى سوق المركز . ووراءه على ظهر ذات الحمارة إبن عمه الكبير يضمه إليه حتى لا يتدحرج من فوقها . نام إبن عمه مرة فتدحرج فى شرنقته السميكة الى أن أدركوه قبل أن يغوص الى قاع الترعة .
هذه هى القرية . حمدا لله على سلامتك …. الله يسلمكم .
قال له عمه ألف مرة أسبابا ، لم يعد يذكرها ، كانت قد الجأت جده القديم الى هذا المكان من وادى النيل . على إمتداد النيل العتيد اختار جده تلك البقعة التى يجرى فيها النيل تحت سفح الجبل الشرقى . البقعة التى لا وادى فيها إلا أشهر معدودات من كل عام . تسخر القرى الأخرى من أن جده القديم كان يحب أن يجلس على حجر ويدلدل قدميه الحافيتين فى الماء . كان لا يحب الطين . تكاثر النسل فنثروا منازلهم على سفح الجبل . أين هذا من لبنان . صخور الجبل الشرقي جرداء إلا من الأفاعي والعقارب والبشر . وأسراب الخفاش التى تسكن الكهوف . ولكل شئ وجهه الآخر . يحاصر النيل القرية ثلاثة أشهر ابان الفيضان. وتصبح القرية مستقلة حقا . حتى الصراف لا يستطيع أن يصل إليها ليجبى الضرائب . حتى رجال الشرطة لا يستطيعون الوصول إليها ليقبضوا على المجرمين . أما البريد ، أما الأطباء ، أما المعلمون ، أما الصحف ، فلا تأتى إليها فى أشهر الفيضان . لا، ولا فى غير أشهر الفيضان . تلك من عناصر الحياة التى لا تغادر المركز جنوبا فى أى حال . الفرصة إذن مناسبة . حفلات الطهور وحفلات الزواج كلها فى أشهر الفيضان . ما دامت أقدام جباة الضرائب والشرطة قد انقطعت فليفرح الناس . وتنقضى الأشهر الثلاثة فى عرس متصل . وأصبح ذلك تقليدا لم ينقطع إلا فى صيف 1967 . كان ذلك تعبير الفلاحين الصامت عن مرارة الهزيمة .
تلك قفزة طويلة …
نحن فى صيف 1946 . القرية محاصرة بالمياه . حمل " الأفندى " على طوف من البوص الى منزل أهله ، وشارك فى أعراس العام . ورأى نفسه مرة أخرى فى مئات الأطفال العرايا الذين يعبثون ويتعابثون فى لجة المياه العكرة ويصطادون صغار الضفادع . لم يغرق إلا واحد . عندما كان طفلا صغيرا كان يغرق الكثيرون . ويموت الكثيرون من لدغات العقارب . يدفن الأطفال فى السفح ولا تنقطع الأفراح . لا يحزن الناس فى الصعيد على من يموت قبل السن المفيد . قبل أن يرعى الماعز أو يحمل الفأس أو يسرق من القرى المجاورة أو يجيد إطلاق الرصاص .
" الأفندى " فى هذا العام رجل من رجال القانون . أضيف الى تقاليد القرية تقليد التحكيم؛ ما بين عرس وعرس تكاد تقوم أسباب جنازة . كل الخصوم يطرحون على " إبنهم " ما يختلفون فيه ، انه إبن الطرفين" الخصمين" وعليه أن يكون عادلا . كل أب يرى عدالة ابنه فى طاعته . عليه أن يقضى لصالح الطرفين ، الخصمين . مستحيل . وتكاد تنقسم القرية على مدة صحة نسبته إليها . لو كان يملك مائة جنيه لا أكثر لأثبت لهم أنه إبن مطيع لكل منهم . وفيم يتخاصم الجوعى العرايا الذين اختار جدهم تلك البقعة الجرداء حيث يتصل الماء بالجبل ؟ ثمار موسم زراعة الشتاء . ولا يختصمون جميعا فيما يزيد عن مائة جنيه . وهم فى هذا يقتتلون حتى الموت فى كثير من الأوقات . يقتل فى القرية رجل من أجل جحشه الذى قضم بصلة . ويموت قاتله ثأرا . إنهم يتعاملون مع الحياة على أساس قيمتها الحقيقية . وقيمة الحياة فى القرية لا تساوى جحشا أو بصلة . قبل أربعة أعوام كان هنا ورأى أهله يتساقطون موتى فى أماكنهم ويحملونهم بالعشرات الى سفح الجبل . بلا جنائز . كثر الموتى فاستهلكت جنائز الأولين منهما فى البيوت من بن وخبز وجبن فأصبح الحزن حقيقة . أصبح حزنا صامتا بدون طقوس . أصبح حزنا على الموتى وعلى الأحياء ، وتساوت المقبرة والبيت الفارغ مما يملأ البطون . كان ذلك عام الملاريا . المرض الذى يعالج بالشبع . امتد الى قرية الجوعى فرأى أهله يحملون الى المقابر بالعشرات . ولم ير أبدا ، أبدا ، أبدا ، طبيبا أو ممرضا أو حتى دواء . حتى " مأذون " القرية المكلف بقيد المتوفين مات فلم يكتب أحد أسماء الذين ماتوا . فلما أفتى أهله أن كلوا أى شئ تجدونه ذلك هو الدواء لم يأكلوا أبقارهم ولا أغنامهم ولا دجاجهم . وهل يأكل الناس أنفسهم . فى غيبة الأرض يستوى الإنسان والماشية غلاء فى سوق النفوس . فانطلق الشباب يصيدون الثعالب من شعاب الجبل . وأكل بعضهم ثعلبا مشويا ثم حمد الله على أن " الضرورات تبيح المحظورات ".
