هاشم عبد العزيز يكتب باب الحديد

profile
هاشم عبدالعزيز كاتب وقاص
  • clock 8 مايو 2021, 11:37:56 م
  • eye 864
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

إذا أردت أن تشرح الكلاسيكية دون أن تجنح إلى التنظير ؛ لن تجد أجسر من باب الحديد في السينما المصرية   أن يفرد ذلك المعنى أمامك دون مجهود يذكر ؛

 فالصنعة الجميلة لا تصدأ ولا يبهت رونقها مع مرور الزمن بل تزداد لمعانا وبريقا ورجما لكل ماهو جديد نظرا لما تحتويه  من أصالة وبداعة وصدق

 استطاع أن يخلدها إلى الأبد كما أن البعد التاريخي لمواقع التصوير يلف الفيلم بقداسة يعرفها كل من يمر بمحطة رمسيس ؛ ناهيك عن جمال الموضوع كفكرة بعيدة كل البعد عن الميل  المسرحي الذي كان قائما وقت صناعة الفيلم 

.. سواء كان ذلك الميل من ناحية القصة والموضوع أو الأداء التمثيلي نفسه أو الأسلوب الاخراجي ذلك أن اللغة السينمائية في ذلك الوقت لم تكن قد انفصلت عن أصول  المسرح بعد  . بكل هذه الأشياء   نقدر أن نقول بكل أمانة أنه من كلاسيكيات السينما دون احتياج إلى شرح كثيف أو توضيح ممل باهت . 

" صوت الراوي حسن البارودي " " عم مدبولي " 

على لقطات متتابعة لباب الحديد يحكي لنا العم مدبولي بائع الجرائد كيف تعثر في "قناوي"  الأعرج  عاثر الحظ الذي ترك صعيد مصر وهاجر إلى القاهرة نشدانا للعز والمال كما يحلم سائر أولئك الذين يتركون بلادهم 

واهليهم ويظنون أن المسألة بمثل هذه السهولة .. هكذا يقدم لنا مدبولي المحسن إلى قناوي بتوفير الشغلة والسكنى له في أحد الاكشاك بالمحطة والتي غطي الساكن الجديد  جدرانها  بصور المجلات التي تستقر عليها أجساد الفتيات شبه العارية

 لنعرف أن قناوي يغرق لشوشته في بئر الحرمان لدرجة أنه أصبح مريضا كما يروي لنا  مدبولى قبل دخول عناوين مقدمة الفيلم . 

" الحب والعمل وما إليهما في مجتمع المحطة  "

بعيدا عن أعداد المسافرين الكثيرة التي تقصد باب الحديد يوميا فالمحطة كمجتمع صغير ثابت ومرن في نفس الوقت حيث يمكنه أن يكون أكثر سعة ورحابة إذا استطعت أن تملأ زمكان ساعات قليلة منه لتتمكن من إدخال مسافر 

أو أكثر تأكيدا للمعنى وإبرازا لحيوية ذلك التجمع الإنساني وقسوته ورهافته ؛ لقيظ الظهيرة الحار ومنظر اندفاع الماء في نافورة المحطة وصوت ارتطام زجاجات المياة الغازية في جردل "هنومة" التي عشقها

 " قناوي" كرمز للانوثة في خياله المعذب المسكين لأنها الأقرب روحا وتكوينا لتلك الفتيات  التي تنام على جدران غرفته والتي يقص صورهن من صفحات المجلات  

ويرسم  على اكتافهن جردل هنومة وبداخله يضع زجاجات أيضا ويغض الطرف متجاهلا خطوبة هنومة بأبو سريع شيال المحطة والذي يتمتع بصفات قيادية كما يخطف القرش من حنك منافسيه كمن ينزع اللحم من بين أنياب أسود متوحشة ؛ 

أبو سريع الذي لا يهمه أهوال الحر الشديد ولا متاعب الحمل والقفز بحقائب المسافرين بقدر ما يشغله أن ينجح في تشكيل نقابة تحفظ حقوق شغيلة الشيل ؛

