" لعنة الخامسة صباحًا " قصة قصيرة

profile
علي محمد علي شاعر وكاتب مصري
  • clock 18 مايو 2021, 2:06:18 ص
  • eye 987
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

الأستاذ عبد الناصر رجل يحمل التاريخ في طيات عقله ،  و يحمله التاريخ في ملئ عيونه ، 

معلم من طراز فريد ، له أسلوبه الخاص جدًا والمميز في توصيل ونقل المعلومات ، حيث تنساب من فمه كأنها نهر متدفق يجري بتؤده ورزانة ؛

 فتنزل على مسامع مريديه سهلة وبسيطة و ممتعة ، لم تكن حصته مثل باقي الحصص مملة يغالب بعض الطلاب في منتصفها النعاس ،

 بل كانت منذ إنطلاقها وحتى توقفها كأنها فيلم مصور باحترافية شديدة  ، الكلمات منمقة ومختارة بعناية في تسلسل غريب ،

 تجبرك كل كلمة على تتبع و تعجل مابعدها ، كما كان رحيمًا ، إنسانيته تسمو به إلى درجة القديس لا المعلم ، كان أبًا عطوفًا لكل طلابه رغم عدم إنجابه ،

 كان يحظى باحترام الصغير قبل الكبير ، هو لا شك عندي رجل جاء من عالم آخر غير عالمنا ، يعيش في شقته في الدور الخامس من العمارة الخامسة من مجمع مساكن حيينا الشعبي ، 

مع زوجته الرقيقة " الست بدرية " كما كان يناديها دائمًا ، وزوجة معلمنا كانت سيدة كأنها تشبهه كثيرًا إلا أنها بيضاء ، ذلك البياض الرائق الذي إذا دققت فيه قليلًا ربما ترى صورتك في وجهها ،

 وكانت طويلة ، ممشوقة ، رشيقة رغم تقدمها في السن ، لكن صوتها توقف عند مرحلة الطفولة ، ما أن تسمعه حتى تشعر بالدفء والحنان ، 

وأن صاحبة هذا الصوت قريبة جدًا منك ، ربما أختك أو أمك ، وهي كانت للأستاذ كل أقاربه فكانت أخته وأمه وزوجته وإبنته ، 

كل حديثه خارج التاريخ كان عنها ، حتى أنه صنع لها تاريخًا خاصًا بها ، و أزعم أنه ألف فيها كتب ، كثيرًا ما حكى لنا الأستاذ باستمتاع وربما نشوة الفاتحين يومياته مع " الست بدرية " 

حيث كانت ساعتهم البيولوجية توقظهم معًا في تمام الساعة الخامسة ، دون منبهات ، فتكون هي أول مايراها ويكون هو أول من تراه ، ثم يبادرها بقوله : " صباح الخير يا بدر البدور " ،

 فترد : " صباحك سعادة يا سي عبده " ، ثم يقبلها فوق جبينها ، ويقوم يجهز الفطور ، وهي تجهز له بدلته وقميصه ، ثم يتناولا فطورهما ، ويرتدي بعدها ملابسة المميزة والمهندمة بعناية ،

 فالست بدرية كان واضح من إختياراتها لهندامها وهندام زوجها أنها بنت ذوات بل وتربت في قصور ، وإلا من أين لها ذلك الإلمام الكامل بقواعد الإتيكيت وإهتمامها المفرط بالمناسبات الإجتماعية لأهل الحي ،

 لدرجة أنها كانت هي العامل المشترك في كل المناسبات ، فهي التي كانت تدير كل شيئ بتفويض ورضا تامين من أصحاب المناسبة الحقيقين ، 

لدرجة أن أي مناسبة لم تشرف على مراسمها وإعدادها " الست بدرية " كانت تبؤ بالفشل وتنتهي بكارثة ، 

وهذا كان مصدرًا آخر للزهو للأستاذ " عبد الناصر " الذي كان يمشي ويتجول في أي حفل تشرف عليه " الست " مزهوًا نافشًا جناحاته كديك شركسي ،

 ثم يذهب الأستاذ إلى المدرسة ، ويعود في تمام الساعة الثانية بعد الظهر ، فإذا بالسفرة معدة ، والسيدة تقف خلف الباب بإنتظاره ، فيقبلها نفس قبلة الصباح ، 

