عمرو حمزاوي يكتب: مصر.. عن دور المواطن والمجتمع في تحقيق التنمية ومحدداته

profile
عمرو حمزاوي أستاذ السياسة العامة بالجامعة الأمريكية
  • clock 3 مايو 2022, 6:25:43 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

بعض الحكومات العربية، ومنها الحكومة المصرية، يعتقد أن ضمان حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن يتأتى دون التزام بصون حقوقه المدنية والسياسية.

كثيرا ما تذهب الأحاديث الرسمية لمسؤولي هذه الحكومات إما باتجاه التشديد على أولوية حقوق كالحق في التعليم والعمل والرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية إذا ما قورنت بحرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم ومشاركة المواطن السلمية في منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية وإجراء انتخابات تنافسية ونزيهة وعلى نحو دوري، أو باتجاه الترويج لضرورة أن يسبق ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الانفتاح على الحقوق المدنية والسياسية لكي يستقر المجتمع وتتماسك الدولة وتتقدم البلاد.

مؤسسات الدولة المصرية وانتاج خطاب “القضاء على الفقر والجهل والبطالة والمرض” قبل الالتفات إلى “ترف” حرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم

هكذا عملت مؤسسات الدولة المصرية منذ خمسينيات القرن العشرين وإلى اليوم منتجة خطاب “القضاء على الفقر والجهل والبطالة والمرض” قبل الالتفات إلى “ترف” حرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم. تبدلت أحوال السياسة منذ الخمسينيات، من حكم الفرد الواحد والحزب الواحد بين 1954 و1970 إلى حكم الفرد الواحد وحزبه في إطار تعددية حزبية مقيدة تضمن وجود بعض المعارضين في سنوات الرئيس الأسبق محمد أنور السادات والرئيس الأسبق حسني مبارك. غير أن القناعة بأولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو بكونها ينبغي أن تسبق كل ما عداها ظلت راسخة.

ومن وراء القناعة الراسخة للمتعاقبين على حكم مصر وللحكومة الراهنة بشأن أولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية نظرة إلى أحوال بلادنا تنطلق، أولا، من أن مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية القوية التي تسيطر عليها هي وحدها المنوطة بضمان حقوق كالحق بالتعليم والعمل والرعاية الصحية وغيرها. وتستند، ثانيا، إلى أن مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية لا تحتاج في سبيل ذلك إلى شراكة مع مواطنات ومواطنين أحرار، أحرار في حياتهم الشخصية كما في الفضاء العام، ومع مجتمع يتوازن باحترامه لحريات الناس وحقهم في المبادرة الفردية والمنافسة والاختيار دون خوف.

مؤسسات الدولة في مثل هذه النظرة، لا المواطن ولا المجتمع، هي ماكينة صناعة نظم التعليم والعمل والرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية وتطويرها والارتقاء بها. مؤسسات الدولة وحدها هي ماكينة التنمية والتقدم، والسلطة التنفيذية القوية ترعى ذلك بتوظيف أدوات صناعة وإنفاذ القوانين وتخصيص الموارد العامة وتنفيذ السياسات اللازمة. أما المواطن فعليه إظهار التأييد أو على الأقل الامتناع عن المعارضة، وعليه أيضا الانتظار بصبر حتى تضمن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والتنازل عن حقوقه المدنية والسياسية. ومهمة المجتمع هي تحويل التأييد الفردي المتعين على المواطن إلى تأييد جماعي (التعبئة والحشد)، والاصطفاف خلف مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية على نحو يذهب بالتنوع والتعدد.