 ذلك الامل والحلم المشروع الذي لا يعجب كثير من المتغطرسين الذين يعشقون الضبابية و الفوضى وال لا تنظيم حيث يحصدون من وجودها مغانم كثيرة كما يرفعون أحيانا شعار النظام والترتيب في حالة إذا صب ذلك في خانة كروشهم النهمة

 وميزهم عن سائر الحرافيش ؛ ان كل ما يهمهم المنفعة الفردانية العالية ولو  تحقق ذلك دهسا لرؤوس المجموع المصلوبة على أرض المحطة ؛ يتجلى ذلك في صراعين متوازيين صراع ابو سريع مع أعداء تشكيل نقابة تمحو الفوضى القائمة

  وصراع هنومة وبقية الفتيات مع صاحب البوفيه الذي يتضرر من صعود الباعة إلى عربات القطار والبيع المرتاح للمسافرين وهم في أماكنهم و يدفعان بمعنى الفيلم العام إلى الأمام 

عن طريق وقوع اشكال الطير على بعضها وتشكيل فريقين يسعى كل منهما إلى الفوز على الاخر .. فنرى صاحب البوفيه ورجاله يلهثون طوال اليوم ومعهم الاموباشي حسانين للقبض على هنومة متلبسة بأداة الجريمة

 " جردل المياة الغازية " كما يهرول أبو سريع جيئة وذهابا وعرقا بين مكتب العمل بخصوص النقابة وبين شيل الحقائب في المحطة وتوفير المال الذي سيتزوج به هنومة " . 

" القوة والضعف في باب الحديد  " 

- ده كان ايام الفتة 

قالها ابو سريع بجرأة وقوة وانطلق ليخطف حقه في تشكيل نقابة  دون مواربة أو تراجع أو خوف رغم ما يظهر لدى منافسيه من قوة زائفة ؛

 أما قناوي المنافس المستتر لابو سريع فكلنا نعلم أنه ينافسه الا ابو سريع نفسه ؛ أنه لم يلتفت إلى تلك المسألة التافهة رغم أن هنومة اخذت تشكو له من قناوي ومطاردته لها  

ولكنه مضي في طريقه ؛ ذلك المعنى الذي أراد يوسف شاهين ترسيخه بعيدا عن قصة الفيلم الظاهرة وتجسيده هو نفسه لمأساة قناوي العاطفية ؛ 

فمهما حاول أن ينقل بالصورة  مخرج اخر ما كتبه عبد الحي اديب ومحمد أبو يوسف ما ترجمه  يوسف شاهين وما شعر به واتحد معه وترجمه لنا بصريا على الشاشة بعيونه التي تشع منها الرقة والعذوبة مرة والجنون والغضب مرة  واذنه التي كثيرا ما سمعت ما  يؤلمها وقدمه التي يتفق الجميع على السخرية منها .

" خيال قناوي يتجسد  على الأرض " 


يطوف "قناوي " بقدمه العرجاء حول القطارات مثبتا نظره على دخانها ويشرد في صوتها المعتاد الذي  يصدر منها وهكذا  يبيع الجرائد ولا يرى إلا هنومة البائعة السريحة التي يطاردها  في كل مكان 

ليبوح لها بحبه محاولا أن يجذبها بعقد ذهبي ورثه عن أمه  مرة  يبني لها منزلا صغيرا على بحر بلدهم مرة أخرى ؛ منزل محندق بعيدا عن ضجيج وضوضاء المحطة

 ولا حياة لمن تنادي ؛ إن هنومة لا تزد على الضحك والدلال شيئا حتى يرى قناوي الحب كما يحلم ويرجو يتشكل أمامه في تلك الفتاة التي اشترت منه قروش تليفون

 وانطلقت إلى الكابينة لترسل الشوق الحار إلى حبيبها المسافر ؛ ستظل واقفة حتى يأتي وتودعه للمرة الأخيرة قبل أن يغيب مع أسرته  طويلا ؛ سترفع له يدها ولو قليلا حتى لا يلاحظ أحد ؛ 

ستلوح له بقلبها وروحها راضية بأقل القليل ؛ كان شيء من الوادعة والرقة يتكون في تقاسيم " قناوي " كلما لمس حلمه قائما على الارض ولو كان بطل الحلم رجل غيره 

وفتاة أخرى غير هنومة التي لم يتوقف عن مد يد  العون لها بإخفاء جردلها من الاومباشي حسانين وزبانية البوفيه   كما استمر في  قص صور شبيهاتها مستكملا حلمه  مهما أظهرت له من رفض وهزأ وسخرية أيضا .

