- ℃ 11 تركيا
- 23 أبريل 2024
السفير معصوم يكتب : يونيـــو شهر الأحزان المعتقة !!
السفير معصوم يكتب : يونيـــو شهر الأحزان المعتقة !!
- 4 يونيو 2021, 11:27:56 م
- 1611
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أبداً لن أنسي ذلك الشهر الحزين من صيف العام 1967 .. أبداً لن أغفر لمن مزقوا أحلام شبابي الوردية ، وفتحوا الجرح الذي لن يندمل .. أبداً سيبقي هذا التاريخ الحزين في أقبية الذاكرة المظلمة الباردة ألماً طازجاً يتجدد كلما أستدعته الحوادث ومجريات الأيام ...
كنا جيلاً من الأبرياء الأتقياء ، أطفالاً كنا في بدايات البدايات ، نعبث في رمال أيامنا كي نبني قصوراً ملونة ، مواكباً نمشي كي نهتف بإسم القومية ، بإسم العامل والفلاح ، بالفن الخالد ، بجمال .. عقولنا البكر تلتقط وبخصوبة أفكار الحرية ، ترسم صورة حب دولي شامل ، تحمل نصراً للبشرية علي الطغيان وفلول قطعان الإستعمار ، كنا مملوئين بيقين نبوي بأن الغد غدنا ، ونري مصر عروساً تزف إلي التقدم والرخاء ...
كانت طفلة من نفس عمري ، إلا أنها تسير إلي جواري ، كتف بكتف ، تهتف مثلي ، وتشارك معنا في إجتماعات منظمة الشباب ، ذكية لماحة مؤمنة بسطور الوطن كما نقرأها حتي النخاع ، وانفلت فيما بيننا شعاع ، شيئ لا ندرك كنهه ، لكنه يتسلل في مشاعرنا وينمو ويقارب بيننا ، لم ننطقه حروفاً ، كان سلوكاً ملائكياً ينسجم مع عصر البراءة ...
وفي شهر مايو من العام 1967 ، وكنا منهمكين في دروس نهاية العام ، أغلق عبد الناصر خليج العقبة ، قابلتها مصادفة في الشارع ، كانت تحمل كتباً وكراريساً ، وقد مضت أسابيع علي آخر لقاء جمعنا ، فرحة اللقاء لم تكن وحدها سر بريق عينيها العسليتين البديعتين ، وإنما شئ آخر ، قالت لي بحماس حاولت أن تسيطر عليه : " خلاص .. جه وقت تحرير فلسطين !! " ، ورغم حماسي الذي لا يقل عن حماسها ، شعرت بما يشبه الزلزال ، فقد كانت حروف كلماتها تحمل يقيناً لا يقبل الشك أو التفاوض ، يقين خام وكأنه انتزع من هذه الأرض التي صنعت للمجد أسمه ..
في تلك اللحظة وما تلاها من لحظات وأيام وسنين ، شعرت بأنني أحمل مسئولية هذا اليقين ، وبحتمية حماية بريق عينيها وأحلامها ... لم أذكر شيئاً آخر قلناه في هذا اللقاء الخاطف ، فقد انصرفت ، وانصرفت أنا إلي تدريبات الدفاع المدني التي التحقت بها ...
صباح يوم 5 يونيو 1967 كنت ورفاقي نصطف في ملعب كرة القدم الملحق بالمدرسة الثانوية ، نرتدي زي الفتوة العسكري ، وأمامنا أحد ضباط القوات المسلحة واسمه الرائد يحيي ، الذي كان يلقي علينا الأوامر الصباحية حين فوجئنا بصراخ وهتاف يأتينا من المنازل المجاورة للمدرسة ، بينما يقفز رجل في أحد النوافذ وهو يجلجل بصوته : " أسقطنا مائة طائرة للعدو " .
في يوم 9 يونيو 1967 ... كنت مع عائلتي ننتظر الخطاب الذي أعلن أن الرئيس جمال عبد الناصر سوف يلقيه .. ومنذ اللمحة الأولي التي ظهر فيها وجه عبد الناصر علي شاشة التليفزيون ، أدركت أننا في محنة ، وخاصة عندما نظرت في عينيه ، خبي البريق فيهما ، بريق الحماس والثقة التي كنت قد شاهدته في عيني حبيبة القلب قبل أيام ... ولا أدري كيف تابعت الخطاب حتي نهايته ، ولكنني أتذكر بشدة لحظة النهاية ، فقد أفقت علي صوت صراخ وعويل ، ووجدت نفسي أتجه صامتاً إلي حجرتي حيث انتزعت صورة كبيرة للزعيم كنت أعلقها علي الجدار ، وحملتها نازلاً إلي الشارع حيث وجدت الملايين قد سبقتني إليه وهي تهتف بصوت واحد ، شعار واحد لم يؤلفه أحد ، ولم يلقنه أحد ، مجرد كلمة واحدة : " ها نحارب " ، تتكرر في هدير طاغ ، وكأنها تريد بوعي أو بغير وعي أن تعلو فوق أصوات إنفجارات قذائف المدافع المضادة للطائرات التي توالت في نفس الوقت ، كأنها رسالة مختصرة من شعب مصر إلي كل من يهمه الأمر ، مفادها أن هذا الشعب لن ينهزم ...
