عمرو حمزاوي يكتب: حكومات العرب ودرس 2011… الضمان الاجتماعي عوضا عن الحرية

profile
عمرو حمزاوي أستاذ السياسة العامة بالجامعة الأمريكية
  • clock 12 أبريل 2022, 12:48:28 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

بينما تواصل أسعار السلع الغذائية الأساسية وأسعار الطاقة الارتفاع، تواصل حكومات بلاد العرب في شمال إفريقيا والشرق الأوسط البحث عن سبل لإدارة أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد صعوبتها نتيجة لذلك.
بداية، ينبغي التمييز بين مجموعتين من بلاد العرب؛ البلاد المصدرة للنفط والغاز الطبيعي والبلاد غير المصدرة والمستوردة للخامين الهامين لإمدادات الطاقة العالمية.
فالمجموعة الأولى، ومن ضمنها السعودية والإمارات وغيرهما من دول مجلس التعاون الخليجي والعراق وليبيا والجزائر، تواجه، وعلى اختلاف الأحوال بين استقرار هنا وتوترات اجتماعية وسياسية وهناك، ارتفاع أسعار الغذاء دون عظيم قلق إضافي نظرا للتواكب بينه وبين ارتفاع أسعار الطاقة. تحتاج بلدان مثل السعودية والإمارات والعراق إلى رفع معدلات إنفاقها على استيراد السلع الغذائية كالقمح والذرة والزيوت، إلا أن إيراداتها من تصدير النفط والغاز الطبيعي واحتياطاتها من النقد الأجنبي تتصاعد بمعدلات أعلى من معدلات الإنفاق. لذا، تدلل الأخبار الواردة من هذه البلدان على ثقة حكومات مصدري الطاقة في قدراتها على إدارة أزمة الغذاء العالمية، بل واتجاهها إلى تقديم مساعدات مالية واقتصادية إلى حلفائها من البلدان العربية غير المصدرة. ورد من السعودية تقديم حكومتها لوديعة مالية بقيمة 5 مليارات دولار للبنك المركزي المصري للإسهام في الحفاظ على استقرار الجنيه والدورة الاقتصادية في المحروسة، وورد من قطر توجيه استثمارات بذات القيمة إلى الاقتصاد المصري، وورد من الإمارات الإسهام بمبلغ ملياري دولار في السوق المصرية بين استثمارات مباشرة وبين شراء لأصول ذات ملكية عامة. لا تطبق حكومات خائفة من قادم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مثل تلك سياسات المساعدة المالية والاقتصادية، وأغلب الظن أن حكومات البلدان العربية المصدرة للطاقة تتوقع المزيد من عوائد النفط والغاز على نحو يمكنها من احتواء الآثار الداخلية لارتفاع أسعار الغذاء ويسمح لها بإنقاذ الحلفاء الإقليميين.
أما المجموعة الثانية من البلدان العربية، فهي تضم سوريا والأردن ولبنان في المشرق واليمن في شبه الجزيرة ومصر والسودان في وادي النيل وتونس والمغرب وموريتانيا في شمال إفريقيا وهي في المجمل، وعلى اختلاف أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تنظر بقلق بالغ إلى الأيام القادمة. تحشر هذه البلدان بين مطرقة ارتفاع أسعار الغذاء وسندان ارتفاع أسعار الطاقة، وتلفي شعوبها وحكوماتها في معية انتظار أزمات كبيرة وبحث عن سبل للتغلب عليها. في الشام وبيروت والقاهرة والخرطوم وتونس والرباط، يعني الارتفاع المسجل اليوم في الأسعار العالمية للقمح، 19.7 بالمائة، ضرورة توفير اعتمادات مالية إضافية للإنفاق على استيراد القمح لتغطية احتياجات السوق المحلية. ويرتب الارتفاع في أسعار الطاقة العالمية، حول 60 بالمائة في النفط، ضغوطا أخرى لضمان حصول المواطنات والمواطنين على حد أدنى من مستلزماتهم من الطاقة. وحين نمد النظر إلى مجمل الحالة الاقتصادية في هذه البلدان وبها تتراجع قيمة العملات الوطنية مقابل الدولار الأمريكي وتنخفض احتياطات النقد الأجنبي والسيولة المالية (إلى حد الإفلاس في لبنان)، نصبح إزاء أزمة طاحنة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية عديدة.