الهمامية . تلك القرية .. منحها السد العالي واديها . ألجم النيل وحكم طوفانه فانحسرعن الأرض من أجل البشر .
فنزل أهل القرية من شعاب الجبل يزرعون الأرض الخصيبة ويبعثون بأولادهم الى المدارس الثانوية لأن فى الهمامية مدرسة ابتدائية ومساكن للمعلمين والمعلمات . وشباب الهمامية يلعبون النرد فى ناديهم الرياضى وهم يتابعون برامج التليفزيون بعد أن ترك كل واحد منهم مذياعه (الترانزستور) فى منزله . فى الموقع الذى سبق أن وقف فيه الركب الجنائزى عام 1946 مستشفى صغير(وحدة صحية) فيها طبيب مقيم وصيدلية تمنح العلاج والدواء بدون مقابل . بجوارها صرح من الأسمنت المسلح يحمل على رأسه مخزنا من المياه النقية ليشر أهل القرية ماء بعد أن كانوا يشربون طينا . أما فى مدخل القرية فمجمع استهلاكى يمد أهلها بما يريدون من بضائع فلم يعد أحد يذهب الى السوق على ظهر حمار . أما المقهى المجاور فلينتظر فيه أولئك الذين يريدون أن يركبوا "الباصات " الى المركز أو الى مشاهد السينما فى مدينة أسيوط ثم يعودون . وفى منزلنا القديم تتكدس المخصبات والبذور المنتقاة توزعها " الجمعية الزراعية التعاونية " على أهل القرية الذين أصبحوا زارعين . فى القرية مكتب للبريد . وفى القرية هاتف " تليفون " غير هاتف العمدة . وفى القرية مئات من الفتيان والفتيات الذين يغادرونها فجر كل يوم بسيارات تنتظر الى حيث يعملون أو يتعلمون .
كل شئ قد تغير وانتقلت قريتى من عهد المماليك الى القرن العشرين .
***
القاهرة عام 1977
كلمات دليلية
التعليقات (0)
إقرأ أيضا
أحدث الموضوعات
خميس, 02 مايو 2024
تخوفات واسعة في المغرب بعد الإعلان عن زيادة الأجور وفرض الضرائب عليها خميس, 02 مايو 2024
تقرير يكشف خسائر مصر من بيع أكبر محطاتها لإنتاج الكهرباء بالبحر الأحمر أربعاء, 01 مايو 2024
عمدة لوس أنجلوس يدعو لإجراء تحقيق في أعمال العنف بجامعة كاليفورنيا الأكثر قراءة
جمعة, 08 أكتوبر 2021
مصادر: إبراهيم منير يتخذ قرار بإيقاف ٦ من الشورى العام سبت, 18 سبتمبر 2021
د. أيمن منصور ندا يكتب : عندما تلقيت اتصالاً من الرئيس السيسي خميس, 30 سبتمبر 2021
طارق مهني يكتب : بزنس المعارضة - سبوبة الزنازين اثنين, 01 نوفمبر 2021
تقرير : كيف ساهم " أبو دية " عبر أذرعه المالية في تدجين المعارضة المصرية بالخارج جمعة, 28 مايو 2021
تعرف على مدينة المقاومة تحت أرض غزة ودورها في معركة سيف القدس إسلاميات
أربعاء, 01 مايو 2024
د.رعد هادي جبارة يكتب: خصوصية المفردة القرآنية وجماليتها (4) جمعة, 15 مارس 2024
عود على بدء: خصوصية المفردة القرآنية - ٢