وسام سعادة يكتب: من الطيونة إلى عين الحلوة: العنف المحتبس وانطباعاته

profile
  • clock 5 أغسطس 2023, 6:41:39 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ما بين اليوم الدامي على «محور» الطيّونة في أكتوبر 2021 وبين الاشتباك الفلسطيني – الفلسطيني الحادّ في مخيم عين الحلوة في الأيّام الماضية، مضت مدّة من الوقت «مُحتبسة عنفيّاً» في لبنان، ويمكن أن يُضاف على احتباس العنف فيها ندرة نسبية في تتالي الأحداث.
لقد أتاح «احتباس العنف» في البلد المنهار مالياً أن يكمل الانهيار مسيرته «الارتطاميّة» بسلام، بل أن تُنْسَب له جماليّات ومناقب. هنا الانهيار يعلّم الناس حلاوة الزهد وأصل الزرع وهناك يثمر نقلات حيوية وطموحة من «الاقتصاد الريعي» إلى اقتصاد «المعلّبات» المنتج، وسياحة تراثية بيئية متعافية، بموجبها «كل مرقد عنزة يتحول إلى غست هاوس».
كذلك، أتاح «احتباس العنف» وانمحاء الحركة الشعبية سواء بسواء، أن تُجرى انتخابات نيابية، وأن يستشري تعطيل المؤسسات الدستورية بعد هذه الانتخابات، عوضاً عن حصول العكس عندما يُجدّد الإنصات للإرادات الشعبية المعبّر عنها في الصناديق.
في العامين الفاصلين بين الاشتباكين الداميين في كل من الطيونة وعين الحلوة، ظهر كما لو أن للترنّح رونقا، وبدا أن للانهيار «كيانه المستقرّ» وحياته «الأليفة» هو الآخر، و«دولته اللامرئية» الماضية كالعين الساهرة للحؤول دون انفلات الأمور في البلد الذي يعيش على صعيد شروط العيش والكسب حرباً اجتماعية ضد الغالبية العظمى من سكانه، ويراد فيه في الوقت نفسه أن لا تتسبب التصدّعات المتواصلة لسلمه الاجتماعي بخدش «السلم الأهلي» وغنائياته. وهو، بالتداخل مع هذا، البلد الذي يدفع فيه «الإفلاس المالي» العلاقة بين الطوائف إلى المزيد من «التناقم» (النقمة المتبادلة) بما أن «المسكوت عنه» إلى حد كبير، أن هناك في كل طائفة رهطا ينظر الى الطائفة المقابلة على أنها المتسببة الأولى بالانهيار!
هناك في كل مجتمع مجموعة من الانطباعات غير المسندة لا بدليل ولا بحجة، إنما التي تفعل فعلها في النفوس، وكثيراً ما توقع الناس في مصيدة الاطمئنان إلى واقع يتحضر للعصف بهم من جديد.
ومن هذه الانطباعات ما تمخضت عنه تجربة الأعوام الماضية في لبنان، وهي أربعة أعوام مضت حتى الآن على تدشين مرحلة «الانهيار الكبير» لأموره المالية وتركيبته السياسية.. و«له» كمشروع كيان وطني قابل للعيش وقادر على تدبّر أحواله دون حاجة لإسعاف خارجي مستدام.
ومنها ثلاثة أعوام مضت على الكارثة الإجرامية المتمثلة بتفجير مرفأ بيروت وتدمير جزء واسع من أحياء العاصمة.
ومنها عامان، يقعان بين اشتباكي الطيونة وعين الحلوة، وقد احتبس فيهما العنف، أكثر من ذي قبل، مقدار اندثار الحركة الشعبية، وبهتان السياسة والإعلام.
ومع هذا سرى الانطباع في هذين العامين بالتحديد، بشكل يختلط فيه التمني الغرائبي بالإحباط المكابر، وتنقلب فيه محاولة تفسير الأمور بعضها ببعض الى تمارين في التطيّر ومكافحة التطيّر.
لقد انوجد وانتشر الانطباع بأن الانهيار «ممسوك» أو أقله، هو كفيل بصناعة «تماسكه». وجاء ذلك، في مطرح ما، كردة عكسية على التمادي في الحديث عن «انهيار بلا حدود» يهدم كل شيء في العامين الأولين على «الأزمة».

لماذا لم تتدحرج الأمور الى الاصطدام الشامل بعد تفجير المرفأ، أو بعد حادثة الطيونة، أو في ظل الفراغ الرئاسي، أو لماذا ظل النظام المصرفي – تحت قيادة المصرف المركزي – قادراً بشكل أو بآخر على الهروب الى الأمام؟

