FA: نظام الشرق الأوسط القديم الجديد.. لماذا تخطئ أمريكا؟

profile
  • clock 29 يوليو 2022, 11:52:10 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تناولت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، في مقال لها، العلاقات الأمريكية العربية، عقب زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الرياض الأيام الماضية.
وتطرقت المجلة إلى ملفات عدة، جعلت منطقة الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر حراكا سياسيا مع وجود الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والصراع الإيراني السعودي على تزعم المنطقة.

انتهت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، ليس بدوي وإنما بأنين، حيث ثبت أن ما تمخض عنه لقاؤه الأول بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، شيء هزيل للغاية، إذ لم تتعهد المملكة العربية السعودية بزيادة إنتاج النفط، ولم يتم الإفراج عن أي من المعارضين. 
ولم يثر نقاش حول قضية حقوق الإنسان، إلا عندما اعترض محمد بن سلمان على الانتقادات المتعلقة بجريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي، ولتي نفذت بأوامر منه شخصيا، وذلك من خلال الإشارة إلى الصمت الأمريكي إزاء ما جرى للصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة، التي قتلت في شهر أيار/ مايو في الضفة الغربية على يد الجيش الإسرائيلي.
ولم تعلن المملكة العربية السعودية عن تحركات كبيرة باتجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولم يبرز إلى الوجود تحالف أمني جديد. 
إلا أن إدارة بايدن، كان لديها طموحات أوسع من الرحلة، لم ترد في قائمة ما يمكن أن يعتبر إنجازات قصيرة المدى. 
وتشكلت لدى الإدارة قناعة بأنها بحاجة إلى إعادة ضبط العلاقات مع المملكة العربية السعودية ومع غيرها من الحلفاء في الإقليم، وذلك يتطلب العمل على العلاقات بحد ذاتها ولذاتها من أجل تعامل أفضل مع مجموعة من القضايا. 
وزاد من أهمية ذلك، احتضار المفاوضات التي تستهدف إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وكذلك تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا. بالرغم من أن الشائعات التي انتشرت في وسائل الإعلام قبيل الزيارة حول إقامة تحالف عسكري رسمي مع الدول العربية وإسرائيل ثبت أنها مجرد شائعات، وأن الأمر سابق لأوانه، فقد كانت الغاية من الرحلة، دفع المنطقة نحو نظام إقليمي جديد، يقوم على التعاون العربي الإسرائيلي ضد إيران، تحت إرشاد الولايات المتحدة. 
وأنجزت الرحلة بعض الخطوات الصغيرة في ذلك الاتجاه، ولكن ليس بالطرق التي من المحتمل أن تؤدي إلى زيادة الاستقرار في المنطقة، فالكيان الأمني الذي تتصوره الإدارة لن يكون جديدا من نوعه، حيث أن انحياز إسرائيل إلى جانب الدول العربية في مواجهة إيران موجود ويتنامى منذ عقود. 
وجاءت اتفاقيات أبراهام في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، لتجعل التعاون في هذا المجال رسميا وعلنيا، وتسقط صراحة المسائل المتعلقة بفلسطين وحقوق الإنسان من المعادلة. 
وتراهن الولايات المتحدة على قدرة الدول العربية المستبدة على احتضان نظام إقليمي يشتمل على إسرائيل، دون أن تقلق إزاء الانطباع الذي قد يتشكل حول هذه السياسات في بلدانها، إلا أن المجازفة بهذا الرهان في وقت تتصاعد فيه الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في معظم أرجاء المنطقة، من شأنه أن يرتد عكسيا، ما حصل في الماضي. 
لم يزل تشكيل نظام إقليمي شرقي أوسطي تقوده الولايات المتحدة، هو اللعبة التي تتسلى بها الولايات المتحدة على الأقل منذ عام 1991، حينما قادت الولايات المتحدة بنجاح عملية عسكرية لإخراج صدام حسين من الكويت.
 ولكن، لم يعد الشرق الأوسط اليوم في حالة تسمح لواشنطن بإملاء الأوامر عليه، إذ يفضل زعماء الشرق الأوسط تسييج رهاناتهم ضمن ما يرون أنه عالم متعدد الأقطاب، كما يمكن رؤيته بوضوح من رفضهم الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا ضد روسيا.
