- ℃ 11 تركيا
- 10 نوفمبر 2024
في ذكرى استشهاد عبد العزيز الرنتيسي.. مصطفى إبراهيم يكتب: دماء الأسود على طرقات غزة
في ذكرى استشهاد عبد العزيز الرنتيسي.. مصطفى إبراهيم يكتب: دماء الأسود على طرقات غزة
- 17 أبريل 2024, 3:10:18 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
>> إسرائيل خرقت «شيفرة» الرنتيسي
>> قائد حماس أنشد “أن تدخلني ربي الجنة ليلة استشهاده”.. وكلماته الأخيرة دلت على شعوره
>> قاد المبعدين في مسيرة الأكفان ومثّل رفاقه أمام وسائل الإعلام العالمية ببراعة
في ذكرى استشهاد البطل عبد العزيز الرنتيسي، قائد حركة حماس الذي خلف المرحوم الشيخ أحمد ياسين في قيادة الحركة، كنت قد كتبت هذه الحلقة ضمن سلسلة باسم حوار الرصاص والدماء في جريدة النهار الكويتية في السابع من أغسطس عام 2011، وأعيد نشرها اليوم في موقع "180 تحقيقات" وفاء لدماء الشهيد رحمه الله تعالى.
لم يفلح التنكر وارتداء ملابس غير مألوفة ولم ينجح تغيير السيارة في إخفاء تحرك قائد «حماس». خرج د. عبد العزيز الرنتيسي من منزله قبل آذان العشاء، انتقل من سيارته إلى عربة أخرى ذات نوافذ معتمة تخفي من داخلها لم تكد السيارة تتحرك حتى أصابها صاروخان.. الأجساد تفتتت إلى أشلاء وتحولت السيارة إلى رماد فكيف عرفت إسرائيل بتحركات الرنتيسي؟.. وكيف حددت مكانه؟
خلف الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الشيخ أحمد ياسين في قيادة حركة «حماس»،وكان يعلم أنه هدف ثمين لجيش الاحتلال الصهيوني وحاول كثيراً أن يتوخى الحذر في تحركاته، وكان مقلاً في اتصالاته خشية التتبع من قبل أجهزة التنصت.
وفي الليلة التي اغتالته إسرائيل فيها لم يجر مكالمة هاتفية واحدة أو يعرف أحد أين يتجه بل ارتدى ملابس تنكرية، وأيضاً غير سيارته وركب أخرى زجاجها معتم لا يرى أحد من بداخلها، لكن صواريخ الأباتشي كانت أسرع من كل ذلك، حيث أطلقت طائرة هليوكوبتر تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي صاروخين على السيارة ولقي الرنتيسي ومن معه مصرعهم على الفور.
يروي ابنه محمد «38عاماً» اللحظات الأخيرة في حياة أسد فلسطين كما يسميه أبناء فلسطين: «بعد جولة من العمل المضني طوال النهار والليل لخدمة حركته وقضيته التي عاش من أجلها. عاد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي حوالي الساعة الثالثة فجر يوم السبت 17 ابريل إلى منزله لأن أخاه صلاح كان قادماً من خان يونس لرؤيته والسلام عليه. وتابع: «المنزل الذي يقع في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة لم يدخله صاحبه منذ أكثر من أسبوع «ويضيف» أختي إيناس أيضا كانت تريد رؤيته وطلبنا منه عدم الخروج يومها وقضاء ساعات معنا فقد كان يأتي إلى المنزل قرب منتصف الليل ويغادره قبل الفجر وبعد إلحاحنا وافق وأرسل في طلب أختي الثانية أسماء لرؤيتها».
وقال محمد إن والده قضى الليل يتحدث مع العائلة المشتاقة إليه ولاتراه إلا قليلا بسبب ملاحقة جيش الاحتلال له لاسيما بعد فشل محاولة اغتياله في يونيو 2003 واغتيال الشيخ ياسين في مارس وأضاف «جلس يتحدث عن زواج أخي أحمد الذي أصيب خلال محاولة الاغتيال وذلك بعد أن حصل على قيمة مدخراته من الجامعة الإسلامية التي كان يحاضر فيها ووزع قيمة مدخراته حيث سدد ما عليه من ديون واقتطع مبلغا من المال لزواج أحمد (21 عاما) وقال لنا: «الآن أقابل ربي نظيفا لا لي ولاعلي».
