محمود عبد الهادي يكتب: صناعة الأعداء والمؤامرات

profile
  • clock 14 سبتمبر 2023, 7:34:03 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

صناعة العدو وصناعة المؤامرة وجهان لعملة واحدة، في ظروف معينة تقوم الأجهزة المختصة في الدول باختلاق عدو وتهيئة كل ما يتعلق به من معلومات وأحداث ووقائع وشخصيات وتاريخ ووثائق وإثباتات نصية، سمعية ومرئية.

تستمر هذه الأجهزة في تغذية صورة هذا العدو وإبراز مدى خطورته ومدى أهمية تضافر الجهود لمواجهته والقضاء عليه، كما يتم ربط هذا العدو بمؤامرة كبيرة تهدد الدولة وتعمل على زعزعة استقرارها وتدمير مقدراتها ومكتسباتها.

وقد رأينا في المقال السابق كيف قامت الولايات المتحدة بصناعة العدو الإسلامي الإرهابي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.

ولأكثر من 30 عاما تحول العداء الغربي من الاتحاد السوفياتي إلى العالم الإسلامي، وتمت صناعة العدو البديل على نار هادئة في بضع سنوات حتى صار العالم ينام ويصحو على أخبار "الإرهاب الإسلامي"، وبدأت المؤامرات على العالمين العربي والإسلامي تتدفق بلا هوادة.

على مر التاريخ تظل الأنظمة الحاكمة التي تنفذ خططها وتحقق أهدافها غير مبالية بحجم الخسائر التي قد تتكبدها الدولة والشعب، وبما أنها تقوم بذلك من خلال قرارات وإجراءات قانونية ودستورية أو استنادا إلى صلاحياتها الشمولية فإنها لا تخاف من المساءلة أو المحاسبة

صناعة أميركية بأيدٍ عربية

انتهت المؤامرات المصاحبة للحرب الباردة بين المعسكرين: الأميركي والسوفياتي، لتبدأ مؤامرات جديدة بين المعسكر الأميركي من جهة، و"الإرهاب الإسلامي" من جهة أخرى، الإرهاب الذي صُنع وغذّي ليكون -سياسيا وإعلاميا- بمستوى مواجهة المعسكر الأميركي الذي يضم أغلبية الدول العربية بعد تفرد الولايات المتحدة بزعامة العالم.

أصبحت الدول العربية رسميا جزءا مما يعرف بـ"التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب"، خصوصا بعد الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول 2001، والذي راح ضحيته نحو ثلاثة آلاف شخص وعشرات الآلاف من المصابين، بالإضافة إلى خسائر اقتصادية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.

 

 

هذه الخسائر لا تثبت مسؤولية تنظيم القاعدة عن الهجمات، وتبرئ السلطات الأميركية، وهي خسائر هامشية إذا ما قورنت بالخسائر التي تسببت فيها الحكومات الأميركية المتعاقبة منذ هجمات سبتمبر/أيلول في الحرب التي شنتها على أفغانستان، حيث سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى الأميركيين والأفغان والأجانب ومئات الآلاف من الجرحى على مدى عقدين من الزمان بتكلفة تجاوزت تريليون دولار للولايات المتحدة وحدها دون احتساب تعويضات القتلى والجرحى.

الأنظمة الحاكمة -على مر التاريخ- عندما تنفذ خططها وتحقق أهدافها لا تنظر إلى حجم الخسائر التي ستتكبدها الدولة والشعب، ولأنها تنفذ ذلك بقرارات وإجراءات قانونية ودستورية أو استنادا إلى صلاحياتها الشمولية فإنها لا تخشى المساءلة والمحاسبة وتستغل منابرها لإقناع شعوبها بأنها قدمت هذه الخسائر لحفظ أمن الدولة واستقرارها ولتأمين مصالح الشعب ومستقبله وحمايتهما من الأعداء الداخليين والخارجيين الذين يتآمرون عليها.

وعندما كانت قواعد الإرهاب -التي أقيمت بفضل جهود الولايات المتحدة وحلفائها- موجودة في أغلب الأراضي العربية فإن الدول العربية كانت الأكثر تعاونا مع الولايات المتحدة في محاربة هذا العدو باستخدام جميع الوسائل والإمكانيات وعلى جميع الجبهات.