وفيما لو نجح بايدن بشروطه في حمل إسرائيل والأنظمة العربية المستبدة على إبرام تحالف إقليمي ضد إيران، فإن ذلك سيكون تكرارا لأخطاء الماضي. 
ومن شأن ذلك أن يعجل بالانهيار القادم للنظام الإقليمي، بسبب التراجع عما تم إحرازه من تقدم في مجال تخفيف التصعيد، ولسوف يشجع ذلك الأنظمة على ممارسة المزيد من القمع محليا، ويمهد الطريق أمام الجولة القادمة من الانتفاضات الشعبية. 
أساليب 1991
تكاد الرغبة الجامحة لإقامة نظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة تكون راسخة في المكون الوراثي لواشنطن. 
وهناك بشكل خاص جيل من أفراد مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية ممن يرون أن عام 1991 والنظام الإقليمي الذي أنشئ في ذلك الوقت في الشرق الأوسط، يمثلان النموذج الأمثل الذي ينبغي محاكاته. من السهل معرفة لماذا يرون ذلك.
وكانت الحقبة التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي ذروة سنام التفوق العالمي للولايات المتحدة.
وبعد الغزو الأمريكي الذي تم في 1990 – 1991 لإنهاء الاحتلال العراقي للكويت، أطلقت إدارتا جورج إتش دبليو بوش وبيل كلينتون جهودا طموحة لإعادة شبك المنطقة بالأحادية القطبية التي تقف على رأسها الولايات المتحدة، ومن ثم إحكام نظام إقليمي يخدم المصالح الأمريكية. 
ولبرهة قصيرة كانت جميع الطرق تؤدي إلى واشنطن، حيث دشنت الولايات المتحدة عملية مدريد للسلام لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وكذلك لإقامة نظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة ويشمل إسرائيل والدول العربية. 
وحتى حلفاء الاتحاد السوفياتي السابقون، مثل سوريا، راحوا يبحثون عن سبل للانضمام إلى هذا النظام، من خلال إجراء مفاوضات سلام مع إسرائيل. 
وحتى إيران، التي أنهكها عقد من الحرب مع العراق، كانت تبحث عن إعادة بناء علاقاتها مع أوروبا ومع دول الخليج، فأطلقت ما سمي "الحوار بين الحضارات" في الأمم المتحدة، متخذة خطوات صغيرة باتجاه التواصل مع واشنطن وتقليص تدخلاتها الإقليمية. 
ولاحت في الأفق للحظة بوادر غاية معيارية إيجابية، وكذلك أساس عسكري، لنظام إقليمي بقيادة الولايات المتحدة، فقد كانت العملية العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة لاستعادة الكويت بحق، شأنا متعدد الأطراف، بتخويل من مجلس الأمن الدولي ومن قمة عربية. 
ومنح استثمار الولايات المتحدة الكثيف في عملية السلام العربية الإسرائيلية ما بعد 1991، ورعايتها لعلمية أوسلو للسلام رؤية إيجابية محتملة لمستقبل الشرق الأوسط. 
ولكن هذه الأسس المعيارية لم تترسخ أو تتجذر، وثبت أن من الصعوبة بمكان إدارة نظام إقليمي. 
وتحن واشنطن بشدة للشرق الأوسط الذي كان قائما في تسعينيات القرن الماضي، ولكن تلك الفترة لم تكن مرتبة بشكل جيد كما تصور الأسطورة.
وثمة دروس مهمة يمكن الاستفادة منها اليوم في تلمس الإجابة على سؤال: لماذا فشلت المقاربة التي تبنتها الولايات المتحدة، حتى في أوج قوتها العالمية، في عام 1991 لإنتاج نظام إقليمي مستقر وشرعي تقوده الولايات المتحدة. 
لا يوجد ما يستحق العرض
لم يتمكن النظام الإقليمي لما بعد 1991 من إدارة ذاته. تطلب ما سمي بالاحتواء المزدوج لكل من إيران والعراق إقامة قواعد عسكرية أمريكية شبه دائمة في مختلف أنحاء المنطقة، وخاصة في الخليج الفارسي.
وكان في ذلك انتقال هائل عما ساد في العقود السابقة من حفظ للتوازن عن بعد، حينما كانت الولايات المتحدة تراقب وتحرس المنطقة عبر حلفائها المحليين، وكانت تتجنب إقامة قواعد عسكرية كبيرة ودائمة. 