جرى الانتقال إذاً من خرافة «الانهيار الذي يحول كل شيء إلى عدم» إلى خرافة «الانهيار الذي يأخذ حيزه من الواقع على شكل وجود». انتشر الانطباع بأن اليد الخفية تحول دون انقلاب الإفقار الشامل إلى مجاعة «مرئية» واسعة النطاق مثلاً، وبأن اليد الخفية تحول دون الانتقال من تزايد جرائم القتل والسلب الى فلتان أمني على شكل قطاع طرق في كل مكان، وبأن اليد الخفية أعانت البلد على اطفاء، أو تأجيل، مناخ الاشتعال بعد حادثة الطيونة.
صحيح أن الناس ذهبت وراء تسويغ هذا الانطباع بوجود يد خفية مذاهب شتى.
فالناشط في «الثورة المتخيلة» بعد انفضاض الجموع من الساحات يتخيل أن هذه «اليد الخفية» واحدة من أحابيل «المنظومة السحرية» التي تحكم البلد منذ عقود طويلة. بالنسبة الى هذا «الناشط» تخترع المنظومة سيناريوهات مرعبة ثم تعدل عنها عندما «تسلّك» مصالحها بالشكل الكافي والوافي بين أقطابها. بالتالي، عند هذا الناشط أن «المنظومة» تتولى عملية «دوزنة» الانهيار وسكراته ونوباته. هذا طبعاً عندما ينسى «الناشط الثوري» ـ على ما تزين له نفسه أن يتخيلها ـ شعارات له أخرى تماهي بين الانهيار العام وبين انهيار «المنظومة» نفسها.
في المقابل، ثمة أشكال أكثر «واقعية» أو «عملانية» لتعليل هذا الانطباع بأن اليد الخفية لا تزال تقي لبنان شرّ العواقب، ولو بكلفة باهظة على مستوى الإحباط والكدر، أو على مستوى هجرة أبنائه، بوتيرة أسرع في الأعوام القادمة، أو على مستوى الكلفة الاقتصادية الاجتماعية لكل هذا.
من هذه الأشكال «العملانية» اللجوء الى تفسير الأمور بالعوامل المزمنة، بدءاً من كم التحويلات بالعملة الصعبة من اللبنانيين في الخارج الى ذويهم في الداخل، ووصولا الى استصعاب حصول حرب أهلية طويلة الأمد وشاملة في بلد شهد مثل هذه قبل ثلاثة عقود ونيف. وإن جرت الغفلة هنا عن التداخل بين الزمنين اللبناني والسوري. سوريا ـ النظام تدخلت في الحرب الأهلية اللبنانية و«أممتها» لحسابها شيئا فشيئا. ولبنان ـ الممانعة تدخل في الحرب السورية الى جانب النظام. لا يمكن الاستهانة على طول الخط بالرأي الذي يستصعب تجدد حيوية حرب أهلية طويلة في بلد شهد مثلها لخمسة عشر عاما، لكنه ربط انطباعي. لا يمكن الركون عليه لوحده. بخاصة وأنه بعد تجربة الحرب جاءت تجربة الوصاية، ثم مشكلة سلاح «حزب الله» والانقسام العميق والمستمر حولها، بالتداخل مع مشاركة هذا السلاح في الحرب السورية، وتزايد أعداد اللاجئين السوريين في لبنان. في المقابل، هنا أيضاً، وبعد أن ظهرت موجة معادية للاجئين في الآونة الأخيرة، يقابلها هروب من مقاربة الموضوع بشكل شفاف ومتوازن في معشر المتصدين للعنصرية، عاد انطباع اليد الخفية للظهور. يد خفية نجحت في سحب الموضوع من التداول الحاد، وإرجاعه الى «معلوك الكلام».
كذلك جرى اللجوء الى نشاط شبكة السفارات والتدخلات الخارجية وقنوات الاستجابة لها أو التفاعل معها في «بواطن الدولة» أو على تخومها، لأجل تفسير «لماذا لم تتدحرج الأمور الى الاصطدام الشامل؟» بعد تفجير المرفأ، أو بعد حادثة الطيونة، أو في ظل الفراغ الرئاسي، أو «لماذا ظل النظام المصرفي – تحت قيادة المصرف المركزي – قادراً بشكل أو بآخر على الهروب الى الأمام؟» ومؤسسات الدولة وأجهزتها قادرة بشكل أو بآخر، على «العمل بمن حضر». هناك ما هو صائب نسبياً في هذا المجال. تدخل السفارات والمنظمات الدولية والقنوات الخارجية أعطى الانطباع بأن الأمور غير متروكة للتدحرج الكامل، وأن «الخارج» بشكل عام يعمل على خفض التوترات، سواء تلك المتصلة بالاعتبارات الإقليمية، انطلاقاً من المجال اللبناني، أو تلك المتصلة بالعلاقة بين الجماعات اللبنانية.
هذا الانطباع غير مبني على وهم. إنما الوهم هو أخذ هذا الانطباع، هنا أيضاً، على أنه قادر على توليد وإعادة توليد الواقع لمدة طويلة، على هذا النحو، وأنه سيظل قادراً على توفير القابلية الداخلية اللبنانية للتفاعل معه، أجهزة ومرجعيات وأمزجة سكانية، وأن التدخلات الخارجية ستبقى «تحاورية» فيما بينها، ولن تسلك التناقضات بين عواصمها مسلكاً تفجيرياً اضافياً للوضع.
لقد جاءت اشتباكات عين الحلوة في الأيام الماضية لتعطي شاهدا إضافيا على أهمية الشبكة الخارجية للتحكم بالتوترات وخفضها عندما تزيد عن حدها في لبنان. لكنها جاءت أيضا لتظهر ما يحب المرء في العادة تناسيه، وهي أن «احتباس العنف» يعني أن ثمة «عنفا محتبسا متراكما» سواء جرى تصريف كل مخزونه أو ترك أمره للتلف على المدى الأطول. العنف المحتبس، وحتى عندما لا يجري تصريفه على نحو متفجر، واشتباكي، وتناحري، يجد طريقه الى التأثير على حركة الواقع، بل يجد طريقه أكثر ما يكون الى اضعاف النظرة الواقعية. وهذه الحال في لبنان الآن، من الطيونة الى عين الحلوة، وفي الاتجاه المعاكس. التصدعات والترنحات ستزيد كلما جرى الركون أكثر إلى الانطباعات بوجود «يد خفية» تقي لبنان، أو أي من مكوناته أو من المكونات الموجودة على أرضه، من سوء العاقبة، عاقبة ترك الأمور دون استفهامات جدية حول ما يمكن أن يصلح التعاقد بين الناس في هذا البلد.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)