كيف يؤثر رفع الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة في اقتصادات المنطقة؟

profile
  • clock 5 مايو 2022, 5:35:25 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ترتبط اقتصادات العالم بعضها ببعض بشكل وثيق، وتؤثر القرارات الاقتصادية المتخذة في أقاصي العالم في اقتصادات أخرى في منطقتنا، نتيجة لهذا الترابط في الاقتصاد العالمي، وخصوصًا في ظل التبعية الاقتصادية بين اقتصادات المنطقة واقتصادات الغرب عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا. 

أحد أشكال هذه التبعية هو تثبيت العملة المحلية في كثير من بلدان منطقتنا للدولار الأمريكي، أو على الأقل تأثر اقتصادات منطقتنا بقيمة العملة مقابل الدولار بشكل كبير جدًّا، حتى ولو لم تكن هذه البلدان مثبتة لعملتها مقابل الدولار؛ مثل تركيا، وكذلك مصر، التي أعلنت عن تعويم الجنيه في عام 2016، وعلى الرغم أن من الجنيه المصري شهد فترة استقرار منذ تلك اللحظة، فإنه يتعرض حاليًّا للتشكك في أنه مُقوَّم بأكثر من قيمته الفعلية لو ترك ليُحدد سعره بآليات السوق. 

فما علاقة حديثنا عن العملات المحلية لدول منطقتنا بقرار الفيدرالي الأمريكي رفع سعر فائدته بربع نقطة مئوية، ونيته رفعها ست مرات خلال هذا العام بالنسبة نفسها؟ وكيف تتأثر اقتصادات بلداننا بشكل عام بمثل هذا القرار؟ ولماذا يتابع العالم إجمالا قرارات الفيدرالي الأمريكي على وجه الخصوص، والبنوك المركزية الرئيسية في العالم على وجه العموم؟ 

لماذا نهتم بمعرفة سعر فائدة الفيدرالي والتغيرات عليه؟ 

على المستوى الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ستكون متابعة قرارات البنك المركزي بما يتعلق بسعر الفائدة مهمة على أكثر من مستوى، فإذا كنت مستثمرًّا؛ فإن ارتفاع سعر فائدة الفيدرالي الأمريكي سيعني بالضرورة ارتفاع سعر فائدة الإقراض في البنوك، وكثير من الشركات والمستثمرين يعتمدون في تمويل استثماراتهم على الاقتراض، ومن ثم فإن ارتفاع سعر الفائدة يعني ارتفاع تكلفة الاقتراض الحالي، أو أي اقتراض مستقبلي؛ طالما ظلت أسعار الفائدة دون انخفاض. 

أما من جانب المواطنين العاديين؛ فإن رفع سعر الفائدة يعني أولًا ارتفاع تكلفة القروض الشخصية التي يحصل عليها الأفراد، وأي قروض لاحقة لأي هدف استهلاكي، ومن جانب آخر؛ فإن الأفراد في حال ارتفاع سعر الفائدة سيجدون من المُغري أكثر إيداع أموالهم في البنوك على سعر الفائدة المرتفع، أو إقراض الحكومة عن طريق شراء سندات دينها، طالما أن سعر الفائدة ارتفع. 

كما أن ارتفاع أسعار الفائدة مؤشر على قرار الدولة اتباع سياسة نقدية انكماشية؛ بمعنى أنها ترى أن توسع النشاط الاقتصادي بشكله الحالي أصبح مُضرًّا؛ وخاصة ما ينتج من ذلك من تضخم، فتحسن النشاط الاقتصادي بشكل كبير يعني أرباحًا أكبر للشركات، ووظائف أكثر للمواطنين، فينتج من ذلك ارتفاع القدرة الشرائية وارتفاع الطلب، وارتفاع الطلب يسبب ارتفاع الأسعار؛ أو ما يعرف بالتضخم، وبذلك تكون سعر الفائدة والقرارات المتعلقة بها مؤشرًا على سير الاقتصاد الكلي في البلاد، وما تريد الحكومة فعله في قادم الأيام، والآلية التي تريد أن تؤثر بها في الاقتصاد. 

في أول أزمة اقتصادية عالمية شهدها القرن الحادي والعشرين، وتحديدًا «أزمة الرهن العقاري»، انتهجت البنوك المركزية سياسة نقدية توسعية؛ متمثلة بخفض أسعار الفائدة، واستخدام مختلف الأدوات النقدية لرفع عرض النقود في الاقتصاد، بالإضافة إلى خلق النقود من العدم، وضخها في الاقتصاد لتحفيز أنشطته المختلفة، بعد أن تسببت الأزمة في ركود اقتصادي خطير. 