كما تطلب ذلك أيضا تكريس قدر غير متكافئ من الجهد الدبلوماسي لمشاكل المنطقة، حتى بدت حينها كل أزمة كما لو كانت تتطلب رعاية أمريكية أكبر.
وكان يعني التعامل مع هذه الأزمات التي لا تنتهي تجاهل أو حتى دعم الأنظمة الاستبدادية، التي ستفضي في نهاية المطاف إلى تقويض النظام. 
كان احتواء العراق جزءا أساسيا من إدارة الولايات المتحدة لدقائق الأمور في المنطقة، وهذا الاحتواء يتطلب الحفاظ على نظام عقوبات صارم وغير مسبوق تاريخيا.
وتسبب منع العراق من الاستيراد والتصدير في وفاة ما لا يحصى عدده من الناس، وفي كم كبير من المآسي الإنسانية، مما قوض في عيون العرب مصداقية المزاعم الأخلاقية الأمريكية.
وأفضى الصدام حول التفتيش على الأسلحة إلى عمليات عسكرية متكررة، مثل عملية ثعلب الصحراء، التي كانت عبارة عن حملة قصف لأهداف عراقية استمرت لأربعة أيام، ونفذتها الولايات المتحدة وبريطانيا في كانون الأول/ديسمبر من عام 1998. 
ولكن، في نهاية المطاف، لم تفلح هذه المساعي، بل استغل صدام حسين برنامج الأمم المتحدة للنفط مقابل الغذاء في تأمين نظامه وتعزيزه، كما نجم عن ذلك تداعي الالتزام الإقليمي بمنظومة العقوبات الدولية. 
كما فشلت الولايات المتحدة، رغم الجهود الدبلوماسية المكثفة التي بذلتها في إنجاز وعدها بتحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. 
ومن المؤكد أن إدارة كلينتون بذلت جهودا جمة في المفاوضات، ولكنها لم تتمكن من التغلب على تداعيات اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في عام 1995، ولا على الموجات المتعاقبة من إرهاب حماس، ولا على توسع إسرائيل بلا هوادة في الاستيطان داخل الضفة الغربية. كما فشلت واشنطن بالشكل نفسه في تحقيق السلام بين إسرائيل وسوريا. 
كما شهدت تسعينيات القرن الماضي التقليل من أهمية الديمقراطية؛ خشية تحقيق الإسلاميين انتصارات عبر صناديق الاقتراع. 

وادعت واشنطن، بدلا من ذلك، أنها تعتقد بأن المستبدين العرب سوف يرعون المجتمعات المدنية ويعدون السكان ليكونوا ذات يوم على أهبة الاستعداد لديمقراطية حقيقية. 
وذلك، بطبيعة الحال، هو نفسه ما تتحجج به معظم الأنظمة العربية المستبدة اليوم، وهي حجة لم يبد فريق بايدن اهتماما بدحضها.
ونتج عن مقايضة الديمقراطية بالاستقرار تكريس الاستبداد العربي بكل أمراضه، فلم يكن من المصادفة أن تشهد حقبة التسعينيات فورات إسلامية في كل من مصر والجزائر، بل كانت تلك فترة حضانة للقاعدة. 
وفي نهاية المطاف، كانت أمجاد النظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أدنى مما بدت عليه، فقد فشل مشروع احتواء العراق، وفشلت مساعي الولايات المتحدة لضمان تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل.
كما لم تثمر خيرا فكرة توفير الظروف الملائمة للديمقراطية من خلال العمل مع المستبدين العرب. وكان الدور الأمريكي البارز في هذه الإخفاقات، كما يُزعم، هو الذي جعلها هدفا للقاعدة حينما انتقلت من "العدو القريب" إلى "العدو البعيد" يوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). 

تكرار الأخطاء
سعت كل واحدة من الإدارات الرئاسية التي أعقبت إدارة كلينتون، إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط على طريقتها الخاصة. 
وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، انتهجت إدارة جورج دبليو بوش استراتيجية التفوق الأمريكي، وقررت أن حجر الزاوية في هذا النظام الإقليمي الجديد سيكون "الحرب العالمية ضد الإرهاب"، التي كانت تعني في الشرق الأوسط تعاونا أمريكيا أوثق مع أجهزة الأمن في دول الإقليم، وتوسعا ضخما ومندسا في الوجود الأمريكي في المنطقة. 