منذ ذلك التاريخ البعيد ، مرت تحت الجسور مياه كثيرة ، إلا أن أوراقي كانت تحمل دائماً وقفة للتذكر والتدبر كلما حل شهر " يونيو " ، ولعل ذلك كان خلف إصراري في قراءة ملايين السطور والتفتيش عبر وثائق كثيرة أتيحت لي كي أفهم ، فربما وجدت للجرح القديم رتقاً ، ولعل ذلك أيضاً كان خلف سلسلة المقالات التي نشرتها متتالية في مجلة الدبلوماسي تحت عنوان : " وثائق أمريكية سرية عن النكسة " ، ورغم أنه كان لي شرف المشاركة ضمن قوات الصاعقة المصرية في نصر أكتوبر المجيد ، ورغم وسام الشجاعة من الطبقة الأولي الذي يزين صدري ، فلا زلت حتي اليوم أحرص علي زيارة هذا القبو المظلم ، أحاول بمصباحي الخافت أن أضيئ بعض جوانبه الغامضة ، وربما هو نوع من الإدمان لهذا الحزن المعتق ، ولكنه بالتأكيد أيضاً جهد واعي يهدف إلي نقل صورة حية لمشاهد فترة من فترات الإنكسار ، حتي لا تسقط من ذاكرة الأمة ، وتظل درساً ونبراساً ، درس لا تنقطع فائدته ، ونبراساً يؤكد مقدرة هذا الشعب العظيم علي تجاوز أقصي المحن والأحزان ، وأن إرادة الإنتصار تحقق المعجزات .
لقد أصبحت رفيقة الدرب القديمة جدة ، مشغولة بأحفادها وبعملها ، مات عنها زوجها منذ بضع سنوات ، تغيرت كثيراً ليس بفعل الزمن وحده ، وكانت السنوات قد باعدت بيننا ، حيث كان آخر إتصال حقيقي هو رسائلها التي كانت ترسلها لي في جبهة القتال ، كانت سطوراً ملتهبة مثلما كانت سطوري أيضاً في رسائلي إليها ، إلا أن تلك السطور لم تتطرق أبداً إلي ذلك الشعاع الخفي الذي انبعث فيما بيننا ، كانت لا تزال متمسكة بالحلم رغم اليأس المسيطر في سنوات الهزيمة ، وكنت واثقاً من النصر رغم كل الشواهد التي تشير إلي غير ذلك ، كانت تكتب لي عن القاهرة كما تراها وتعايشها ، وتعلق غاضبة علي مشاهد سلبية ، وكنت أكتب لها عن قناة السويس ، عن جيل كالرهبان ينعزل في ملاجئ الخط الأول للقتال ، شباب لم يعد لديهم سوي حلم واحد وهدف واحد وهو إزالة العدوان من فوق أراضينا الطاهرة ، بإيمان لا يتزعزع بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة .
في الجبهة كنا نتبادل قراءة الخطابات التي تجيئنا من الوطن ، وكنا نهتم بالطبع وبضرورة عاطفة الشباب ، كنا نهتم بتلك الخطابات الغرامية ، وأحياناً كنا نطلب ممن وصله خطاب بديع معطر أن يعيد قراءته لنا مرة ومرة ، وقد كان رفاقي يتعجبون من خطاباتها التي ترسلها ، حتي أنهم منحوها درجة " الباتشويش " ، فيسألوني ساخرين عما إذا كان قد وصلني خطاب من " الباتشويش " بما تحمله من جدية وتأمل في أحوال الوطن ، وكان رأيهم أننا في الخنادق الأولي ولا نحتاج إلي من يذكرنا بواجباتنا ، ولكنني كنت في كل خطاب لها أري من بين السطور بريق عينيها القديم ، يدفعني ، يحثني ، يبارك الغد القادم ببشارة الإنتصار ...