وقد تم إقناع هذه الدول بأن هذا الإرهاب هو واقع وليس مجرد خيال، وأنه يمثل تهديدا مباشرا لاستقرارها، بالإضافة إلى أن بعض هذه الدول قد تعرضت للابتزاز من خلال اتهامها بتمويل الإرهاب.

وبسرعة، تسابقت العديد من الدول العربية إلى دعم الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب والمشاركة في معارك أدت إلى زعزعة استقرار المنطقة وتدمير مقدراتها الاقتصادية والعلمية.

 

ومع كل معركة تظهر نظريات مؤامرة جديدة، الأولى منها تأتي من الأنظمة العربية لتبرير مشاركتها، والأخرى تتشكل من قبل الأوساط النخبوية والشعبية التي تسعى لفهم الواقع.

وغالبا ما تكون النظريات التي تتبناها الأنظمة العربية هي الأكثر تأثيرا نظرا إلى المعلومات التي تقدمها والقوانين التي تصدرها لحماية هذه النظريات وتشجيع المشاركة في المعارك.

كثيرة هي المعارك المفتعلة التي انشغلت بها الدول العربية مع الولايات المتحدة بطريقة أضرت كثيرا باستقرار المنطقة العربية، وكان من الممكن التعامل معها باعتبارها أزمات سياسية أو فكرية تحتاج إلى معالجات خاصة لحلها، وليس إلى حروب دامية وملاحقات تنشر الرعب والتوتر والمعاناة

معارك ومؤامرات مفتعلة لا تنتهي

كثيرة هي المعارك المفتعلة التي انشغلت بها الدول العربية مع الولايات المتحدة، والتي أثرت سلبا في استقرار المنطقة العربية، منها الحرب على تنظيم القاعدة وغزو العراق والحرب على داعش، بالإضافة إلى حروب الربيع العربي في ليبيا واليمن وسوريا، والحرب على الإسلام السياسي، وشيطنة جماعة الإخوان المسلمين، وحصار قطر.

وكان من الممكن التعامل مع هذه القضايا باعتبارها أزمات سياسية أو فكرية تحتاج إلى معالجات خاصة بدلا من تحويلها إلى حروب دامية وملاحقات تنشر الرعب والتوتر في المنطقة، وللإلمام بطبيعة المؤامرات التي تتعرض لها المنطقة سنستعرض بعضا من هذه المعارك كأمثلة.

1. الحرب على تنظيم القاعدة

تنظيم القاعدة هو مجموعة من الأفراد بقيادة أسامة بن لادن اجتمعوا حول أفكار جهادية سياسية معينة، يُعتقد أنهم تم استغلالهم لتحقيق أهداف الإمبراطورية الأميركية ضمن مخطط لم يكن معلوما للتنظيم نفسه، وحتى الشعب الأميركي لم يكن على دراية به، ولكن العديد من الوثائق والأحداث تشير إلى ذلك.

 

رأينا كيف حاولت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش إقناع الشعب الأميركي وحلفاء الولايات المتحدة بأن تنظيم القاعدة يشكل تهديدا لاستقرار الولايات المتحدة والعالم أكثر من تهديد الاتحاد السوفياتي في السابق.

فأين تنظيم القاعدة اليوم؟ هل تم القضاء عليه؟ أم أن دوره قد انتهى ولو مؤقتا بالنسبة للولايات المتحدة بعد تغيير أولوياتها وبحثها عن عدو جديد؟

حسب تقرير وزارة الخارجية الأميركية لعام 2021 عن الإرهاب في العالم، فإن عدد أفراد تنظيم القاعدة والتنظيمات المرتبطة به لا يتجاوز 40 ألف فرد منتشرين في عدة دول أفريقية وآسيوية وعربية، وذلك حسب تقديرات من الفترة بين 2006 و2022.

ويشير التقرير إلى أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر استعدادا لاستهدافهم، وأن الجهود الاستخباراتية مستمرة في تعطيل الخلايا الجهادية حول العالم، وتشكل تهديدا لقياداتها وتعرقل تواصلهم وتحركاتهم.