وأثبت غزو العراق بهدف الإطاحة بصدام حسين أنه كان كارثيا تماما، حيث أحدث فراغا خلخل الاستقرار في القلب من الشرق الأوسط، فقد أطلق الاحتلال الأمريكي للعراق العنان لطائفية متوحشة، الأمر الذي مكن على قدم المساواة كلا من إيران والحركات الجهادية السنية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية الناشئ (الذي بات يعرف باسم داعش)، وولد طوفانا من ملايين اللاجئين.
وأنهكت الحرب العراقية استعداد وقدرة الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات عسكرية في الشرق الأوسط، وأفضى ذلك إلى انتصار إيران في تنصيب حلفائها في المواقع الرئيسية داخل الدولة العراقية. 
ولكن، لا مفر من إيجاد نظام ضمن هذه الفوضى، إنه "الشرق الأوسط الجديد"، ذلك المصطلح الذي أطلقته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في أوج الحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 2006. 
كان ذلك نظاما عنيفا وشديد التنافسية، ولكنه كان بنيويا وشبيها إلى حد كبير بما عليه الحال اليوم. 
وفي أحد الجانبين، كان يوجد ما أطلق عليه المسؤولون الأمريكيون "محور الاعتدال"، الذي ضم إسرائيل ومعظم الدول العربية التي تربض تحت المظلة الأمنية الأمريكية، بينما يوجد في الجانب الآخر "محور المقاومة"، وكان يشمل إيران وسوريا وعناصر فاعلة خارج إطار الدولة مثل حماس وحزب الله. 
كثيرا ما ينسى الناس أن وسائل الإعلام المملوكة سعوديا أيدت في البداية الهجوم الإسرائيلي عام 2006 على حزب الله بسبب الكراهية السعودية للحركة الشيعية المدعومة إيرانيا، ولكن ما لبث الإعلام السعودي أن غير من خطه التحريري بعد تعرضه لرد فعل عاصف من قبل الجمهور.

وبسبب انعدام التأييد الشعبي للجهود الأمريكية، مثل الحروب في العراق وأفغانستان، فقد أتيحت الفرصة أمام كل من تركيا وقطر لتحقيق مكاسب عظيمة في ذلك الوقت، من خلال التصرف كدول متأرجحة تتخذ من المواقف ما يبدو أكثر انسجاما مع الرأي العام العربي الذي كان يتجلى بوضوح.
عرض الرئيس باراك أوباما رؤية مختلفة بحق لنظام إقليمي يقوم على إيجاد توازن للقوة، يكون عمليا ومستقرا بين إيران وجيرانها، من خلال الدبلوماسية النووية وخفض الوجود العسكري الأمريكي.
ولعله كان معبرا أن تعارض إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة كل ما حاولت إدارة أوباما إنجازه تقريبا، بما في ذلك صفقة النووي مع إيران؛ لأن زعماء تلك الدول كانوا ينتعشون في ظل النظام الإقليمي الذي كان أوباما يسعى لتغييره.
ولم ترغب دول الخليج في أن يكون لها علاقة بأفكار أوباما حول الاشتراك في المنطقة مع إيران ولا أدنى صلة بأفكاره، التي اعتبروها نوعا من الهرطقة، حول دعم الديمقراطية واحتضان انتفاضات الربيع العربي.
وفي الوقت نفسه وقف زعماء إسرائيل ضد أفكار أوباما حول مفاوضات السلام، التي تهدف إلى التوصل إلى إقامة دولة فلسطينية، بل وكانوا أكثر معارضة لفكرة أن حل الدولتين ضروري من أجل إقامة علاقات مع الدول العربية.
كما أثبتت إيران أيضا عدم استعدادها لإحداِث تعديل ذي معنى في نهجها استخدام الوكلاء للقتال في أماكن مثل العراق وسوريا واليمن بعد التوقيع على صفقة النووي. زاد هذا الموقف من تقويض مساعي أوباما لصياغة نظام إقليمي جديد.  
ولذلك، رحبت إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – مثل كثير من الزعماء العرب الآخرين – بعودة إدارة ترامب إلى حقبة جورج دبليو بوش وما ساد في عهده من نموذج "الشرق الأوسط الجديد". 
وتبنى ترامب وجهات نظرهم كما لو كانت من بنات أفكاره، وتوقف عن الضغط على الدول العربية حول سجلاتهم في ميدان حقوق الإنسان، كما توقف عن الضغط عليهم لحل القضية الفلسطينية.