وبعد الغداء ، يرتاحا قليلًا ، ثم مع إقتراب الخامسة مساءًا ، ينزل الأستاذ بكامل أناقته ليتناول فنجان القهوة المخصوص مع المعلم " شعبان " صاحب قهوة " السعادة " 

أسفل العمارة الخامسة التي يقطن فيها الأستاذ ، ويلعبان الطاولة ،  ويترك المجال لنساء الحي ؛ لاستشارة " الست " في أمورهم الحياتية ، 

وعند الثامنة تمامًا يصعد الأستاذ ، وكالعادة " الست " بانتظارة خلف الباب ، تساعده في خلع ملابسه ، ويلبس جلباب نومه ،

 ثم يقرأ شيئًا ما في مكتبه ، ثم يخلد إلى النوم ، وهكذا دواليك ، وذات صباح جاءت الساعة الخامسة ، وفتح الأستاذ عينه ،

 وإنتظر " الست " لكنها لم تفعل ، فقال لنفسه : ربما مجهدة ، وجهز الفطور ، لكنها لم تجهز ملابسه ، ولم تتحرك من مكانها ،

 مما أثار فضوله ، وراح يستعجلها ، فأمسك بيديها ، وقال : هيا يا بدر البدور ، ماذا دهاك اليوم ، فإذا بزراعها يسقط من يده كمن رمى ثقلًا ، 

فقلب فيها الأستاذ يمينًا ويسارًا ، فإذا هي جثة هامدة ، تحول نور الأستاذ من يومها إلى ظلام حالك ، وسمعنا جميعًا ، صوت الأستاذ يبكي كالأطفال ،

 ويقول كلامًا غريبًا في الرثاء لم نسمعه من قبل ، أتدرون " تنويحة صائد الصقور " في فيلم " الهروب " ل " أحمد ذكي " كان الأستاذ يهزج مثلها تمامًا ،

 " عودي لي يا بكرتي يا أم الجرس رنانه ، قلبي خاض البحور وأنا حيرانه ، خشيت البلاد لأجل أدفى رانا ، فرحت أنا لمان ريت العهان ورانا " 

 وهرع أهل الحي إلى مصدر الصوت ، فإذا بالفاجعة التي أفجعت أهل الحي " الست " ماتت ، بكاها الصغير والكبير ، أما الأستاذ وبعد أن إنتهت مراسم الدفن والعزاء ،

 مكث في شقته أيامًا حتى أن أهل الحي كانوا من قلقهم عليه يتناوبون على زيارته للتخفيف عنه ، إلا أنهم أجمعوا أن الأستاذ لم يعد كسابق عهده ، يتحدث معهم بطريقة غريبة ،

 وبكلام أغرب ، إنه يتعامل كما لو كانت " الست " معه في الشقة ، ينادي عليها لتقديم واجب الضيافة لضيوفه ، ويحدثها وترد عليه ، أمام الحاضرين ،

 يالك من غريب الأطوار يا أستاذ ! ، وبعد فترة نزل الأستاذ إلى القهوة باكرًا لكنه على غير العادة مرتديًا جلباب نومه ، متأبطًا دفتر تحضيره ،

 فصبح عليه " عم جابر " البقال وسأله : أين تذهب يا أستاذ " عبد الناصر " فقال الأستاذ متعجلًا : إلى المدرسة أنا إتأخرت النهاردة يا " عم جابر " ،

 وبعدها ذهب إلى القهوة ودخل على المعلم " شعبان " وسلم عليه وقال : سامحني يا حضرة الناظر ، المواصلات كانت زحمة جدًا اليوم فتأخرت ، 

فقال له المعلم " شعبان " ولا يهمك يا أستاذ " عبد الناصر " ثم قال له في موقف أدهشني : عندك الحصة الأولى ، فجلس الأستاذ على كرسيه المفضل ،

 والتف حوله بعض الناس في مايشبه حلقة ، وبدأ الأستاذ يشرح ، وقال : إفخروا أن أجدادكم الفراعنة العظام ، إنهم لم يكونوا كفارًا كما يدعي بعض المنحرفين فكريًا  هم أول من نادوا بالتوحيد وعرفوه ،