" القتل والشروع فيه بين رشيد وباب الحديد "  


بعد سيل من سخرية "هنومة" والهزأ بقناوي ورجله العرجاء وقروشه التافهة مقارنة بقروش خطيبها أبو سريع ..  يجلس قناوي في كشك مدبولي منتبها لحادثة رشيد التي يرويها مدبولي

 وهو يقرأ لقناوي تفاصيلها كاملة وكيف وضع القاتل الجثة في صندوق بضائع بمحطة رشيد .. كان قناوي يقص صورة فتاة من مجلة ؛ وكان يسأل مدبولي عن إمكانية الكشف عن القتل فيجيب أنه فص ملح وذاب لينصرف 

" قناوي " تاركا الصورة منزوعة الكتف واليد والرأس كما فعل قاتل رشيد تماما.. 

"  الجردل بين هنومة و حلاوتهم وصبي البوفيه     " 

جاء مندوب مكتب العمل وركن اغلب الشيالين إلى صف أبو سريع الذي سيتوج فوزه بزواجه من هنومة بمجرد أن يصل صندوق ملابسها إلى فاقوس مسقط رأسها ؛

 يجهز قناوي السكين ويدسه بين صفحات الجرائد ويتحين الفرصة المناسبة ليجهز على هنومة التي تطلب الجردل من قناوي بعدما أخفاه عن عين الاومباشي حسانين في اخر مطاردة بوليسية بينه وبين البائعات السريحات

 دون ان يقبض عليهن أو على الجردل أداة الجريمة الهام  كما يصفه صبي البوفيه أثناء بحث مدبولي وأبو سريع عن هنومة عند استشعار خطر غيابها لوقت غير معتاد ..

 ترسل هنومة زميلتها حلاوتهم لتأخذ هي  الجردل من قناوي الذي يبصبص لها ويصنع لها الغراميات ..

 وتقبل حلاوتهم بعد اعتراض وتدخل على قناوي بجلباب يشبه جلباب هنومة ليغرس السكين في ظهرها ويغلق الصندوق ويسلمه لابو سريع حتى يرسله إلى فاقوس باعتباره صندوق ملابس هنومة .

تنام حلاوتهم في الصندوق بدون الجردل الذي تنتظره هنومة هي الأخرى وتبحث عنه ليتعثر قناوي فيها ليقتلها مرة ثالثة بعدما غرز السكين في صور الجدران كما طعن ظهر حلاوتهم

 وها هو يستعد للقتل الثالث ؛ أنه لم يتذكر أنه قتل شخصا بالخطأ لم يلتفت إلى ذلك بقدر ما يتعطش للهرب من صورة هنومة التي تقف أمامه وتطلب الجردل ويشهر قناوي السكين مهددا بقتل ابو سريع نفسه 

الذي اكتشف حلاوتهم النائمة في الصندوق ليهرع جميع من في المحطة لإنقاذ هنومة وارتداء قناوي بدلة المجانين ليصرخ مستغيثا بمدبولي الذي وعده أن يزوجه هنومة في تلك الدقيقة نفسها التي سيرفع فيها يده عنها التي تحمل السكين

 الذي يشارك ابو سريع في إبعاده عن ظهرها ليحمل ناجيته  قاصدا فاقوس لاتمام الزواج لينتهي الفيلم في ساعة كاملة وربع  من أهم الساعات التي وثقها تاريخ السينما والتي تعيش حتى الآن لما تزخر به من أفكار ومعاني وجمال في العرض والأسلوب والصنعة

التعليقات (0)