مواطن التأييد ليس مواطنا حرا يقدر على ممارسة الحق بالاختيار وإطلاق المبادرات الفردية، لا في الحياة الشخصية ولا في الفضاء العام. ومجتمع التأييد والاصطفاف هو مجتمع لا يلغي فقط الحقوق المدنية والسياسية للمواطن، بل يقضي أيضا على فرص وجود قطاع خاص متنوع وتنافسي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، من نظم التعليم إلى سوق العمل. لذا تتسق النظرة إلى مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية كصاحبة القدرة المتفردة على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصاحبة الامتياز الحصري لتحديد الكيفية التي يمكن أن يتم بها ذلك، تتسق مع سيطرة الدولة الكاملة على نظم التعليم والعمل والرعاية الصحية وكافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى ومنعها لنشوء قطاع خاص. حين تصبح مؤسسات الدولة بمفردها هي ماكينة التنمية والتقدم ويلغى حق المواطن في الاختيار الحر والمبادرة الفردية وحق المجتمع في التنوع والتعدد، فإن القطاع الخاص يفقد هويته الحقيقية وسبب وجوده، المواطن الحر والمجتمع الحر.

حين تصبح مؤسسات الدولة بمفردها هي ماكينة التنمية والتقدم ويلغى حق المواطن في الاختيار الحر والمبادرة الفردية وحق المجتمع في التنوع والتعدد، فإن القطاع الخاص يفقد هويته الحقيقية وسبب وجوده، المواطن الحر والمجتمع الحر

ليست منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والإعلام الحر هي وحدها التي تفقد أسباب الوجود والدور والحيوية حين تلغى الحقوق المدنية والسياسية، بل أيضا القطاع الخاص ومعه مبادئ الملكية الخاصة والمبادرة الفردية والمنافسة كمبادئ رئيسية لتنظيم النشاط الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات البشرية. الملكية العامة، وسيطرة الدولة على موارد المجتمع ووسائل الإنتاج، والقطاع العام الذي لا تزاحمه كيانات خاصة تستهدف الربح صغرت أحجامها أو كبرت؛ تلك هي الممارسات التي تتماشى مع النظرة إلى الدولة كماكينة التنمية والتقدم التي لا تحتاج سوى لمواطن ومجتمع التأييد وتتماشى مع القناعة بأولوية وأسبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ما عداها.

بعيدا عن قناعتي الشخصية بالأفضلية الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية لمبادئ الملكية الخاصة والمبادرة الفردية والمنافسة وللتنظيم الديمقراطي الذي يتأسس مستندا إليها، تظل المعضلة الواقعية الكبرى لنظرة الدولة كماكينة التنمية والتقدم الوحيدة هي قصورها المتكرر عن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على مدار فترات زمنية مستقرة وعن تحقيق الإسعاد المادي للمواطن والتوازن للمجتمع بعد أن استبدلت التعبئة والحشد بالحرية والمنافسة. ويرتبط بمعضلة القصور ارتباكات أخرى كأن يتبلور في بلد كمصر قطاع خاص تفرض عليه تركيبة الدولة الماكينة ومواطن ومجتمع التأييد من القيود ما يفقده الكثير من قدرته على الإسهام الفعال في تحقيق التنمية والتقدم ويسقطه في مصيدة الاحتكار ومحدودية الابتكار وضعف الإنتاجية.

في بر مصر من يرد ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، لا يستطيع أن يعول على انفراد مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية بالمهمة. من يرد وجود قطاع خاص تنافسي ومبتكر ويوسع من الملكية الخاصة ويتخلص من تغول القطاع العام، لا يستطيع أن يلغي لا المبادرة الفردية ولا حق المواطن في ممارسة حرية الاختيار ولا حق المجتمع في التنوع والتعدد. من يرد إقرار المبادرة الفردية وحرية الاختيار والتنوع والتعدد المجتمعيين، لا يستطيع أن يفصل بين ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبين صون الحقوق المدنية والسياسية. فذلك هو الترف الحقيقي الذي نتحمله منذ خمسينيات القرن العشرين، ولم يذهب بنا أبدا إلى المكان الذي تستحقه بلادنا ونستحقه كمواطنات ومواطنين.

فهل من إعادة نظر؟


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)