وتُعرف آلية خلق النقود من العدم بـ«التسهيل الكمي Quantitative Easing»، والتي تخلق احتياطيًّا نقديًّا للبنك المركزي من العدم، وشراء أصول نقدية من المؤسسات المالية بالنقود المخلوقة حديثًا، بهدف زيادة الأموال في يدها، ما سيعني في النهاية تحفيز الاقتصاد، وهي سياسة غير اعتيادية، تقوم بها البنوك المركزية في لحظات حرجة من عمر الاقتصاد، وتتطلب إجراءات استثنائية. 

وبعد الأزمة الاقتصادية التي تسببت بها جائحة كورونا، عادت البنوك المركزية إلى السياسة النقدية التوسعية، وإلى سياسة «التسهيل الكمي» أيضًا، فخفضت قيمة أسعار الفائدة إلى ما يقارب الصفر، في مسعى لتحفيز الاقتصاد، ورفع قيمة الطلب داخله، لمواجهة النتائج السلبية المترتبة على الإجراءات الاحترازية. 

وبالنسبة للدول التي تُثبِّت عملتها لعملة أخرى وبالتحديد للدولار؛ فإن عليها أن تُثبِّت سعر الفائدة أيضًا بالنسبة لسعر الفائدة في الولايات المتحدة، فلأن السعودية تثبت عملتها للدولار مثلًا؛ فإن عليها أن تحافظ على سعر فائدة مساوٍ لسعر الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية، أو أعلى منه بنسبة ثابتة؛ بحيث يضطر البنك المركزي السعودي لرفع سعر الفائدة، إذا ما رفعه الفيدرالي الأمريكي، والأمر نفسه ينطبق في مسألة تخفيض سعر الفائدة.

وحتى الدول الأخرى التي لا تثبت عملتها؛ ولكنها لا تعد اقتصادات رئيسية، وتضطر إلى استخدام الدولار، أو أي عملة صعبة أخرى، فإنها تهتم جدًّا لسعر فائدة الفيدرالي الأمريكي، وغيره من البنوك المركزية الأساسية في العالم. 

ويرجع ذلك إلى العلاقة المهمة بين سعر العملة وسعر الفائدة؛ على المدى القصير تحديدًا، والتي تقضي بأن سعر الفائدة المرتفع يعني جاذبية أكبر لشراء العملة، والعملة في النهاية في السوق العالمية مثلها مثل السلع؛ متى ما ارتفع الطلب عليها ارتفع سعرها، وفي المقابل؛ فإن انخفاض سعر الفائدة يعني عائدًا أقل من الاحتفاظ بودائع بنكية بالعملة، ويسبب ذلك انخفاضًا في الطلب على هذه العملة، ما يعني أن قيمة العملة نفسها ستنخفض. 

ولا نحتاج أن نشرح كثيرًا لماذا تهتم الدول بسعر عملاتها، ولكن بشكل مختصر؛ فإن انخفاض سعر العملة يعني انخفاض سعر ما تصدره البلد إلى الخارج، لأنها في النهاية تُسعِّر بالعملة المحلية، وانخفاض سعر الصادرات يعني ارتفاع تنافسيتها، وزيادة الطلب عليها من الخارج، وهي السياسة التي تعتمدها الصين متعمدة، بأن تخفض قيمة عملتها لتحفيز صادراتها.  

في المقابل؛ فإن الدول المستوردة بشكل كبير، تحتاج إلى رفع قيمة عملتها، لكيلا ترتفع أسعار المستوردات بالنسبة للمواطنين؛ ما يعني ارتفاع التضخم في البلاد، واحتمالية انفلات التضخم وتحوله إلى أزمة قد تهدد الاقتصاد بأكمله، وهي الحالة التي شهدتها كلٌّ من مصر وتركيا في السنوات الأخيرة. 

وطالما أن مخاطر الاستثمار في هذه البلدان مرتفعة مقارنة بدولة مثل الولايات المتحدة؛ فإن المستثمرين يحتاجون لحافز إضافي للتوجه للاستثمار في هذه البلدان، وفي ظل أن هذه الدول مستوردة بشكل كبير؛ فإنها تحتاج إلى تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إليها، وشراء الدولار لتمويل عجز ميزانها التجاري (المستوردات-الصادرات).