 وتركوا لنا أسرارهم ، لكنكم لم تحافظوا عليها وبعتوها بثمن بخس ، إنكم لا تستحقون إرثهم ، إنكم لصوص قبور ليس إلا ، لم تحافظوا على السر ،

 لن تكتشفوا السر ، يا ألف خسارة عليكم ، ثم نادى المعلم " شعبان " الحصة الأولى خلصت يا أستاذ ، نزل يا بني للأستاذ واحد " ينسون " يجلي صدره ،

 وبعد أن فرغ الأستاذ ، قال المعلم " شعبان " الحصة الثانية بدأت يا أستاذ ، والتف الناس من جديد ، وقال الأستاذ : حصة اليوم عن المماليك ،

 من قال أنهم عبيد ومجهولي النسب ، لقد كان معظمهم أمراء و أبناء سلاطين ، هزموا التتار ، حافظوا على هوية مصر ضد جشع وطمع العثمانلي ،

 لا تظلموا التاريخ ، وتكرر هذا يوميًا ، ويبدو أن المعلم " شعبان " بذكاءه الفطري كان مستفيدًا من هذا الوضع بطريقة أو بأخرى ، 

كما أن رواد القهوة كانوا المستفيد الأكبر من تلك المعلومات القيمة ، إلا أن حضر ناظر المدرسة الفعلي مرة إلى القهوة مصادفةً ،

 وحضر حصة للأستاذ " عبد الناصر " وبكى آخرها ثم إنصرف ، لكن المعلم " شعبان " تحدث معه قبل الإنصراف ودار بينهما حديثًا قصيرًا ،

 فقال الناظر : إن شاء الله نعمل إللي فيه الخير ، ثم أخبرنا المعلم " شعبان " عن أمر خطير يحدث للأستاذ " عبد الناصر " قال إنه في الصباح يكون غير طبيعيًا ، 

لكنه في المساء يكون هو الذي أعرفه منذ ثلاثين عامًا ، أوليس هذا شيئًا غريبًا ! ؟ ، وذات مرة سأل  " الأستاذ " المعلم " شعبان " وهو بعد الخامسة مساءً ، 

لماذا لم يعد حضرة الناظر يوقع لي في دفتر التحضير ؟ فأجابه : إنك معلم كبير الآن يا أستاذ وقد أشرفت على المعاش  ، وهو يستحي أن يراجع دفترك  ،

 ويبدو أن الأسناذ لم يكتفى بالإجابة ، فسأله سؤال آخر : لماذا تغير شكل الطلبة وتغير سلوكهم ؟ فبادر المعلم " شعبان " قائلًا : تلك سنة الحياة يا أستاذ مفيش حاجة بتفضل على حالها ،

 ومرت الأيام وجاء آخر الشهر وموعد صرف مرتب الأستاذ ، والذي ذهب لصرفه من ماكينة الصراف الآلي في أول الشارع ، لكنه عاد حزينًا بعض الشيء ،

 فسأله المعلم " شعبان " : مالك يا أستاذ شكلك متضايق ؟ فقال له : لا أبدًا لكن يبدو أن الحكومة علمت بموت زوجتي وخفضوا راتبي إلى النصف ،

 هنا أيقن المعلم " شعبان " أن الناظر قام بإجراءات تحويل الإستاذ إلى المعاش المبكر ،وذات نهار تأخر الأستاذ عن موعد حصته على القهوة ،

 مما أثار قلق المعلم " شعبان " فالطلاب حاضرون ، فنادى على عم " جابر " البقال وقال : ألم تر الأستاذ اليوم ؟ فأجابه بالنفي ، 

فقال له : هيا نطمئن عليه ، وصعدا السلم ، وطرقا الباب لكن أحدًا لم يرد ، فكسرا الباب و دخلا ، فوجدًا الأستاذ مكفيًا على مكتبه وأمامه كتاب للتاريخ

 وصفحة كتب عليها " عام ٢٠١٤ " كان الأستاذ قد شرع في قطعها لكن أجله لم يمهله ، بعد أن كتب عليها بحبرًا أحمرًا ، 

 " ليس هكذا يكتب التاريخ " .

التعليقات (0)