شيفرة الاتصال
مرافقه أكرم منسي نصار (48 عاما) لم يتصل بالرنتيسي منذ مدة طويلة تصل إلى أسبوعين وإنما كان ينسق بعض تحركاته وفق شيفرة معينة لبعض التنقلات وزارنا يوم السبت في المنزل بعد العصر وتحدث مع والدي قليلا واتفقا على الخروج.وفعلا قبل آذان العشاء بقليل خرج الرنتيسي برفقة نجله أحمد الذي كان يقود السيارة من نوع سوبارو ذات نوافذ معتمة كما هو متفق عليه من منزلهم متنكرا بلباس معين وأوصله إلى مكان محدد في مدينة غزة متفق عليه سابقا، وبعد دقائق وصل إلى المكان سيارة سوبارو أخرى يستقلها أكرم نصار ويقودها أحمد الغرة الذي يعمل بشكل سري ضمن صفوف كتائب القسام، بهدوء انتقل الرنتيسي من سيارة نجله إلى السيارة الأخرى التي انطلقت به مسرعة إلى هدف لم يحدد لكن صاروخين من طائرات الأباتشي الإسرائيلية كان أسرع من الجميع.
محمد كان على علم بما هو مخطط لخروج والده وقال «عندما سمعت صوت القصف اتصلت سريعا بأخي أحمد لأطمئن ورد علي، وهنا هدأت قليلا ولكن يبدو أن أحمد كان يدرك ما حدث وانتظر حتى يتأكد من الأمر حيث عاد إلى المكان وشاهد السيارة المشتعلة التي تحولت إلى ركام وأيقن ما جرى». وأضاف محمد أسرعت إلى مكان القصف وعندما شاهدت السيارة علمت أن والدي بين الشهداء رغم ما حاوله البعض من التخفيف بالقول إنه جريح».
«كان سعيدا جدا على غير عادته وطوال جلسته معنا قبل دقائق من اغتياله كان يردد الأنشودة التي تقول "أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى" وحدثنا عن رغبته بالشوق للشهداء». بهذه الكلمات وصفت السيدة أم محمد الرنتيسي اللحظات الأخيرة من حياة زوجها.
وأضافت: قبل دقائق من اغتياله كان الشهيد معنا وكانت ترتسم على وجهه علامات فرح غريبة، جعلتني أتيقن أن القصف الذي حدث بعد خروجه مباشرة نال منه وأيقنت بعدها أنه استشهد قبل أن يذاع الخبر وتؤكده وسائل الإعلام».
وأضافت أم محمد أن زوجها الراحل كان مصدر قوة لحركة حماس، لكن حين يكتب الله نهاية أجله فإنه لن يضيع حركة حماس» وذكرت أنها كانت تتوقع اغتيال زوجها مثلما كان رحمه الله يتوقع ذلك في كل لحظة وأضافت أن استشهاده لم يفاجئنا لا أنا ولا أبنائه لأنه رحمه الله هيأنا ليوم استشهاده وهو المتيقن لمدى الاعتداءات الإسرائيلية التي طالته دائما» مضيفة بأن اعتداءات قوات الاحتلال المستمرة ضد الأرض والشعب كانت تجبر زوجها على التشدد في آرائه «،و قالت زوجة زعيم حماس الراحل إن زوجها الشهيد كان دائما مع أسرته رغم حذره الشديد من محاولات النيل منه، فقد كان يتوقع أن تطاله صواريخ الاحتلال في أي وقت»، مؤكدة أن رحيل زوجها عبد العزيز وقبله الشيخ أحمد ياسين لن يضعف المقاومة بل سيزيدها قوة وثباتا.
أما ابنة الشهيد « آسيا» وهي متزوجة ولديها أربعة أبناء فقد عبرت عن فخرها بالمكانة والدرجة التي حظي بها والدها الشهيد وقالت «هنيئا لك يا أبي الشهادة فقد نلت ما تمنيته».
وأضافت أن استشهاد والدها وخروج مئات الآلاف من المواطنين في جنازته أكد أن شعبنا مصمم على خيار المقاومة وأن شهادته بإذن الله ستكون بداية النصر موضحة أن والدها الشهيد ربى جميع أبنائه وبناته على حب الجهاد وكان يشفي غليلنا بمواقفه القوية. كان نعم الأب، مضيفة انه كان نعم الأب لا يفرق بين أحد من أبنائه. وقالت إن والدها الشهيد زرع في أسرته حب الدين والوطن ورغم انشغالات الدائمة لم نشعر بأنه بعيد عنا وكانت حياتنا الأسرية سعيدة وأضافت كان دوما يعبر عن رغبته بالاستشهاد ويتمني الشهادة منذ كنا أطفالا مضيفة أن فقدانه خسارة للأمة وللشعب الفلسطيني.