على سبيل المثال، قد تضطر الحكومة المصرية إلى إنفاق 5.7 مليار دولار على شراء القمح في 2023 عوضا عن 3 مليارات توقعتهم الموازنة العامة الجاري اليوم تعديلها. وفي الفترة المتبقية من 2022، سيتعين على حكومة مصطفى مدبولي إنفاق مليار دولار إضافي على استيراد القمح لضمان توفره محليا. ليس ذلك وحسب، بل تتجه مصر اليوم إلى رفع الأسعار المحلية للخبز والدقيق بمعدلات لم يسبق حدوثها خلال العقود الماضية (سجلت أسعار الدقيق في مصر ارتفاعات قياسية طالت حد 15 بالمائة) في مسعى للسيطرة على الإنفاق الحكومي على «العيش» وتوفير موارد مالية تسمح بالتوسع في برامج الضمان الاجتماعي. غير أن المعاناة الحكومية من ارتفاع أسعار القمح والسلع الغذائية الأساسية والمعاناة الشعبية من ارتفاع الأسعار المحلية للخبز والدقيق تزيد من خطورتها عوامل كارتفاع أسعار الطاقة والتخفيض الحادث مؤخرا في قيمة الجنيه مقابل الدولار (خسر الجنيه في الأسابيع الماضية نحو 15 بالمائة من قيمته مقابل الدولار) والتراجع المؤثر في احتياطات النقد الأجنبي (إجمالي الاحتياطات الدولارية اليوم، وفقا للبنك المركزي المصري، هو 37 مليار دولار في انخفاض كبير أعقب الخروج السريع للنقد الأجنبي من الأسواق الناشئة ومن بينها مصر ما أن نشبت حـــرب أوكرانيا).
في مصر، تسعى الحكومة، بجانب الحصول على مساعدات مالية عاجلة من الحلفاء الإقليميين، إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتأمين قرض إضافي يمكن مصر من تجاوز أزمة الغذاء والطاقة وخلق حالة من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي عبر رفع معدلات الإنفاق على برامج الضمان الاجتماعي. المستهدف هنا، وفقا للموازنة المعدلة التي قدمتها قبيل أيام حكومة مصطفى مدبولي إلى مجلس النواب المصري، هو الوصول إلى إنفاق ما يقرب من 5 دولارات على برامج مساعدة الفقراء (نحو ثلث السكان) ومحدودي الدخل للتخفيف من آثار ارتفاعات الأسعار عليهم وإبعاد شبح التوترات الاجتماعية والفوران السياسي. غير أن رفع معدلات الإنفاق على برامج مثل «تكافل وكرامة» وغيرها من برامج الدعم المالي عبر المزيد من الاقتراض الخارجي (والداخلي أيضا)، يضع الحكومة المصرية في مواجهة وضعية اقتصادية خطيرة للغاية. خلال السنوات الماضية، تزايد الدين الخارجية المصري ليصل إلى ما يقرب من 137 مليار دولار في 2021 (وتتفاوت تقديرات الدين الداخلي لمصر وتصل في بعضها إلى 370 مليار دولار فيما خص 2021). وفي المقابل، تتراجع التوقعات الحكومية لجهة النمو الاقتصادي المتوقع في العام الجاري (خفضتها الحكومة في الموازنة المعدلة من 5.7 بالمائة إلى 5.1 بالمائة).
ليست تلك بالوضعية السهلة على مصر، وتتعقد تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية أكثر بسبب الحالة السياسية الراهنة التي تشهد حريات مقيدة ومعارضة غائبة. فالتعبير الحر عن الرأي والسماح للمعارضة الوطنية بالتواجد والمشاركة في الحياة السياسية كانا من بين أدوات الحكومات المصرية السابقة للحد من الضغوط الشعبية حين تصاعدت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إن في 1977 (انتفاضة الخبز في يناير آنذاك) أو مجمل عقود حكم الرئيس الأسبق مبارك (1981-2011). غير أن الحكومة الراهنة تنظر إلى الانتفاضة الديمقراطية في يناير 2011 كحالة من «الفوضى» أحدثتها أزمات اقتصادية واجتماعية متتالية (سجل 2010 الارتفاع الأكبر في أسعار السلع الغذائية في مصر منذ ثمانينيات القرن العشرين) متواكبة من سماح نظام مبارك بمساحات من الحرية والمعارضة والنشاط الاحتجاجي «خرجت» عن السيطرة الأمنية في 25 يناير. هكذا تنظر الحكومة الراهنة بالعدسة الأمنية إلى يناير 2011، وتستبدل أداتي التعبير الحر عن الرأي والسماح بالمعارضة والاحتجاج لإدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بأداة التوسع في برامج الضمان الاجتماعي لإبعاد المواطنات والمواطنين في مصر عن الاحتجاج ودفعهم إلى تفضيل الاستقرار السياسي والثقة في قدرة الدولة على إدارة الأزمة والحد من آثارها السلبية مثلما نجحت في إدارة أزمة الجائحة.
وما يقال عن مصر وعن تفضيلات حكومتها يمكن أن يقال عن بقية البلدان العربية غير المصدرة للنفط والغاز الطبيعي، على الرغم من تفاوت مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. التفضيل الحكومي الكاسح اليوم هو الاستثمار في برامج الضمان الاجتماعي للتقليل من الآثار السلبية للأزمة الراهنة والرفض التام لتوظيف الحرية والمعارضة العلنية والاحتجاج السلمي، وفي التحليل الأخير السياسة، كأدوات إضافية.

كاتب من مصر


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)