ناصر السيد نور يكتب: السودان: حرب الجِنَجْويِّد والصدمة العِرقيَّة

profile
  • clock 8 يوليو 2023, 5:34:34 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أعادت الحرب المستعرة بين طرفي الصراع في السودان مسمى (الجنجويد) إلى الواجهة بعد أن اختفى واستبدل بآخر متطور، عن قوة باتت تعرف في ما بعد بقوات الدعم السريع. وللمسمى دلالته الجهوية وأدواره السالبة في حرب دارفور بالشكل والتعريف الذي اتخذه في اللغات الأجنبية وفي القواميس اللغوية Janjaweed ودوائر الإعلام العالمية، في موازاة الاستخدام الداخلي مؤخراً كميليشيا مرتزقة عابرة للحدود، حسب وصف الجيش السوداني حليفها بالأمس.
والجنجويد وصف يطلق على مجموعة قتالية قبليِّة، تنتمي إلى قبائل ذات أصول عربية في تخوم دارفور، لعبت دوراً رئيسياً في قتال دارفور ضد الحركات المسلحة. وهي ظاهرة انبثقت عن ظروف استثنائية، لم تكن مكان إجماع غالب القبائل العربية في ذلك الإقليم لقد وجدت قبولاً ضمنياً اجتماعياً واستيعاباً رسمياً، انطلاقاً من تصورات الدولة المركزية والمجتمع الذي تمثله بدءا من استخدامها كجماعات تحقق طموح وتصورات الدولة المركزية في دارفور وهي طموحات رغبت الدولة انطلاقاً من قاعدتها الأيديولوجية في إزاحة العناصر غير العربية، وإحلالها بعنصر مرغوب فيه يوافق المزاج الشعبي العام. هذا التصور البيولوجي زحفَّ بعقده المركبة إلى الدولة وأجهزتها وخلق بالتالي دولة مشوهة في بلد تضعف فيه الانتماءات المؤسسية والوطنية، وتستبد بالتالي الارتباطات القبلية ويزداد ضعف الدولة التي تهيمن على جهازها مكونات عرقية محددة حوَّل الدولة ذاتها إلى أداة تستخدم للتمييز والاحتكار والنبذ والاستعلاء العرقي. فصراعات الدولة السودانية مع الأطراف لم تكن تخلو خلال الثلاثة عقود الأخيرة من التحشيد القبلي، خاصة في دارفور تأسيساً على تناقضات مكونات الواقع الاجتماعية والتصورات الزائفة.

الحرب الحالية أخلّت بمعادلات السياسة والمجتمع على أكثر من صعيد فباتساع رقعتها تداخل معها العرق والقبيلة والشعار وكل ما يتداعى من ضغائن تاريخية

أرادت الدولة المركزية أن تجعل من مجموعات الجنجويد قوات حراسة (إنكشارية)، بينما تناست النخب السياسية كعادتها حقائق الواقع، ارتكاناً إلى الرضى النفسي بتلك المجموعات حسب التنميط العرقي، ولكن باندلاع الصراع بين قوات الدعم السريع (الجنجويد) والجيش السوداني، أيا تكن أسبابه السياسية، إلا أنه مثّل صدمة في العقل الجمعي العام، فباتوا في خانة ممن تصفهم بالتمرد أو الدخلاء، وهو تحول لم يعد يصمد أمام حقائق الحرب على الأرض. فعاهات الدولة السودانية الموروثة، التي بدل أن تكون في رعاية حقوق مواطنيها، أصبحت دولة ترعى الخطاب العنصري بمضامينه العرقية الفجة، فلا توجد مجموعة عرقية محصنة ضد الرغبة في التمرد على الدولة، فالحاجة إلى التمرد ضد الظلم، أو الرغبة في التنمية والترقي الاجتماعي لا تقتصر على إثنية دون غيرها بطبيعة الأشياء.