وتعكس اللحظات الأخيرة من حياة الرنتيسي حرصه على اتخاذ إجراءات وتدابير أمنية عالية في تحركاته ولم يستخدم الاتصالات الهاتفية أو اللاسلكية، لكن ما تتمتع به دولة الاحتلال من تكنولوجيا وعيون وعملاء في كل مكان ورصد على مدار الساعة يجعل من الصعوبة بمكان الإفلات من المصير.
فراغ كبير
وأكد محمد أن والده سيترك فراغا كبيرا في منزله فقد كان مرجعا للكبير والصغير وقال إن الصورة التي في أذهان الناس عن والدي هو الثوري الشديد لكنه داخل الأسرة صاحب الحنان الكبير والقلب الرؤوف الهادئ، وإذا أصررنا على شيء ربما لا يريده كان ينزل عند رغبتنا ويراضينا، خطابه المتشدد في الإعلام لم يكن في المنزل، وأكثر حنانه ومحبته كانت لأحفاده فقد كان يحب الأطفال».
ويقول محمد: «علمنا والدي أن نكون رجالا منذ الصغر، وأذكر أنه عند اعتقاله إبان الإبعاد إلى مرج الزهور في الجنوب اللبناني كان عمري حينها حوالي (11 عاما) واقتحم جنود الاحتلال المنزل لاعتقاله.. نظر إلي وقال الآن أصبحت رجل البيت وتستطيع أن تعتني بأمك وأخواتك.. المشوار هذه المرة في الاعتقال يبدو طويلا».
قضى الرنتيسي في الإبعاد عام 1992 مدة عام كامل مع 417 من كوادر حركة حماس بعد اختطاف مجموعة من كتائب القسام جنديا صهيونياً وبعد عودته من الإبعاد اعتقلته قوات الاحتلال حتى عام 97 حتى أفرج عنه وخضع للاعتقال عدة مرات من قبل السلطة الفلسطينية نتيجة مواقفه السياسية التي لا تعرف المهادنة.
ويقول محمد أنا لست قلقا على حركة حماس بتاتا فحماس حركة ربانية ولن يكون فيها فراغ أو ضعف وستخرج الكثيرين من القادة أمثال والدي وغيره ولن تتوقف المسيرة، وكان والدي يتوقع اغتياله في أي لحظة وأعتقد أنه غادرنا مطمئنا على حماس».
كاريزما القائد والخطيب المفوه
ويؤكد معاصرو الرنتيسي أنه كان يمتلك كاريزما السياسي والطبيب والخطيب المفوه، قالوا إنه برحيل الدكتور عبد العزيز الرنتيسي تكون حركة المقاومة الإسلامية حماس ومعها شعبنا قد خسرت واحدا من أبرز قادة هذا الشعب وعظمائه الذين قدموا أغلى ما يملكون في سبيل وطنهم ومن أجل عزته وكرامته.
لم يكن الشهيد الرنتيسي رحمه الله مجرد قائد عادي للحركة كغيره من القادة بل كان يتمتع بمواصفات ميزته عن الكثير من غيره قلما تتوفر في قيادي آخر، فقد جمع كل مواصفات القائد الوطني الملهم، جمع بين الشخصية العسكرية والسياسية والدينية وكان أديبا وشاعرا ومثقفا وخطيبا مفوها يتمتع بشخصية كاريزمية تجعل له الهيبة في قلوب من يراه..
كان مجرد ذكر اسمه يثير الخوف والرعب في صفوف أعدائه.. يتمتع بشخصية قوية وعنيدة لا يخشى في الله لومة لائم.. وكان من صفاته أيضا جرأته وتحديه حتى لقادة الكيان ولجلاديه في سجون الاحتلال وقد سجل لنفسه العديد من البطولات في محطات حياته المختلفة والتي يفخر بها كل فلسطيني لديه الانتماء الصادق لهذا الوطن والشعب.
برز الدكتور الرنتيسي بشكل واضح للعالم أجمع خلال إبعاده إلى مرج الزهور عام 1992 مع 415 آخرين عندما تمكن بأسلوبه المقنع والمؤثر كمتحدث باسم المبعدين من إقناع الرأي العام العالمي بعدالة قضية المبعدين وبحقهم في العودة إلى وطنهم.
