محمد قدري حلاوة يكتب : في وصف ما حدث

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 21 يوليو 2021, 10:08:41 م
  • eye 569
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في الصباح.. كانت معركة عنيفة خلفت بضعة خدوش وأزرار القميص والأكمام الممزقة.. أراد أن يأخذ " كيس البلي".. أقسم أنه ملكه.. لم يكن يحب الخسارة.. تلك عادته الذميمة.. لكنه طيب القلب وحلو المعشر.. في المساء لم نتذكر حادثة النهار وصرنا نلعب" الأستغماية" ونلهو ونضحك.. كانت الخدوش مازالت ملتهبة أتحسسها بين حين لآخر.. لكنها مثل كل جراح وأتراح الصغر.. تحدث بسرعة.. وتلتئم أيضا بسرعة.. 

جلسنا نلتقط أنفاسنا قليلا... غدا وقفة عيد الأضحى المبارك.. كانت الخراف والغنم مقيدة أمام باب البناية وصوت ثغائها وحركتها الدائبة محاولة الفرار من قيودها تطغيان على المشهد.. شكل الفراء وقد كتب عليه أسماء أصحابها وهي تضع رؤوسها في صحن العلف..هل كانت تعلم مصيرها بعد ساعات معدودة؟... هل كانت تدري قدرها القادم حتما؟.. 

لم تكن أذهاننا الصغيرة بعد مشغولة بالحدث الجلل الآتي بعد ساعات قليلة.. " الزيارة التاريخية للرئيس السادات للقدس".. 

كان أمامنا ما هو أكبر وأكثر أولوية.. إنهاء الواجب المدرسي الثقيل صبيحة يوم الوقفة أثناء ساعات الصيام.. موضوعا للتعبير عن إنتصار أكتوبر العظيم.. إنتطلقت في سرد البطولات والتضحيات.. وكسر إسطورة العدو..وحتمية إستمرار المعركة حتى تحرير الأرض.. 

في المساء كانت الأنظار كلها شاخصة نحو جهاز التلفاز والرئيس الراحل " السادات" يهبط من سلم الطائرة في " تل أبيب" بأناقته المعهودة محييا المستقبلين بإشارة من يده... حرس الشرف مرتص في إستقباله.. والموسيقى تعزف السلام الجمهوري _ كان حينها والله زمان يا سلاحي _ و رموز إسرائيل " بيجين" و " موشي ديان" و " جولدا مائير" فى إستقباله.. كنا كمن نشاهد كائنات فضائية تهبط على كوكب الأرض.. الدهشة والصدمة لم تمنع من أن نشاهد ترقرق الدموع في عيون الكبار.. 

كانت عقولنا مشغولة في إنتظار الصباح.. " لبس" العيد و صلاته و" العيدية".. أذاع التلفزيون في الصباح صلاة العيد من المسجد الأقصى ورتل الشيخ " مصطفى إسماعيل" آيات من الذكر الحكيم.. نحرت الخراف وسألت دماؤها في الطرقات.. أخذت أنظر نحو إحداها وقد ظل ينتفض بجسده نفضة الروح الأخيرة.. 

لم يزل رأسه متصل بجسده لم يبتر بالكامل بعد.. لكنه َمنحور في رقبته.. شاخص في السديم والمدي.. وما أقسى اللحظات الأخيرة وفداحة ألمها.. 

مضى العيد.. لم أهتم كثيرا حينها كثيرا بخطاب" الكنيست".. كان اللحم والثريد والمسدس الذي يحدث صوتا مزعجا يستحوذان على إهتمامي.. في " الحصة" الأولى في المدرسة كلفتنا " أبلة" " ماجدة" بكتابة موضوع تعبير عن الزيارة الشجاعة للرئيس الراحل " السادات" لصنع السلام _ علمت بعدها أن الحصة الأولى في كل مدارس مصر قد خصصت لهذا الغرض _.. ووجدت القلم ينطلق في وصف حكمة الزيارة وأهمية السلام مع " الجيران"  وإنهاء الصراع وحقن الدماء.. لم يبالي أحد بموضوع التعبير الذي كتبته عن حرب أكتوبر..ولا بسردي للإنتصار العظيم.. طويته في حقيبتي.. وضاع مثل كثيرا من الأشياء التي ضاعت من حينها.. كيف أصابني هذا التحول ومتى؟.. إنها الأسئلة الملعونة المؤرقة الباحثة عن يقين وجواب.. 

حصلت على الدرجة الكاملة وبضعة نجوم.. وبرأت الخدوش وأختفت تماما.. ومازالت الرأس معلقة بالجسد.. لا هي مبتورة ولا هي موصولة.. ومابرحت الدماء تنز نازفة..

"كبرنا..

كم كبرنا..

والطريقُ إلى السّماء طويلةٌ.. 

بقيّتكَ تكفي لترميم أوردة الجراح السرمدية..

 فوق وجنتي وطنٍ لم يندمل بعدُ.."..


" محمود درويش"..

التعليقات (0)