وتخلت إدارته عن صفقة النووي مع إيران، وبدلا من ذلك، انتهجت ما أطلقت عليه حملة "الضغط الأقصى" ضد إيران.
ولكن، تارة أخرى، ارتدت عكسيا الجهود المبذولة لفرض نظام على الإقليم. واحتضانه الشديد لتلك الدول العربية وإسرائيل، شجع تلك الحكومات على المضي قدما في أسوأ نزواتها، بما في ذلك الرغبة في التدخل بقوة في شؤون الآخرين، مما سعر نيران الحروب الأهلية وسرع في فشل الدول في أرجاء المنطقة من اليمن إلى ليبيا وإلى سوريا. 
ولم يكن ثمة مفر من أن يؤدي تزايد القمع في الداخل إلى خلخلة الاستقرار المحلي والمخاطرة بتفجّر انتفاضات جديدة. 
وفي الوقت نفسه، نجم عن مضي إسرائيل بشكل متسارع في مصادرة الأراضي الفلسطينية تفجر أزمات متكررة. 
مما سبب استياء هؤلاء الحلفاء الإقليميين، أن احتضان ترامب الشديد لهم أثبت محدوديته، ولا أدل على ذلك من رفضه الانتقام من إيران بعد شنها هجوما غير مسبوق على مرافق نفطية بالغة الأهمية داخل المملكة العربية السعودية في عام 2019.
وكان لذلك وقعه المنبه على زعماء المنطقة، فإذا كانت الإدارة الأمريكية الأكثر حفاوة بهم والأشد صداقة لهم في التاريخ، لا يمكن الاعتماد عليها لصد مثل ذلك العدوان العسكري عنهم، فهل يمكن الوثوق بأي ضمانة أمنية أمريكية؟
يظهر مما يحمله بايدن من تصور للمنطقة، أن هذه الرؤية للنظام الإقليمي مازالت سائدة لدى زعماء المنطقة وداخل دوائر صناعة السياسة في واشنطن، وذلك على الرغم ن كل الصراعات والمآسي الإنسانية التي ولدتها.
لقد تكيفت الأنظمة العربية بشكل فعال مع مطالب واشنطن، وأثبتت فعالية في مقاومة أي مساع أمريكية لتغيير السياسات.
وفي المجمل، يعتبر أعضاء فريق بايدن من ثمار إدارة كلينتون، كما أنهم يعتقدون بأنهم استلهموا الدروس الصحيحة من حقبتي أوباما وترامب. ولكن المفارقة هي أن الشرق الأوسط الذي يأملون في تصميمه، أكثر ما يشبه ذلك النظام الإقليمي الذي سعى إلى إيجاده الرئيس جورج دبليو بوش. 
وأهم ما يميز احتضان فريق بايدن لنموذج النظام الإقليمي في حقبة بوش، هو ما يغفله ذلك الاحتضان، ألا وهو "أجندة الحرية". 
ولئن كان بوش قد تخلى عن فكرة الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط بمجرد أن فازت حماس في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، إلا أن اللغة التي استمرت الإدارة في استخدامها حول التغيير الديمقراطي منحت على الأقل بعضا من الرؤية الإيجابية حول النظام الإقليمي. 
ولقد تخلى بايدن عن ذلك تماما في أثناء زيارته الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية، وهذا مفهوم بالنسبة لإدارة تريد إصلاح العلاقات مع الزعماء العرب، وتجنب كل ما من شأنه أن يسخطهم. ولكن لذلك تكاليفه الباهظة. 
كان الاستبداد العربي، هو الصمغ الذي يبقي في حالة من التماسك ذلك النظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة في حقبة التسعينيات وخلال العقد الأول من هذا القرن. إلا أن الانتفاضات العربية التي تفجرت في 2011 نقضت ذلك بطرق مازالت غير مقدرة بشكل كامل. 
ولم تنتج تلك الانتفاضات تحولا ديمقراطيا مستداما في أي مكان، وجاء الانقلاب الرئاسي في تونس في تموز/يوليو  2021 ليقضي على واحدة من الديمقراطيات القليلة التي برزت.