قابلتها مؤخراً في إحدي المناسبات الإجتماعية ، ولأول مرة منذ ذلك اللقاء الأخير في صيف 1967 ، لم أكد أتعرف عليها ، ولكنها عرفتني ، أصبحت سيدة عجوز ، أمتلأ وجهها بالتجاعيد ، وقد لفت شعرها بخمار أبيض ، لم يعد البريق في عينيها نفس البريق القديم ، تبادلنا أخبارنا ، عرفت منها قصة زواجها ، قالت في خفر وحياء أنها كانت تنتظر فارسها ، وعندما تأخر لم تمانع في قبول أول فارس دق باب أسرتها ، تحدثت بحب شديد عن ذكري زوجها الراحل ، عن أطفالها الذين كبروا وغادروها واحدا ً إثر الآخر إلي بيت الزوجية ، وتحدثت كثيراً عن أحفادها وخاصة أحدهم التي قالت أنه يشبهني ، وضحكت معلقة بشيئ من المرارة : " هذا الولد المجنون .. يريد أن يحرر فلسطين !! " ، وأغرقنا في الضحك حتي أدمعت عيوننا .. أنصرفنا في النهاية دون موعد لاحق ، بل نسينا تبادل أرقام الهواتف ...
وفي طريق عودتي بالسيارة ، وبين الظلام المحيط ، تعجبت من حقيقة أننا لم نتحدث عن أي شيئ يتعلق بالشأن العام ، كان الحديث عن الأولاد والأسعار وبعض فتات الذكريات ، قلت لنفسي لقد شاخت وشخت وشاخ كل شيئ ، ولكنني فجأة تذكرت حفيدها الذي قالت أنه يشبهني ، لقد وصفته بالجنون لأنه يريد أن يحرر فلسطين ، وتمنيت أن أراه ، كي أتأكد أن أوراق الشجرة الباسقة تتجدد ، وأن تلك التي ترميها رياح الخريف ، تخلي مكانها لعشرات الأوراق الطازجة ، وأن البريق لم يخفت ، وأن الطريق لم ينقطع ...
يونيو ... أيها الدن الذي يحمل أشد الخمور مرارة .. سيظل مذاقك في حلقي ، ولسوف أواظب زيارة قبوك المظلم الرطب العفن .. ليس حباً فيك ، أو رغبة في ملء كأس الأحزان .. وإنما لأنك كنت القاتل الذي اغتال سنوات عمري الذهبية ، وقد قررت مطاردتك إلي آخر العمر حتي لا أتيح لك مرة أخري أن تغتال البراءة فوق أرضنا الطاهرة ، وعلي أية حال فأن قليل من خمرك المعتق قد يصلح بعض العقول التائهة ...
أما أنت يا وردة الصبا الفائحة ، فلا زلت أري بريقك القديم ، ولن أعترف أبداً بتلك الصورة الشائخة التي صرت عليها ، فلا زالت سطورك الدافقة دافئة ، تحكي عن الوطن والأمل ويقين النصر وحلم الغد الطموح ، سوف يضع حفيدك الزهور علي ترابنا ، ولكنه سوف يمضي في الطريق ... الطريق الذي أختطف في صيف 1967 ... فسلامي له ، ولكل الرفاق الذين أحبوا هذا التراب المقدس إلي درجة التوحد فيه ...
كلمات دليلية
التعليقات (0)
إقرأ أيضا
أحدث الموضوعات
اثنين, 22 أبريل 2024
روسيا: نشر الأسلحة النووية في بولندا سيجعلها ضمن الأهداف المشروعة للتدمير اثنين, 22 أبريل 2024
الـ تايمز تفضح أكاذيب نتنياهو:لن تستطيعوا تدمير حماس وهي باقية الأكثر قراءة
جمعة, 08 أكتوبر 2021
مصادر: إبراهيم منير يتخذ قرار بإيقاف ٦ من الشورى العام سبت, 18 سبتمبر 2021
د. أيمن منصور ندا يكتب : عندما تلقيت اتصالاً من الرئيس السيسي خميس, 30 سبتمبر 2021
طارق مهني يكتب : بزنس المعارضة - سبوبة الزنازين اثنين, 01 نوفمبر 2021
تقرير : كيف ساهم " أبو دية " عبر أذرعه المالية في تدجين المعارضة المصرية بالخارج جمعة, 28 مايو 2021
تعرف على مدينة المقاومة تحت أرض غزة ودورها في معركة سيف القدس أخبار مصر
خميس, 18 أبريل 2024
مصر: "أمن الدولة" تحبس 5 أشخاص بتهمة إساءة استخدام مواقع التواصل أحد, 14 أبريل 2024
الاتحاد الأوروبي يقدم مليار يورو مساعدة إلى مصر اثنين, 08 أبريل 2024
بوادر أزمة في مصر.. الصيف يهدد باستنزاف الاحتياطي الأجنبي