لقد مهد نزوع الشخصية السودانية تمثل النموذج المتخيل المعياري للشخصية السودانية العربية (ود العرب)، إلى تقبل مجموعة الدعم السريع وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) وما لقيه من قبول مجتمعي واسع بكاريزميته الشعبية البسيطة، بما تمثله من تطابق صوري على أسس عنصرية محضة قوامها، الشكل واللغة؛ حيث تشارك حتى الجماعات النوبية النيلية، وتلك الراطنة في أقاصي الشمال والشرق خصائص التصور العنصري النموذجي الأوحد، مع عدم خلوها في سماتها وملامحها التي تختلف كثيراً عن الانتماءات التي تعدها مجموعات متدنية. فإذا كانت اللغة العربية تمثل فاصلاً بين الجماعات العرقية من حيث التراتبية، فإن المجموعات السودانية تركن إلى المكون العرقي برمزيته العنصرية، الذي ليس بالضرورة أن يفصح عن لغة عربية مبينة. في تباين المكونات السودانية وتعددها على ما أصبح سمة بارزة في الوصف الإثنوغرافي للشخصية السودانية النمطية من تعدد ثقافي ولغوي وجغرافي (جهوي)، لا تتفاعل وفق التطور المجتمعي أو منطق اللغة والثقافة في سياقها الأنثروبولوجي والتحولات الاجتماعية التي تحدثها الهجرة والحروب والنزوح. وعلى النقيض من ذلك تفاعلت هذه العوامل وفق تقسيم حادٍ وينفذ قهرياً بوسائل سياسية اجتماعية مورثة. فالسودان الذي يتعدَّد فيه كل شيء إلا السلطة، تلك الصورة النمطية شكلتها المخيلة المركزية الشعبية للدولة، نتيجة علاقات الرِّق والاستعمار والعلاقات التاريخية الهجين القبلي بين المجموعات القبلية السودانية التي انتجت مجتمعاً هجيناً متنافرا. وتجلت صوره النمطية في الأدب الشعبي والتعبير الثقافي الشفاهي منه والمكتوب، بحثاً عن هوية متنازعة بين هوية عربية مزعومة خالصة، وزنجية تبرز ملامحها بقوة في الشخصية السودانية. صورة تختزن قيمِّ ومعايير أخلاقية تعد رافعة اجتماعية للانتساب للدولة، أو المجتمع المهيمن، فقد ظلت صورة الآخر (غير العربي/الهامش) مهدداً عرقياً وخطراً داهماً على خريطة الجينوم القبلي، لما يفترض أن يكون شخصية السوداني توهماً على أسس ملامح تنافي مع كل ما أنجزته البشرية في سعيها لإزالة الفوارق العنصرية بين بني البشر، كما تضمنته مواثيق حقوق الإنسان.
ففي غمّار معترك التنظير لحوار يستوعب ويحلل التركيبة الإثنية للسودان من منظور ثقافي، بإيجاد صيغة توافق بين غابة وصحراء وعروبة وافريقانية، لم يوفق الحوار بين مثالية الطرح وصدمة الواقع. فانتهى إلى إنتاج بلد تتنازعه هويات منقسمة على ذاتها. فبدأت المحاولات لقراءة وتفسِّير مسألة الهُوِيَّة – ليس على ما يبدو لبناء وطن؛ فالأرجح لتأكيد ذوات مسلوبة – والدور الذي تلعبه تلك الهوية المدعاة في إدارة والسيطرة على الدولة وعلاقات المجتمع، من خلال واقع الأزمات المركبة التي رافقت نشوء وتطور هذا الكيان، الذي يشكل التعدّد أبرز سماته وأخطرها. الأمر الذي أفاضت فيه كتابات المفكرين والمثقفين السودانيين، الذين حاولوا استجلاء عمق الأزمة بتحليل جذورها الثقافية، التي أدت إلى توتراتها السياسية الدامية. فلأي صراع جذور ثقافية كما يقول عالم الاجتماع السوداني