واليوم، يرغب المستبدون العرب في أن تقتنع واشنطن بأنه تمت استعادة النظام القديم بشكل كامل، وأن الديمقراطية لم تعد مطروحة على الطاولة، وأنهم عادوا ليمسكوا بقوة بزمام الأمور.
إلا أن المؤشرات الاقتصادية الكئيبة في معظم دول المنطقة، التي فاقم من قتامتها جائحة كورونا، والحرب الروسية على أوكرانيا، ثم الانفجارات المتكررة للحراك الشعبي في أماكن غير متوقعة مثل الجزائر والعراق ولبنان والسودان، تثبت أن مثل هذا الاعتقاد خاطئ.
حتى لو نحينا جانبا احتمال تفجر انتفاضات شعبية جديدة، فإن المنطقة تبدو اليوم مختلفة تماما عما كانت عليه في العهود السابقة للنظام الإقليمي بزعامة الولايات المتحدة. 
فالشرق الأوسط اليوم متعدد القطبية داخليا، أضف إلى ذلك أن مركز القوة العربية انتقل من القلب التقليدي المتمثل بالشام ومصر إلى الخليج، وباتت دول غير عربية، مثل تركيا وإسرائيل وإيران، تشارك بشكل متزايد في صناعة الأحداث في المنطقة. 
ثم ما لبث شعور الأنظمة بانعدام الأمن والخطر المحدق بوجودها بعد صدمة عام 2011، وما يضاف إلى ذلك من تفشي الدول الفاشلة والحروب الأهلية، أن بدل منطق التدخل وغير ميزان القوة. لقد تغيرت نظرة الزعماء العرب إلى الولايات المتحدة كقوة ضامنة للأمن بعد رفض أوباما التدخل في سوريا، ورفض ترامب الرد على الهجمات التي تعرضت لها مرافق النفط السعودية، وانسحاب بايدن من أفغانستان.
في الوقت نفسه، هذه ليست فترة هيمنة أمريكية. ولكن هذا لا يعني وجود ما يمكن أن يوصف بالثنائية القطبية أو التعددية القطبية في العالم. لطالما مارست روسيا دور المخرب أكثر من دور القطب المنافس للقوة الأمريكية، وهي الآن غارقة في الحرب في أوكرانيا.
 أما الصين، فلم تسع بعد لترجمة وجودها الاقتصادي المتنامي بسرعة إلى نفوذ سياسي أو عسكري، وفي الأغلب تشترك مع الولايات المتحدة في مصالحها الأساسية، مثل ضمان تدفق النفط من الخليج.
ولكن حتى بدون صنو منافس، لا توجد لدى الولايات المتحدة الموارد ولا القدرات السياسية التي تمكنها من أداء دور المهيمن في منطقة الشرق الأوسط.
 ولم تعد القوى الإقليمية تعتقد بأن الولايات المتحدة تستطيع أو ترغب في التدخل عسكريا لحمايتها. لقد لقنت الانتفاضات العربية هؤلاء الزعماء المستبدين درسا، مفاده أن واشنطن لا يمكنها ضمان بقاء الأنظمة التي تخدم المصالح الأمريكية.
إن المواقف القومية لهذه الأنظمة، وشكاويها المستمرة من أن واشنطن تتخلى عنها، ليست مجرد موقف للمساومة بهدف ضمان الحصول على المزيد من الأسلحة والدعم من الولايات المتحدة (وإن كانت كذلك). بل تعكس أيضا تزايد القدرات لدى الدول العربية وشعورها العميق بانعدام الأمن.
ولذلك، لن يجدي الاستمرار في محاولة طمأنة هذه الدول، فقد باتت شكوكها عميقة جدا، وفي الوقت نفسه غدت القدرات والإرادة السياسية الأمريكية غير كافية. 
قد يوحي ذلك بأن الوضع سيئ، ولكن ليس بالضرورة، فبدلا من السعي لإعادة بناء نظام تآكلت قواعده ولم يعد من الممكن إصلاحها، ثمة مقاربة أفضل، ألا وهي تشجيع الخطوات التي اتخذتها البلدان بنفسها لتخفيف التصعيد في التوترات الإقليمية في غياب الزعامة الأمريكية. 
وعلى مدى العام المنصرم، أعادت الإمارات العربية المتحدة بناء علاقاتها مع قطر وتركيا، وتم تثبيت وقف إطلاق النار في كل من اليمن وليبيا، بل وأجرت المملكة العربية السعودية محادثات مع إيران. 
