عمرو حمزاوي يكتب: في تذكر من يريدون لنا نسيانهم

profile
عمرو حمزاوي أستاذ السياسة العامة بالجامعة الأمريكية
  • clock 31 مايو 2022, 3:34:51 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

فرضت طبائع الاستبداد التي استوطنت بلاد العرب منذ خمسينيات القرن العشرين مصائر قاسية على أصحاب الرأي الحر. تخونهم وسائل الإعلام الرسمية وكذلك الخاصة المسيطر عليها حكوميا، تتعقبهم الأجهزة الأمنية، يتعرضون لسلب الحرية، يواجهون قمعا ممنهجا وراء أسوار السجون. وحين يرتحلون إلى المنافي طلبا للأمان، تترصدهم بعض الحكومات وتهددهم بالاختطاف أو الإخفاء أو التصفية الجسدية ما لم يصمتوا تماما. وإن رفض المنفيون من أصحاب الرأي الآخر الصمت، قد تصبح تهديدات التصفية واقعا أليما وأحيانا دمويا.
بين سبعينيات وتسعينيات القرن العشرين تعقب نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين معارضيه السياسيين ومن أدان دمويته وديكتاتوريته من المثقفين والكتاب في منافيهم الغربية. وفي التسعينيات، التقيت أثناء دراستي الجامعية في ألمانيا بعديد المثقفين والباحثين العراقيين، شيعةً وسنةً وأكراداً وأصحاب فكر يساري ويميني، ممن جمعهم مصير الهرب من جحيم الديكتاتورية في الوطن والخوف من التعقب في المنفى.
والشيء ذاته فعله نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا حين تورط في الثمانينيات والتسعينيات في اختطاف بعض معارضيه في الخارج وإعادتهم إلى ليبيا وتصفيتهم بالقتل أو تركهم في السجون حتى الموت. هكذا اختطفت أجهزة القذافي الأمنية، على سبيل المثال، السياسي المعارض جاب الله مطر الذي اختفى بداية التسعينيات في مصر ويرجح تصفيته في أحد سجون القذافي. وهكذا قتلت وزير الخارجية الليبي الأسبق منصور الكيخيا الذي تحول إلى معارض في الثمانينيات واختطف في التسعينيات أيضا من مصر وأعدم بعد إعادته إلى ليبيا (عثر على جثته في 2012 بعد سقوط نظام القذافي).
وفي المقابل، تورط نظام بشار الأسد في العقد الأول من الألفية الجديدة في جرائم تصفية لبعض معارضي سياسات الهيمنة السورية على لبنان من السياسيين والكتاب اللبنانيين مثل السياسي اليساري جورج حاوي والصحافيين سمير قصير وجبران تويني الذين اغتيلوا جميعا في 2005. لم تتورع نظم حكم عربية أخرى، مثل نظام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وحكم الملك الحسن الثاني في المغرب، خاصة في السبعينيات والثمانينيات، عن تعقب معارضيها من السياسيين والمثقفين والكتاب في المنافي وتضييق الخناق عليهم تارة بمواصلة تشويههم في الداخل والخارج ومحاربتهم في مصادر رزقهم وتارة بالقمع الممنهج لأسرهم وأقاربهم الذين ظلوا في الأوطان.

للإسكات سبل كثيرة جميعها ترد في قاموس أفعال نظم الحكم العربية، من شراء الذمم والضمائر إلى التهديد والوعيد، ومن سلب الحرية إلى الاختطاف والإخفاء وأحيانا التصفية الجسدية