ومن أجل تمويل عجز الميزان التجاري تحتاج الدول لدعم عملتها عن طريق التدخل في السوق بشرائها لرفع الطلب عليها، ومن ثم رفع قيمتها، أو ببيعها في حال ارتفعت عن قيمة معينة تعدها الدولة ملائمة للاقتصاد، ما يزيد من عرضها ويخفض من سعرها. 

لماذا بدأ الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة؟ 

بعد بدء فتح قطاعات الاقتصاد في العالم بعد الانقشاع النسبي لموجات كورونا المتتالية؛ ظل أثر الإغلاقات ظاهرًا في سلاسل التوريد العالمية، والتي ما زالت متأثرة بالجائحة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النفط الكبير، والذي تجاوز 100 دولار للبرميل الواحد إلى مستويات قياسية منذ سنوات، وما زال مقاربًا لـ100 دولار للبرميل حاليًا، وأعلى من ذلك بقليل.

وفي المقابل؛ فُتحت الأسواق فجأة، وارتفع الطلب العالمي على المنتجات المختلفة بشكل كبير في فترات قصيرة، مقارنة بالفترات التي يحتاجها جانب العرض للتأقلم مرة أخرى، والرجوع إلى حالته الطبيعية، فأصبح هناك فائض طلب في العالم، سببه الأساسي اختناقات سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار النفط، والآثار الاقتصادية الكبيرة للتوترات العالمية؛ وخصوصًا حرب أوكرانيا الحالية. 

وصلت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية لم تبلغها منذ عقود، فالتضخم في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم يبلغ 7.9%، هو الأعلى منذ أربعة عقود، بينما يبلغ في الاتحاد الأوروبي 6.2%، وهي معدلات سنوية مرتفعة بالنسبة للدول الغربية، مع توقعات بارتفاعها أكثر في المستقبل القريب، وخصوصًا إذا لم تتمكن البنوك المركزية من السيطرة على التضخم. 

منذ شهور؛ بدأ الفيدرالي الأمريكي بتخفيف سياسة «التسهيل الكمي»، خطوة أولى للتوجه نحو سياسة انكماشية، فخفض من قيمة النقود التي كان يضخها في الاقتصاد شهريًّا، وبشكل تدريجي، نحو الوصول إلى عدم ضخ النقود من الأساس في الاقتصاد. 

وثاني هذه الخطوات هو ما أعلنه الفيدرالي في 16 مارس (آذار) 2022؛ من رفع سعر الفائدة بنسبة 0.25%، لتصبح 0.5%، مع توقع بأن يرجع المركزي لرفع سعر الفائدة ست مرات خلال العام الجاري، لتصل أسعار الفائدة مع نهاية العام إلى قرابة 2%، وإلى 2.75% مع نهاية العام القادم، وجاء القرار بعد مطالبات بضرورة محاربة التضخم في الاقتصاد الأمريكي، وحصل ذلك أخيرًا، مع إبداء رغبة الفيدرالي الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، في ظل معدلات التضخم القياسية. 

كيف تؤثر هذه السياسة في اقتصادات منطقتنا؟ 

بالنسبة للدول التي تثبت عملتها للدولار؛ فإنها سترفع في الأيام القادمة سعر فائدتها نتيجة لخطة الفيدرالي الأمريكي الأخيرة؛ علمًا بأن أسعار الفائدة في هذه الدول أصلًا أعلى من سعر الفائدة في الولايات المتحدة. 

بين هذه الدول كل من السعودية، وقطر، والإمارات، والبحرين والكويت، وكلها رفعت سعر الفائدة للحيلولة دون تدفق رؤوس الأموال خارج البلاد، ففي حال عدم رفع أسعار الفائدة سيتقلص الفرق بينها وبين أمريكا، ما يجعلها أقل جاذبية للمستثمرين. 

أما بالنسبة لدول مثل مصر وتركيا؛ فهي دول تستطيع نظريًّا أن تحدد سعر الفائدة بشكل مستقل عن الفيدرالي الأمريكي؛ وبالفعل فإن تركيا أبقت على سعر فائدتها كما هو دون تخفيض أو زيادة، في استمرار لسياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الإصرار على أسعار فائدة منخفضة، وصلت حد أن سعر الفائدة الحقيقي (سعر الفائدة-التضخم) أصبح سالبًا في تركيا، بعد أن كان أحد أعلى أسعار الفائدة الحقيقية في العالم. 