وتثبت تحركات الولايات المتحدة نحو بناء جبهة موحدة ضد إيران – بما في ذلك من زيادة في مبيعات السلاح وإعادة تأكيد الضمانات الأمنية – أنها ضارة بتلك الجهود. 
وكلما تحركت واشنطن باتجاه توسيع التزاماتها العسكرية والسياسية لتتزعم نظاما إقليميا جديدا، تراجعت فرص الاستقرار في المنطقة. 
تعرضت المنطقة لفوضى عارمة منذ عام 2011، ولديها من المشاكل ما يثقل الكاهل.
 ولكن الطريقة التي يتم عبرها إقامة النظام ستكون لها عواقب جسيمة، وسيزيد من احتمالات الإخفاق الركون إلى صيغ تنظيمية عفا عليها الزمن. 
غدا الخليج اليوم منطقة أكثر استقلالا، ولدى الدول العربية الرغبة بل والقدرة على التصرف، دونما اعتبار لرعاية أو انتظار حماية من قوة عظمى.
ولكن خارج منطقة الخليج الثرية، يعاني الإقليم من حالة من التشرذم والاحتراب، ويجد الحكام المستبدون، الذين يزدادون قمعا وبطشا، صعوبة جمة في الثبات في وجه المشاكل الاقتصادية المتراكمة.
وعلى الرغم من الهدنات الأخيرة، مازالت الصراعات في ليبيا وسوريا متأججة وقد تشتعل من جديد في أي وقت. يحاول المستبدون والملوك في أرجاء المنطقة إعطاء الانطباع بالاستقرار والإيحاء بأن الأمور طبيعية، ولكن في واقع الأمر، باتت الأوضاع الاقتصادية والسياسية اليوم أسوأ بكثير مما كانت عليه عشية تفجر الانتفاضات في 2011. 
وفي غياب أي أمل بتحقق حل الدولتين أو وضع أي ضوابط دولية جادة تلجم الاحتلال، فإن توسع إسرائيل بلا هوادة داخل الضفة الغربية وحصارها المستمر لقطاع غزة، يمكن أن يفجر أزمة أخرى في أي لحظة. 
في الوقت نفسه، تعاني الولايات المتحدة نفسها من حالة من الفوضى، ولقد انهمكت في الاستقطاب وفي الصراعات السياسية الداخلية. 
وتخلت واشنطن إلى حد كبير حتى عن التظاهر بأنها تناصر الديمقراطية أو تدافع عن حقوق الإنسان، حيث يقول المدافعون عن اتفاقيات أبراهام في إسرائيل وفي الخليج؛ إنها توفر رؤية لمنطقة يمكن إقامة نظام إقليمي حولها، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن أغلبية الجماهير العربية ترفض فكرة التطبيع مع إسرائيل بدون حل القضية الفلسطينية.
إن النظام الذي يعتمد على الأنظمة الاستبدادية التي تقهر الرأي العام بدلا من بناء نظام يعتمد على الشرعية المتجاوزة للقصور، لن يكون مستقرا ولا دائما. 
ومن المفارقة بالفعل، أن ينتهي هذا النظام كما انتهى نظام كلينتون الإقليمي في تسعينيات القرن الماضي إلى حرب غير ضرورية، بل وكارثية.
لقد قوض انسحاب ترامب أحاديا من صفقة النووي مع إيران في عام 2018 جهود أوباما لبناء نظام إقليمي بديل، بينما لم يتمكن بايدن من التغلب على الآثار السمية لذلك.
وبوفاة صفقة النووي مع إيران، فإنه سيصبح من اليسير تصور حدوث انزلاق تدريجي نحو دعم أمريكي لحرب هدفها تغيير النظام في إيران.
لا شك في أن بايدن تجنب مناقشة استخدام القوة ضد إيران، وانسحابه من أفغانستان أضفى بعض المصداقية على عزمه تجنب خوض حرب أخرى واسعة النطاق.
ولكن، سوف يتنامى الضغط عليه لكي يتخذ قرارا حاسما، بينما تنحصر الخيارات بين أن يقبل بوجود إيران نووية، أو أن يتصرف عسكريا للحيلولة دون تحولها إلى قوة نووية.إن الطريق الذي ينتهجه بايدن لإعادة بناء النظام الإقليمي يجعل تلك النتيجة الكارثية أكثر احتمالا. 

التعليقات (0)