يومها قال بالحرف الواحد « سأحرج رابين أمام العالم» وقد تمكن من تحقيق ذلك عندما أصر على بقاء المبعدين في مرج الزهور بين الأفاعي والزواحف رغم كل المحاولات لدفعهم للدخول إلى عمق الأراضي اللبنانية لكي يتم طي قضيتهم..
كما قاد المبعدين في مسيرة الأكفان وهي مسيرة العودة إلى الأراضي الفلسطينية ومثّل المبعدين أمام مختلف وسائل الإعلام العالمية بلباقته وحديثه المنطقي، إلى أن شكل رأيا عاما عالميا ضاغطا على (إسرائيل) بإعادة المبعدين وما هي إلا شهور حتى عاد المبعدون إلى بيوتهم، لكن الرنتيسي عاد إلى السجن بسبب تصريحاته ومواقفه التي أثارت حنق رابين.
كان الشهيد الرنتيسي رحمه الله من أشد الحريصين على تعميق الوحدة الوطنية وقال في أول كلمة له بعد توليه قيادة حركة حماس خلفا للشيخ الشهيد أحمد ياسين أمام الآلاف في بيت عزاء الشيخ الشهيد ياسين، إن أول عمل سيفعله أنه سيتوجه إلى جميع القوى الوطنية والإسلامية وقال: «أمد يدي إليهم لنكون صفا واحدا في خندق المقاومة».
لم يخش الرنتيسي يوما الاغتيال والتصفية وطالما تمنى الشهادة ولقاء الله قبل ولم يثنه وضعه على رأس قائمة المطلوب تصفيتهم وتعرضه لمحاولة اغتيال فاشلة «عن مواصلة طريقه الجهادي والسياسي من أجل وطنه وشعبه وكان آخر ما قاله « نحن لا نخشى الموت فليعلم الله أنني في شوق للقائه ولقاء الأحبة.. شيخنا وحبيبنا أحمد ياسين وجمال سليم وجمال منصور وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب» وكلهم من قادة حماس الذين اغتالتهم (إسرائيل).
عرف الدكتور الرنتيسي بمواقفه الصلبة لدرجة، أنه كان يفضل للبعض أن يطلق عليه لقب «الطبيب الثائر»، أو«صقر حماس». لكن الفارس الذي ترجل بعد جهاد طويل، كان لينا مع إخوانه في «حماس» لا يقطع أمرا من دون مشاورتهم، لدرجة أن الدكتور الرنتيسي قال قبل حوالي ثلاثة أسابيع، في حفل تأبين الشيخ ياسين في الجامعة الإسلامية «إلى الذين يخشون الدكتور الرنتيسي، نقول لهم اطمئنوا فالقرار في حماس قرار جماعي والقيادة جماعية.
كان الشهيد رحمه الله خطيبا مفوها عرفته معظم مساجد القطاع من خلال خطبه الحماسية التي كان تلهب مشاعر الجماهير وتشفي غليلهم.. كان ينظر إليه انه أكثر قيادات الحركة تطرفا وعنفوانا ووصفوه بالأسد لأنه كان دائم التحريض على المقاومة وإيقاع أقسى الضربات بدولة الكيان ومن أشد المعارضين لاتفاقيات التسوية وقد ساعدته إجادته اللغة الإنجليزية بأن يكون دائم الحضور في مختلف وسائل الإعلام ومحطات التلفزة الأجنبية وفي مقدمتها شبكة س إن إن الأميركية.
وقد تأثر الرنتيسي بأفكار الشيخ سلفه الراحل الشيخ أحمد ياسين فقد شاركه في تأسيس حركة حماس عام 1987 كما عاش معه خلال العام 1990 في زنزانته في السجن الصهيوني ونهل من أفكاره ومنهجه وتأثر بشخصيته، وقد صقل شخصيته الدعوية والسياسية وعاهد نفسه على أن يسير على درب أستاذه ومعلمه الشيخ ياسين حتى لحق به شهيدا لتتعانق أرواحهما معا في عليين.
يقين بالشهادة
كلمات الدكتور «عبد العزيز الرنتيسي» في الأيام الأخيرة من حياته كانت تعكس شعوره ويقينه.. وكانت آخر كلماته: تعانقت أيادينا في الدنيا على الزناد وغدًا ستتعانق أرواحنا في رحاب الله...
