احمد سالم يكتب: عصور مختلفة وسير متشابهة: تاريخ من حماقات الاستبداد

profile
  • clock 29 يوليو 2023, 5:59:58 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

قد يمر على كرسي الحكم مستبد ما، والاستبداد كما نعلم أنواع، لكن هل يتحول إلى حماقات يسجلها التاريخ، هو أمر بالتأكيد يدعو إلى النظر، خاصة إذا كان الأمر متعلقًا بإحدى مشاكل الاستبداد المزمنة؛ انتقال الحالة النفسية للحاكم لتصير من الشأن العام، كيف لا والسلطة في يده أمرًا ونهيًّا، والسيف كما نعلم أصدق أنباء من الكتب.. فتتجسد بذلك رغباته المريضة على أرض الواقع على شكل أوامر وفرمانات وقوانين ملزمة بل ودساتير تسير عليها شعوب وأجيال.
أما نزوات جنونه فتصبح أهدافًا ليس فقط للمؤسسات كافة، بل يخضع لها من ليس له في طور ولا طحين. ومع سيرة كسيرة الحاكم بأمر الله “الفاطمي” على سبيل المثال قد نتبين الكثير من هذا الأمر، وليس على الناس في النهاية إلا السمع والطاعة، لأن خرق العادات هنا سيتحول بقدرة السلطة إلى إلهام إلهي لا يستوعبه أحد من هؤلاء “الدهماء” الذين يطلق عليهم مجازًا في نظرهم مسمى “شعوب”.

تحريم الملوخية

يحدثنا التاريخ مرارًا عن غرابة أطوار الحاكم “الفاطمي” (حكم 996-1021م)، حتى أن تحريمه للملوخية قد ذاع صيته بين العامة وصار مضربًا للأمثال.. هذا بالطبع غير روايات أخرى عدها البعض من الطرائف، مثل منعه الأساكفة من عمل الأحذية للنساء لمنعهن من الخروج من المنازل، حتى يقال أنه لم تُر امرأة واحدة في الطرقات لسبع سنين..
أما عن وسائل القتل التي ابتكرها للتنكيل بضحاياه فحدث ولا حرج.. والملفت ليس فقط الأوامر العجيبة التي كان يتفنن في إصدارها كلما دعاه هواه، وإنما العجب كل العجب في أنه وجد من يطبقها على أرض الواقع بل ويبرر تطبيقها، ومن وراء هؤلاء أناس يمتثلون بشكل أثار دهشة الرواة من المؤرخين أنفسهم، حتى أن هذا الامتثال المبالغ فيه قد دفعه إلى الخروج على حماره بمفرده بين العامة دون أن يخشى شيئًا، يقول ستانلي لين بول: “فحين أثار بغض جميع الأطراف، وقتل عائلات بأكملها لمجرد الاشتباه، وأثار كل عاطفة انتقامية، استمر في الانطلاق بمفرده، ونادرًا ما صحبه أحد في الصحاري أو الشوارع المزدحمة في النهار أو الليل.. ولم تحدث ولو حتى محاولة واحدة للاعتداء عليه لربع قرن”.
ما جعله يتمادى في غيه، حتى أنه في إحدى ثورات انفعاله أرسل قواته السودانية لحرق الفسطاط، فنهبت وحرقت نصف المدينة وأخذت الكثير من نسائها سبايا، وهنا يعقب لين بول: “ومع ذلك ظل الناس على احتمالهم”.
وقد وصل به الأمر أن ادعى الألوهية بشكل علني، وحتى في هذا الأمر وجد دعمًا، ووجد من يبشر به حتى خاطب أحدهم القاضي بقوله “بسم الحاكم الرحمن الرحيم”.. ليعم الهرج والمرج وتسود الفوضى، وتتصاعد حدة الغضب، لكن لم يستطع أحد إنتقاده، إلى أن جاءته النهاية من حيث لا يحتسب، من أخته “ست الملُك” التي دبرت للتخلص منه.. وامتطى الحاكم حماره لآخر مرة في 13 شباط/ فبراير 1021م، ليتجول طوال الليل هنا وهناك إلى أن اختفى، وعُثر على حماره مشوها بعد بضعة أيام ثم على سرته وبها علامات تدل على طعنات خنجر، ولم يُعثر على جثمانه أبدًا.. وهنا يذكر تعقيب الإنكليزي لين بول بما رُوي عن فرعون: “ورفض الناس تصديق خبر موته، وانتظروا عودته بقلق”.
ولا يخلو التاريخ العثماني الطويل مما لذ وطاب من أصناف هؤلاء، كأي تاريخ آخر ليس أكثر من مسرح للشخصيات والأحداث من مختلف الألوان والأصناف، قد تخرج في أحيان كثيرة عن حدود الفهم والإدراك.