وإذا كانت الولايات المتحدة قادرة منذ البداية على مراقبة وتتبع وتقييد واعتقال وحتى اغتيال أفراد التنظيم فكيف تمكنت من إقناع العالم بأن هذه المجموعة تشكل تهديدا يهدد الاستقرار والمصالح على مستويات وطنية وإقليمية ودولية؟

A Group of U.S. Soldier look for an enemy that fired on their position.حسب تقرير وزارة الخارجية الأميركية لعام 2021 عن الإرهاب في العالم فإن عدد أفراد تنظيم القاعدة والتنظيمات المرتبطة به لا يتجاوز 40 ألف فرد (غيتي)

2. غزو العراق

انتهت الحرب الأميركية على العراق وسقط نظام صدام حسين، ومرت الأيام حتى اكتشف العالم أن الأدلة التي قدمتها إدارة الرئيس بوش الابن كانت ملفقة، وأن صدام حسين لم يكن يمتلك أي نوع من أسلحة الدمار الشامل.

 

وهكذا تضاءلت دون شك كل الوعود التي أطلقتها تلك الإدارة، والتي كانت تتوقع للشعب العراقي تحقيقها بعد سقوط نظام صدام.

ورغم هذه الفضيحة التي تم توثيقها على الصعيدين الأممي والإعلامي فإن الولايات المتحدة لم تعترف بتلك الجريمة ولم تقدم للعالم أي اعتذار عنها، كما لم تعوض العراق عن خسائره وضحاياه جراء هذه الحرب.

والأمر المحزن هو أن العراق لم يطالب الولايات المتحدة حتى الآن بالتعويض، سواء على المستوى الرسمي أو المدني.

SAFWAN, IRAQ - MARCH 21: (NEWSWEEK AND U.S. NEWS OUT UNTIL 4/7/03) U.S. Marine Major Bull Gurfein pulls down a poster of Iraqi President Saddam Hussein March 21, 2003 in Safwan, Iraq. Chaos reigned in southern Iraq as coalition troops continued their offensive to remove Iraq's leader from power. (Photo by Chris Hondros/Getty Images)العالم اكتشف أن الأدلة التي قدمتها إدارة الرئيس بوش الابن كانت ملفقة وأن صدام حسين لم يكن يمتلك أي نوع من أسلحة الدمار الشامل (غيتي)

3. حروب "الربيع العربي"

كيف يمكن لإمبراطورية عظمى تتزعم قيادة العالم أن تعجز عن اتخاذ إجراءات رادعة وفورية وحاسمة لإيقاف الحروب التي أعقبت ثورات "الربيع العربي" في ليبيا واليمن وسوريا؟

وكيف تعجز عن منع تدخل الدول الإقليمية في هذه الحروب أو عن حظر وصول الإمدادات العسكرية وغير العسكرية إلى الأطراف المتحاربة؟

عندما أرادت الولايات المتحدة أن تعاقب نظام صدام حسين في التسعينيات من القرن الماضي حاصرته، فمنعت تحليق الطيران في شمال العراق وجنوبه ومنعت وصول الدواء والغذاء إليه، مما تسبب في وفاة ما يصل إلى 500 ألف طفل سنويا خلال سنوات الحصار.

 

وعندما أرادت واشنطن أن تغزو أفغانستان قادت تحالفا دوليا ضم أغلبية دول العالم، وعندما أرادت تأديب روسيا وتعليمها درسا في الانضباط الدولي قادت دول الناتو لتقديم الدعم العسكري والإغاثي والإنساني لأوكرانيا في حربها ضد روسيا بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ.

لكن الولايات المتحدة لم تستطع إلى اليوم تحقيق السلام والاستقرار في هذه الدول، فتركت النيران تتواصل في حرق الأخضر واليابس مكتفية بالبيانات الرتيبة التي تصدرها من حين إلى آخر عبر منصاتها في مجلس الأمن ومكاتب الخارجية، حيث تحث فيها أطراف النزاع على وقف القتال والجلوس إلى طاولة المفاوضات وكأنها -الولايات المتحدة- مجرد دولة هامشية من دول العالم الثالث، والشيء نفسه يمكن قوله بخصوص مواقفها وسياساتها تجاه التجارب الديمقراطية التي نشأت في دول الربيع العربي، مثل مصر وتونس.

هذه السلوكيات التي تظهرها الولايات المتحدة بالتعاون مع الدول العربية الحليفة تدفع الجمهور العربي -سواء النخبوي أو الشعبي- باستمرار نحو التفسير التآمري لجميع خططها وأعمالها ومواقفها وبرامجها وسياساتها في المنطقة العربية، وبما أنه ليس من المتوقع أن تغير هذه السلوكيات فإن هذا التفسير سيظل سائدا بين الأوساط العربية كأبرز التفاسير لكل ما يصدر منها.


  •  


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)