ومثلما يدلل تعقب المعارضين وأصحاب الرأي الآخر في الداخل على الإفلاس الأخلاقي والسياسي لنظم الحكم العربية التي لا تريد غير المواطن الخانع والخائف، يظهر ترصد معارضي المنافي من جهة الطبيعة الانتقامية لحكومات لا تغفر لمن جهر بكلمة لا حتى وإنْ صار بعيدا آلاف الأميال، وتثبت من جهة أخرى استخفافها بكافة المواثيق والأعراف الدولية التي تعطي الأمان لسياسيين ومثقفين وكتاب سلميين تركوا أوطانهم وارتحلوا حفاظا على سلامتهم الشخصية وتمسكا بالرأي الحر. كان صدام حسين ومعمر القذافي ومن شابههم من حكام العرب المستبدين يعلنون على الملأ تعقب أجهزتهم الأمنية للمعارضين في الخارج، كانوا يتفاخرون بتصفيتهم ويطلقون عليهم الأوصاف التي تحط من شأنهم، مثل عبارة الكلاب الضالة التي دأب القذافي على استخدامها حين الإشارة إلى معارضيه في الخارج. وما لبث بشار الأسد وآخرون من المستبدين العرب يروّجون في الداخل لجرائم أجهزتهم الأمنية لفرض المزيد من الخنوع والخوف على الجموع الخانعة والخائفة بالفعل دون إنكار لتورطهم في تصفية معارضيهم.
لكل ذلك، لم يكن قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي بالأمر غير المتوارد في قاموس أفعال بعض نظم الحكم العربية حين تضيق ذرعا بمعارضيها وأصحاب الرأي الآخر في الخارج. خاشقجي، الذي لم تعد لا حكومات الغرب (إدارة الرئيس الأمريكي بايدن مثالا) ولا حكومات الشرق (حكومة الرئيس أردوغان التي قتل خاشقجي على أراضيها) راغبة في تذكره، قتل بعد كتابته لمقالات ناقدة للأوضاع السائدة في بلاده وللسياسات الحكومية. قتل الرجل في فترة زمنية كانت بها السياسة الرسمية في السعودية في طور تعقب المعارضين وأصحاب الرأي الآخر. المسموح به الوحيد كان هو الطاعة الكاملة والتأييد الدائم للمؤسسة الملكية وللقرارات الحكومية. المسموح به الوحيد كان هو الامتناع المطلق عن إثارة علامات الاستفهام إنْ حول الزج إلى السجون في السعودية بأكاديميين ورجال دين ومدافعات عن حقوق الإنسان أو حول السياسات الاقتصادية المطبقة أو حول التورط المستمر إلى اليوم في الحرب على اليمن.
حين قتل جمال خاشقجي في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، كانت المؤسسة الملكية السعودية ممثلة في ولي العهد تصطنع لذاتها صورة الحكم الإصلاحي الحديث الذي يقر للنساء بالحق في قيادة السيارات ويعيد دور السينما والمسارح إلى البلاد ويعمل على تطوير الاقتصاد بالبحث عن بدائل للاعتماد الأحادي على عوائد النفط. ولتثبيت ملامح تلك الصورة الحداثية والترويج لها ولولي العهد كبطلها، تعين إسكات كل صوت وطني يشكك في التزام المؤسسة الملكية بالإصلاح بينما تواصل السياسة الرسمية تعقب المعارضين السلميين وتزج بهم إلى السجون بوتائر متسارعة وتصر على الاستمرار في الحرب العبثية والدموية على اليمن. وحيث أن للإسكات سبلا كثيرة جميعها ترد في قاموس أفعال نظم الحكم العربية، من شراء الذمم والضمائر إلى التهديد والوعيد ومن سلب الحرية إلى الاختطاف والإخفاء وأحيانا التصفية الجسدية، اختار بعض المسؤولين السعوديين السبيل الأكثر قسوة آلا وهو التصفية الجسدية لجمال الذي واجه بذلك مصيرا مشابها لمصائر نفر من أصحاب الرأي الحر على امتداد بلادنا واشترك مع كثيرين من بني أوطاننا في فقدان الحق الأصيل في الحياة الآمنة والحرة والحق في التعبير السلمي عن الرأي دون خوف من تعقب أو اضطهاد أو إيذاء.

كاتب من مصر

كلمات دليلية
التعليقات (0)