السلطان «إبراهيم الأول»

هذا هو السلطان العثماني “إبراهيم الأول” (حكم 1640-1648م)، ومع غرابة أطواره حتى نعته التاريخ بـ” المجنون”، لم تكن مشكلته تكمن فقط في أفعاله التي تبدو لأي جاهل بسيط شديدة الحماقة والسخف، وككل مستبد تبدو له ولمن حوله وحيًا من السماء وفي أعلى درجات العبقرية والذكاء؛ لكن الأهم هو أنه جاء بعد سلطان من طراز رفيع، هو مراد الرابع (حكم 1632-1640م)، الذي أعاد ميزان الدولة إلى نصابه وملأ خزائنها وقمع اضطراباتها وأحكم حدودها، حتى بدت وكأنها تستعيد عصرها الذهبي، ليصير التباين بينهما صارخًا.
لقد حكم إبراهيم دولة كانت في منتصف القرن السابع عشر تحتل مساحة شاسعة هي الأكبر والأهم في قارات العالم القديم، ورغم كل المشاكل الداخلية التي كانت تعاني منها وقتذاك إلا أن أحدا من الأعداء لم يفكر في استغلال تلك الظروف، بسبب الهيبة التي كانت لاتزال تتمتع بها.
في ظل كل هذا لم يكن يشغل إبراهيم سوى محظيات الحريم وإطلاق العنان لنزواته الغريبة، حتى أن إبراهيم نفسه قد استشعر على ما يبدو في لحظة ما أن حماقته قد فاقت كل حد، فسأل ذات مرة وزيره الأعظم سلطان زاده: “كيف في إمكانك الإطراء على كل ما أفعل؟”، فكان الجواب الوقح: “أنت الخليفة، أنت ظل الله على الأرض، كل فعلك وحي من السماء. أوامرك، حتى ولو بدت غير معقولة، تكون لها معقولية فطرية يُوَقِّرُها عبدك، رغم أنه قد لا يفهمها دائمًا.” وككل مستبد زين له ذلك سوء عمله، فتمادى في غيه. حتى اعترضت السلطانة الوالدة على عبث سلوكه، ولكن دون جدوى.

الحاكم بأمر الله

ومثله مثل الحاكم بأمر الله، كان لشهواته ونزواته أن تطال الشأن العام، فوصل هوسه بالعطور خاصة العنبر حداً غير معقول، وكذلك ولَعَه الزائد عن الحد بالفراء من الأنواع الأكثر نُدْرَة وكُلْفَة، ليس للارتداء فقط، وإنما لكسوة كل شيء من حوله، حتى وصل به الأمر إلى فرض ضريبتين أسماهما العنبر والفراء.
وكان يأمر في الديوان بإرسال رسائل إلى جميع الولاة، يطلب فيها جمع فِرَاء السَّمور وإرساله إلى اسطنبول.
وفي نزوات أخرى ترى كذلك سمات من الحاكم “الفاطمي”، فها هي إحدى مفضلاته تشتكي ذات مرة من أن التسوق لا يروق لها نهارًا، ليصدر على الفور أمر السلطان أنه على كافة التجار والقائمين على المتاجر في العاصمة أن يظلوا فاتحين طوال الليل، وأن يوفروا ما يكفي من ضوء المشاعل لرؤية سلعهم بوضوح.
أما النهاية فلن تكون غريبة على أحد، فالتاريخ مليء بنهايات الاستبداد أكثر تنوعًا وأشد غرابة وتأثيرًا مما يمكن أن يتصور عقل أو تروي قصة أو يَعرض فيلم.. كما أنها أخذت ملامح من نهاية الحاكم “الفاطمي”، فها هي أمه “قوسم سلطان” تتآمر عليه كما تآمرت “ست الملك” على أخيها من قبل، لتنتهي حياته بالقتل كما انتهت حياة الحاكم. وكأن من يأتي منهم لا يعلم أن التاريخ لا يرحم وأنه مهما بلغ فلن يخرج عن إطار نواميسه القاهرة، ولو علم لراجع نفسه قبل أن تأخذه حمية اللحظة لتصير في النهاية قاتلة.
أما الدولة، فكيف بها لو لم يكن لها ذلك الرصيد الهائل من قوتها التاريخية؟!.. لتقوضت في لحظة أركانها بما كان يفعل سلطانها.. لكنها كانت في ظل كل هذا لاتزال تدخل الحروب الكبرى على الجبهات البعيدة، ما يدل دلالة قاطعة على أنها كانت في حالة قصور ذاتي يعتمد على قوة دفع هائلة من قرون خلت تركت بصمات لا يمكن محوها بسهولة من جغرافيا وتاريخ هذا العالم..
أما إذا كان مثل هذا في دولة خائرة، لروى التاريخ عواقب أعجب من حماقات الاستبداد ذاتها.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)