وقد قال في إحدى المناسبات «أقول لكم لأطمئنكم: لو رحل الرنتيسي والزهَّار وهنية ونزار ريَّان وسعيد صيام والجميع، فوالله لن نزداد إلا لُحمة وحبًّا، فنحن الذين تعانقت أيادينا في هذه الحياة الدنيا على الزناد، وغدًا ستتعانق أرواحنا في رحاب الله، لذلك فليغزل على غير هذا المغزل شارون والصهاينة والمتربصون، ومسيرتنا متواصلة، ودربنا صعب؛ ولكنه الدرب الوحيد الذي يصل بنا إلى ما نصبو إليه؛ ولذلك لا ضعف ولا استكانة ولا هوان على الإطلاق».
كل تصريحات الرنتيسي قبل نيله الشهادة كانت تركز على الوحدة الوطنية والجهاد؛ حيث قال عن الثأر للشيخ ياسين: «نحن لا ننسى دماءنا، وأعني بنحن: حركة فتح وكتائبها، حركة الجهاد وسراياها، الجبهة الشعبية وكتائبها، الجبهة الديمقراطية وكتائبها، وحماس وكتائبها.. خندق المقاومة فيه متَّسعٌ للجميع».
لم يأل الشهيد الرنتيسي جهدا في تخصيص جزء من وقته في الليل كما يقول د. أحمد بحر للسهر مع المجاهدين والمرابطين على مداخل المدن والأحياء في غزة الذين كانوا يسهرون الليل تحسبا لأي اجتياح صهيوني لأي منطقة من مناطق غزة كان يحضهم على الصبر والقتال وحب الاستشهاد ويرفع من معنوياتهم ويشد من أزرهم.
كما حرص الدكتور الرنتيسي على الظهور أمام الناس رغم استهدافه وملاحقته يلقي بهم الخطب الحماسية ويرفع من معنوياتهم ولعل الجميع يذكره ليلة القدر في رمضان الماضي عندما طاف على أكثر من عشرين مسجدا في غزة في ليلة واحدة يتحدث أمام عشرات الآلاف من المصلين الذين أحيوا ليلة القدر يحضهم على الجهاد ويغرس في نفوسهم حب الاستشهاد ويزرع فيهم الأمل بأن النصر حليفنا مهما عظمت التضحيات.
قضى الرنتيسي الذي ولد في قرية يبنا عام 1947 حياته بين سجن وإبعاد ومطاردة وجهاد في سبيل وطنه، وتعرض لصنوف العذاب والحرمان والقهر والاضطهاد من قبل سجانيه لكن ذلك لم يفت من عضده ولم يفل من عزيمته على الاستمرار في دربه الذي خطه لنفسه منذ صغره.
بهذه الكلمات ودَّع «الرنتيسي» الدنيا، واستقبل الشهادة بصدر رحب، ولم يتوارَ أو يُخفِ قيادته لحماس خلفًا للشيخ الشهيد «أحمد ياسين» قائلاً عن ذلك: «لم يكن سرًّا أن الشيخ ياسين هو قائد الحركة، كما أن الإعلان عن اسمي لا يضيف جديدًا؛ لأنني مستهدف من قِبَل قوات الاحتلال، ثم إن الحركة تحتاج إلى عنوان واضح: قيادة يصل إليها الجميع من سلطة وفصائل وأفراد عاديين».
يوم الجنازة
وفي يوم تشييع الرنتيسي عاشت مدينة غزة يوما لم ولن تشهد له مثيلا فقد خرجت مدينة غزة عن بكرة أبيها أطفالا ونساء وشبانا وشيوخا يودعون قائدهم الذي ترجل، كان المشهد مؤثرا، الجميع يبكي لفراق هذا الرجل الذي طالما اقض مضاجع المحتلين وأرعبهم بتصريحاته الملتهبة حماسة وجرأة.
وفي موكب التشييع تدافع الجميع من أجل لمس جثمان الشهيد الطاهر أو الظفر بنظرة أخيرة على جسده المسجى عل النعش ومثلما كان في حياته ملهما للأجيال وغارسا لحب الشهادة وملاقاة الأعداء كان في استشهاده، فقد أحيا قلوب الآلاف وزرع في نفوس الأطفال والشبان الذين ساروا خلفه وأحاطوا به ثقافة حب الاستشهاد والمقاومة والسير على دربه وزرع فيهم حماسا سيقض مضاجع المحتلين إن آجلا أم عاجلا ونسي شارون ومن أمر بتصفية الرنتيسي أن دمائه ستنبت الآلاف الذين سيسيرون على نهجه وعلى دربه.
