مالك التريكي يكتب: أمريكا تستعجل التفاوض مع روسيا

profile
  • clock 15 يوليو 2023, 6:12:31 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

لو كان الأمر بيد ألمانيا لما حصلت أوكرانيا على أي دعم عسكري غربي. إذ كان تقدير الألمان منذ بداية الغزو الروسي في فبراير 2022 أنه ليس في وسع أوكرانيا الانتصار على روسيا، ولهذا فإن تزويدها بالسلاح مضيعة للمال، فضلا عن أنه مضيعة للوقت لأنه لن يؤدي إلا إلى إطالة الحرب. ورغم أن الموقف الأمريكي اليوم لا يماثل الموقف الألماني بالأمس، فإنه ليس ببعيد عنه في الجوهر. إذ إن أمريكا تستعجل نهاية هذه الحرب التي تعدّها مشكلة إلهاء لها عن صراعها المركزي الأوحد: الصراع الاستراتيجي التقني الاقتصادي مع الصين. ولهذا فإنها أرسلت إلى روسيا رسلا (منهم ريتشارد هاس وتشارلز كوبتشان) في إطار جس النبض حول إمكانات التفاوض. ويندرج رفض أمريكا انضمام أوكرانيا إلى الناتو في هذا السياق بالضبط: الرغبة في التفاوض مع روسيا. صحيح أن أمريكا أيدت هذا الانضمام في مؤتمر الناتو عام 2008 بينما رفضته ألمانيا وفرنسا آنذاك خشية استعداء روسيا. أما اليوم فإن أمريكا هي الرافضة لأنها تدرك أن الموافقة على انضمام أوكرانيا، ولو مؤجلا لسنوات، سوف يغلق باب المفاوضات مع روسيا.
تقدير الموقف لدى واشنطن (كما سبق لرئيس هيئة الأركان الأمريكي أن عبر عنه في مناسبتين) هو أن أوكرانيا لن تستطيع تحقيق نصر عسكري كلي. هذا هو جوهر الإشكال في القضية الأوكرانية. وبما أن هذا هو الجوهر، فإن الشبح الذي كان يحوم في أروقة مؤتمر الناتو، قبل أيام، إنما هو الرغبة الأمريكية في التفاوض مع الروس. وبما أن زيلنسكي يعلم هذا علم اليقين، فلا بد من الاعتراف له بإجادة اللعبة الدبلوماسية وبالقدرة على المضي بالمزايدة الدعائية إلى أقصاها.

أمريكا تستعجل نهاية هذه الحرب التي تعدّها مشكلة إلهاء لها عن صراعها المركزي الأوحد: الصراع الاستراتيجي التقني الاقتصادي مع الصين

وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن من أهم آثار مؤتمر الناتو الأخير أن اسم ليثوانيا عاد إلى الأضواء العالمية بعد طول انغمار. ذلك أن ليثوانيا غير معتبرة دوليا ولا حتى معروفة إعلاميا بما فيه الكفاية. هذا رغم أنها تقع في القلب من أحداث التاريخ القريب: تاريخ بداية نهاية الحرب الباردة. فقد كان الحزب الشيوعي الليثواني أول حزب في المنطقة السوفييتية يعلن، في 22 ديسمبر 1989، استقلاله عن الحزب المركزي في موسكو، كما كانت ليثوانيا أول جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفييتي تعلن، في 11 مارس 1990، استقلالها واستعادة سيادتها. وكان قد سبق ذلك خروج مئات الآلاف من المواطنين في بلدان البلطيق الثلاثة، ليثوانيا (الكاثوليكية) ولاتفيا وأستونيا (البروتستانتيتين) يوم 23 أغسطس 1989 في مظاهرات عارمة، على شكل سلسلة بشرية متصلة، للتنديد بمعاهدة 1939 السرية التي تقاسمت بها ألمانيا النازية وروسيا الستالينية النفوذ، وأخضعت البلدان الثلاثة بموجبها لنير الاحتلال السوفييتي. وقد تبعت بداية الاحتلال في يونيو 1940 عمليات إعدام وتهجير جماعي واسعة النطاق. ولهذا استقبل بعض سكان البلطيق، وخصوصا في لاتفيا، الغزاة النازيين عام 1941 بحفاوة، ولكن النازيين لم يعيدوا لهم استقلالهم ولو اسميا على الورق. وعندما أتى الجيش الأحمر لـ»تحرير» المنطقة في خريف 1944 (علما أن النازيين تمكنوا من الصمود في غرب ليثوانيا حتى أوائل 1945) سقطت مجددا في براثن الاستبداد الروسي.
وربما تكون النقطة المضيئة الوحيدة آنذاك هي أن ليثوانيا تمكنت من استرجاع فيلنيوس التي كانت بولندا قد استولت عليها بالقوة عام 1920. وقد رفضت معظم العواصم الغربية الاعتراف بضم بلدان البلطيق إلى الاتحاد السوفييتي، واستمرت حكومات وطنية تمثلها في المنفى، خصوصا في واشنطن. كما استمر «رجال الغابات» في شن عمليات مقاومة ضد الحكم الروسي خصوصا في أستونيا وجنوب ليثوانيا، ولكنهم اضطروا لإلقاء السلاح عام 1952. فلفّ بلدان البلطيق منذئذ حجاب كثيف من الصمت، وصار الدخول إليها مستحيلا على الأجانب (باستثناء السلاف الروس الذين كانت ترسلهم موسكو في موجات احتلال استيطاني ممنهج). ويروي برنار لوكومت في كتابه «الحقيقة دائما ما تغلب الكذب: كيف انتصر البابا على الشيوعية» أن تخفيف الخناق نسبيا لم يبدأ إلا بعد أن نصّب في الفاتيكان عام 1978 بابا جديدا. فقد سارع يوحنا بولس الثاني إلى الاتصال بكبرى الكنائس الكاثوليكية في ليثوانيا، كما عين في منصب مساعد وزير الخارجية الكاردينال باكيس، وهو أمريكي من أصل ليثواني كانت عائلته معروفة بمناهضتها للنظام الشيوعي. ورغم تعرّض المقاومة الدينية لقمع «قروسطيّ الوحشية» فإنها نجحت في توزيع المنشورات السرية ونشر روح الانعتاق.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)