حيدر إبراهيم. ومن أبرز شواهد ووقائع هذه الصورة المتخيلة في ردات الفعل الاجتماعية تجاه مكونات الهامش ما حدث في أعقاب اتفاقية توقيع جوبا للسلام 2020 التي وضعت حداً للقتال بين الفصائل الدارفورية المسلحة (حركات الكفاح المسلح) والدولة حين انتشرت قواتها في العاصمة السودانية الخرطوم، وقد لاقت استهجاناً عرقياً على الأرجح وازدادت المطالب الشعبية بإخراجها خارج العاصمة. وهو الأمر الذي لم يحدث مع مجموعات الدعم السريع (الجنجويد) رهبة من قوتها الضاربة الرابضة في عاصمة البلاد ومدنها، وقبولاً ضمنياً اجتماعياً بسحنات أفرادها. ولعلها المرة الأولى على مدى تاريخ الانقلابات السياسية في الجيش، التي لم يوصف تحرك قادته من غرب البلاد بالمحاولة العنصرية، الوصف الذي ترسخ في التعبير السياسي العام، ما يضع الخطاب السياسي السوداني أمام معضلة تاريخية محرجة، لا تفيد معها حالات الإنكار، خاصة أن العقل الرسمي للدولة محفزاً بالتصور الشعبي، يستخدم تعبيراً آخرا في نزع جنسية الدولة عن الفئات المتمردة، أو المحتجة بالسلاح بعدم سودانيتهم وهو التوصيف الأخير المشهر ضد جماعات الدعم السريع؛ حرج سياسي آخر يدحض وجود قوة أمنية هائلة مستوعبة في أهم أجهزته الأمنية بالقوة الأجنبية! الحرب الحالية أخلّت بمعادلات السياسة والمجتمع على أكثر من صعيد فباتساع رقعتها تداخل معها العرق والقبيلة والشعار وكل ما يتداعى من ضغائن تاريخية. فالصراعات التاريخية في منازعة الهامش للمركز الذي تعود الى خمسينيات القرن المنصرم في الغرب والشرق والجنوب تعود حاضناتها الاجتماعية الى مكونات خلافاً لمكونات الدولة لمركزية. والآن ترفع مجموعات الدعم السريع الشعارات نفسه وهي التي لم تكن على توافق مع تلك المجموعات بتفضيل المركز لها، أو نظرتها إلى تلك المجموعات من حيث التكافؤ العرقي. ولكن ما غاب عن التفكير المركزي والاعتبارات المؤسسة على أيديولوجية طالت كل الأحزاب السياسية السودانية التطور الذي تحدثه التحولات الاجتماعية والوعي السياسي المكتسب من تجربة الحرب، أو الاندماج المديني الذي يختلف كثيراً عن محاولات الدمج في جيش الدولة الموحد، مكان الخلاف وسبباً رئيسا في اندلاع الحرب. فالمكونات العربية نفسها عانت من تهميش مزدوج، كما يطلق عليه الباحث اليوغندي البروفيسور محمود ممداني بين تهميش الهامش والمركز.
ومع إعلان قائد الجيش للتعبئة العامة لدحر تمرد ميليشيا، أو قوات الدعم السريع، وانضمام مجموعات قبلية في غرب البلاد إلى أحد طرفي الصراع (الدعم السريع) ستزداد حدة تفاقم التوترات العرقية، مما يحول الصراع بين مكونات الدولة الاجتماعية إلى حربٍ قبلية تعود إلى منصة انطلاقها التأسيسية التي أخطأت سياسات النظام السابق وقبلها حكومات الدولة السودانية منذ 56 حيث ثوابتها المستقرة المحافظة التي تظنها عصية على التغيير. فإضفاء الطابع العرقي صراحة أو ضمناً على الدولة ينشر مناخاً شعبوياً كانت قابليته للانفجار مسألة وقت في بلد فشلت نخبه السياسية في إدارة تنوعه الإثني المركب.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)