علي محمد علي يكتب : امي سجنتني

profile
علي محمد علي شاعر وكاتب مصري
  • clock 9 أبريل 2021, 9:54:01 م
  • eye 905
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

" حكايات أوزعية ... من ذاكرة فولاذية  (2) "  

كنت بلا شك طفلًا شقيًا ، عنيدًا صعب الميراث ، لكني أيضًا كنت ذكيًا بشهادة من عرفني ، أفهم أشياء لا يستوعبها سني ، كنت أفهم وأدرك كل شيء حولي وكنت أسخر في سري من الذين يقولون : دا عيل صغير هو فاهم حاجة ، وتلك كانت أعظم ستارة تخفيت وراءها وأنا أراقب أفعال الكبار المشينة وأحيانًا كانت بزيئة ، لكن مالا كنت أفهمه ، هم بيعملوا في بعض ليه كده ، وطبعًا لما كبرت عملت في حياتي حاجات أفظع منهم  ، فرأيتهم بأم عيني وأنا صغير يكذبون ، ولما كبرت كذبت ،  سمعتهم بأم أذني يغتابون بعضهم ، وإغتبت ، رأيت خيانات وهمسات وغمزات وفهمتها وأنا صغير ، ولما كبرت للأسف - خنت - كل ما إستنكرته وبغضته وأنا صغير فعلته لما كبرت ، وهكذا فالإنسان حقًا إبن بيئته ... 


لكن ليس كل ماشهدت عليه ورأيته وسمعته كان سلبيًا ، أبدًا إطلاقًا فأنا محظوظ أني ولدت في تلك الفترة وهذا الزمان الذي كان الصغير يحترم فيه الكبير ، والكبير كان يحنو على الصغير ، وكان المعلم مقدر من الدولة ومن الأهالي ، كذلك الطبيب كذلك المهندس وكل من كان متعلمًا ، كان له حقوق وأخذها ، أو أعتقد ذلك . 

كما حضرت تقاليد التكافل الإجتماعي بين الناس .. فكانت أمي تطبخ طبخة ما وتعطيني منها أطباق أوزعها على الجيران وكان الجيران لا يرجعوا الطبق فارغًا ... أو في اليوم التالي يأتينا طبق مختلف بأكلة مختلفة ، وفي الأفراح بيتنا كان يتحول إلى " خان " أو مضيفة كبيرة رغم أن " بنت الجيران " هي من كانت تتزوج ، وفي الأحزان والمآتم يتحول بيتنا لصوان كبير .  

نرجع للست أمي إللي سجنتني ، في يوم من الأيام وأنا في التاسعة من عمري ، كان يومًا غريبًا فعلت فيه كل الموبيقات ، لعبت ووسخت هدومي ، ضربت إخواتي الصغيرين وإفتريت عليهم ، شتمت الجيران بألفاظ سوقية كما وكسرت القلة القديمة والتي كانت بارعة في تبريد المياه ، ألم أقل لكم كان يومًا كئيبًا ، مما جعل أمي غاضبة مني لدرجة الإنتقام ، وقد كان ... كان لأمي خال كبارة يعمل في الشرطة برتبة صول ، فأخذتني أمي من يدي وذهبت إلى نقطة شرطة بلدتنا ، ولم تجد خالها ، فقلت : الحمد لله مش هايضربني بإيده الثقيلة .

لكنها وجدت الصول عاطف صديق جدي ، وكنت أخاف من ملامحة الجامدة ، فقد كان عبدًا أسود اللون بشنبٍ يشبه المقشة القديمة ، ذهبت أمي وتركتني بعيدًا وتحدثت مع هذا الرجل المخيف ، ثم جاء تجاهي وكنت في تلك اللحظة كفأر يواجه قط عربيد لا أستطيع الجري أو حتى الحركة من مكاني ، ومسكني هذا العاطف من يدي وأدخلني غرفة ظلماء كسواد الليل القاطع وسمعت صوت جنزير حديدي يغلق به الباب كنت صامتًا حتى تلك اللحظة وفجأة صرخت " يامااااا  ياماااااه "  ماتسيبنيش ، فقال : أمك مشت يا حبيبي وأنت هاتبات الليلة في السجن لحد ماتتعلم الأدب ، هنا وجدتني أبكي وأنا خائف من هذا المكان المظلم ذو الرائحة الرطبة المقيتة ، وهنا إسترجعت شريط حياتي كلها ، لكنه كان فصير جدًا لايتعدى التسع سنوات فمر سريعًا وبقيت وحيدًا في محنتي ، وبعد وقت ثقيل ثقيل جدًا تم فتح الباب ووجدت أمي تحضنني وتقول لي " معلش " غصب عني مش هاعمل كده تاني سامحني ، فسامحت أمي ، لكني إلى الآن لم أسامح الشرطة ولا عمي عاطف لأني تيقنت منذ ذلك اليوم " أن ياما في السجن مظاليم " ربنا مايكتبها عليكم ... إلى اللقاء القريب في حكاية حقيقية من حكايات ذاكرتي التي لا تنتهي .

التعليقات (0)