هذه السياسة تسببت بانخفاض كبير في سعر صرف الليرة التركية، حتى وصلت إلى أكثر من 18 ليرة للدولار الواحد في ديسمبر (كانون الأول) 2021، قبل أن تعود للارتفاع، وتستقر لفترة عند تقريبًا 13.5 ليرة للدولار الواحد، وتعود للارتفاع على إثر الحرب الروسية الأوكرانية، لتصل اليوم إلى أكثر من 14.5 ليرة للدولار.

لكن البنك المركزي التركي بدأ تطبيق آلية جديدة، تعوض المستثمرين عن فرق أسعار الفائدة وانخفاض العملة على ودائعهم بالليرة التركية، ما أبقى على جاذبيتها بالنسبة لكثيرين؛ سواء كانوا مواطنين أو مستثمرين من الخارج، وهو ما يعني إمكانية أن يكون أثر تغير أسعار الفائدة محدودًا في الليرة التركية، دون القدرة على تأكيد ذلك، لكن ارتفاع سعر الفائدة سيعني قطعًا ارتفاع تكلفة الاقتراض من الخارج. 

أما مصر فهي اليوم أمام خيارين صعبين؛ إما الإبقاء على أسعار الفائدة كما هي، والمخاطرة بخسارة رؤوس الأموال الأجنبية التي يحتاجها الاقتصاد كثيرًا؛ بل إنه مبني عليها بشكل أساسي، وإما رفع أسعار الفائدة؛ ما يعني ارتفاع تكلفة الديون الحالية والمستقبلية لمصر، حتى دون اقتراض المزيد في الأيام القادمة، مع أن المتوقع أن تقترض مصر من صندوق النقد على المدى القريب. 

ولن يقتصر الأمر في مصر على الاضطرار لرفع سعر الفائدة؛ وهو المتوقع حصوله الأسبوع القادم، بل إن رفع سعر الفائدة الذي يجب أن يكون ضروريًّا للمحافظة على سعر صرف العملة من الانخفاض، لن يكون كافيًّا للإبقاء على الجنيه ضمن مستوياته الحالية حول 15.7 جنيهات للدولار؛ بل إن المتوقع أيضًا أن يضطر البنك المركزي المصري إلى تخفيض قيمة العملة بنفسه، ليعكس أكثر قيمته الحقيقية دون تدخل البنك المركزي، وهي من ضمن شروط صندوق النقد المتوقع فرضها لقبول إقراض مصر. 

كما أسلفنا؛ فإن أسعار الفائدة وقيمة العملة ترتبط كثيرًا بالتجارة الخارجية للبلد، ومصر من أكبر مستوردي الغذاء من أوكرانيا، وإمداداتها من القمح مهددة اليوم بالانقطاع، وسط ارتفاع أسعار القمح، وهي السلعة المدعومة من طرف الدولة المصرية، ما يعني ترتب تكاليف إضافية على ميزانية الدولة، وعلى ضرورة توفير احتياطيات أكبر من العملة الأجنبية، للتمكن من استيراد القمح، والذي لن تستورده مصر – بطبيعة الحال- بعملتها، ولكن بالعملة الصعبة، والدولار تحديدًا. 

وقد صدرت من مصر إشارات سابقة عن خطر محتمل على احتياطاتها الأجنبية؛ آخرها قراراتها الجديدة في تنظيم الاستيراد، والتي توفر حماية أكبر لاحتياطات البنك المركزي المصري من العملة الصعبة؛ ولو على حساب التجار والمستوردين، وعلى حساب المواطنين الذين قد ترتفع عليهم الأسعار نتيجة لهذه القرارات، والتي حرمت المستوردين من آليات تسهل عليهم توفير المال الكافي للاستيراد، وتسديد الأثمان على دفعات. 

لكن الخطر الأكبر ليس في الارتفاع الحالي؛ وهو ارتفاع بسيط إذا ما أخذناه بشكل منفصل عن سياقه؛ والمتمثل بنية الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة ست مرات خلال هذا العام، وإيصالها إلى قرابة 2% مع نهايته، وإلى 2.75% مع نهاية العام القادم، ما يعني أن الضغوطات ستكبر أكثر مع الوقت، وستتراكم مع باقي العوامل الأخرى؛ من ارتفاع معدلات التضخم عالميًّا، إلى السياسات النقدية الانكماشية التي ستقلل عرض النقد لا في الدول التي تتبع هذه السياسة فقط؛ بل في العالم أجمع، وأخيرًا مع الحرب القائمة في أوكرانيا، وخطرها على الأمن الغذائي لدول المنطقة.


 

التعليقات (0)