وكان لسان حالهم يقول رحل الرنتيسي عنا، وغاب بجسده، وأفجع برحيله الشعب الفلسطيني والأمة كلها لكن روحه ستظل باقية في صدور أبناء شعبه وستظل ترسل اللعنات على من تآمر على قتله وتصفيته وسيفتقد شعبنا هذا الوجه المشرق الذي كان يضيء شاشات الفضائيات يتوعد الأعداء تارة ويسخر من قادة الكيان تارة أخرى ويزرع في نفوس شعبه الأمل بأن النصر قادم رغم الآلام والتضحيات.. وستفتقد حركة حماس رجلا قويا من رجالها وقائدا عظيما شكل مصدر فخر وعزة للجميع.. وكان من الشخصيات المؤثرة في القرار الفلسطيني.. كانت شخصيته ذات بعد فلسطيني وعربي وإسلامي، ولها تأثير قوي في إطار المنطقة بأسره.
وقال من نعاه: إن عزاء شعبنا أن دم الرنتيسي لن يذهب هدرا وأن عشرات الآلاف من الحناجر التي خرجت لوداعه باتت في يوم استشهاده أكثر تصميما على المضي في طريق المقاومة والشهادة، فهنيئا لك الشهادة التي طالما تمنيت وطالما زرعت حبها في نفوس أبناء شعبك.. ونم قرير العين يا أيها الشهيد الرنتيسي في عليين فقد صدقت الله فصدقك ونلت ما تمنيت وسيظل قدرنا أن نودع الشهيد تلو الشهيد والقائد تلو القائد حتى يحقق شعبنا آماله بالحرية ودحر المحتلين.
وقبل وفاته بشهر أدى مدير تحرير صحيفة خليجية العمرة عن د. الرنتيسي وتلقى البريد الإلكتروني رسالة الكترونية من الدكتور عبد العزيز الرنتيسي قبل شهر من اغتياله يشكره فيها على أدائه مناسك العمرة عنه.
وقالت الصحيفة على موقعها إن الدكتور الرنتيسي رحمه الله وعد مدير تحرير صحيفة الحقائق الأستاذ عادل أبو هاشم وهو صحافي فلسطيني يقيم في الرياض بأن يشفع له يوم القيامة بإذن الله إذا رزقه الله الشهادة.
وفيما يلي نص الخبر الذي نشرته الحقائق على موقعها مرفقا برسالة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله واسكنه فسيح جناته:
الرنتيسي : عهداً إن رزقت الشهادة بإذن الله أن أشفع لك يوم القيامة
في السابع عشر من شهر مارس 2004، تلقى الأستاذ عادل أبو هاشم، مدير تحرير صحيفة «الحقائق» رسالة إلكترونية من الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، عاهد فيها الدكتور الرنتيسي الله أن يشفع للأستاذ أبو هاشم يوم القيامة إن رزق الشهادة، وتحققت أمنية الدكتور الرنتيسي بالشهادة التي طالما تمناها وسعى إليها يرحمه الله، بعد انقضاء 30 يوماً على استلام هذه الرسالة، وفيما يلي نص الرسالة دون حذف أو إضافة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل الحبيب عادل أبو هاشم حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إني لأحمد الله سبحانه أن تفضل علي بأخ فاضل كريم مثلك، ويشهد الله أن السعادة قد غمرتني وأنا أقرأ رسالتك التي تحمل ما تفضلت به من أداء للعمرة نيابة عني، وإني لأسأل الله أن يتقبل منك العمرتين وأن يجزيك عنا خير الجزاء، وعهدا إن رزقت الشهادة بإذن الله أن أشفع لك يوم القيامة، فيعلم الله أن لك مكانة خاصة في قلبي رغم أننا لم نلتق، ولكن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، ولقد أحببناك في الله.
أخي الحبيب سأحاول الاتصال بك عندما أتمكن من ذلك فأنا لا أستخدم الهاتف ولا النقال حتى لا يعرف المكان الذي أقيم فيه، ولكن عندما أخرج من المكان إلى مكان عام أتمكن من الاتصال بإذن الله، ولا يوجد لدي إلا تلفون بيت حضرتكم الذي ينتهي بـ 44 فإن كان لديك هاتف نقال فأرسل إلي رقمه ليسهل علي الاتصال بك بإذن الله.
أخي الحبيب نسأل الله أن يجمعنا بك وقد تحرر الوطن من دنس الصهاينة بإذن الله تعالى.
النهار الكويتية