الأفول الإعلامي: لماذا تزايدت أزمات شبكة "بي بي سي" خلال السنوات الماضية؟

profile
  • clock 6 مايو 2023, 4:05:50 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في عام 2022، احتفلت شبكة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بمئوية تأسيسها؛ حيث كانت الشبكة البريطانية الأشهر حاضرةً في اللحظات التاريخية المفصلية في حياة البريطانيين والإذاعة الدولية على مدار هذه الأعوام؛ بدءاً ببث خطب تشرشل أثناء الحرب، وبث فعاليات تتويج الملكة إليزابيث، ومباريات كأس العالم عام 1966، وهبوط أول رجل على القمر، وسقوط حائط برلين؛ ووصولاً إلى تغطية كواليس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتحقيق السبق في كشف المستور عن استقالتَي “بوريس جونسون” و”ليز تراس”.

لكن يبدو أن التغيرات الراهنة قد وضعت الشبكة البريطانية الأشهر في مرمى الانتقادات، بل في مرحلة يُتوقَّع فيها مرور الشبكة بأزمة كبرى قد تنال من سمعتها بشكل جوهري؛ فبجانب بعض التراجع النسبي الذي شهدته الشبكة نتيجة الطفرة التكنولوجية النوعية؛ حيث لم تعد تحتكر تشكيل العقل الجمعي البريطاني، فإن مجموعة من الأزمات الآنية والمستمرة، قد أدت إلى اهتزاز ثقة قطاع كبير من المواطنين البريطانيين بها، بل امتد أثر هذه الأزمة إلى سمعة ومصداقية الشبكة على المستوى العالمي. وفي حقيقة الأمر، فإن إشكالية حياد الشبكة لا تمثل فقط ضرورةً بحكم عمل المؤسسات الإعلامية المهنية، بل إن لها امتدادات أخرى تتعلق بدافعي الضرائب البريطانيين بمختلف انتماءاتهم السياسية؛ حيث تُموِّل بي بي سي رسوم ترخيصها عن طريق مساهمة كل أسرة بريطانية بـ159 جنيهاً إسترلينياً (193 دولاراً) سنوياً، وهو ما يفرض عليها اتباع الحيادية قدر الإمكان في تناول قضايا الشأن البريطاني بالذات. وإذا كانت هناك مراجعات بشأن التوقف عن جمع هذه الضريبة في ظل عدم اعتماد البريطانيين على الشبكة، إلا أن قضية الحياد الإعلامي لاتزال تفرض نفسها بصورة ملحة.

مظاهر الأزمة

تتشابك مجموعة من الأزمات الحالية والسابقة لتفرز الوضع الحرج الذي تمر به شبكة “بي بي سي” في الوقت الراهن، وقد يكون أهمها:

1– استقالة رئيس الهيئة لشبهات تورط في تيسير قرض: تعتبر استقالة رئيس هيئة الإذاعة البريطانية “ريتشارد شارب”، يوم 28 أبريل 2023، العامل المحفز الأهم وراء فتح الملفات المغلقة لشبكة “بي بي سي”؛ فبعد نشر تقرير يشير إلى فشل رئيس الشبكة في الكشف عن طبيعة دوره في تسهيل قرض بنحو مليون دولار لرئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون؛ أعلن شارب فوراً استقالته من منصبه. وعلى الرغم من أن “شارب” قد زعم أن الخرق “غير مقصود وليس مادياً” ، فإنه أضاف أن الاستقالة تأتي لإعطاء الأولوية لمصالح هيئة الإذاعة البريطانية؛ وذلك بعدما سبق أن نفى التورط في الترتيب لهذا الأمر، أو وجود شبهة تضارب في المصالح< لأن مسألة القرض قد حدثت قبل تعيينه رئيساً للشبكة الإذاعية.

2– إشكالية الحياد والتعيينات: بجانب مشكلة استقالة رئيس الهيئة، تثار تساؤلات منذ فترة من حزب العمال المعارض بشأن مدى حياد واستقلالية الشبكة؛ فقد صرحت وزيرة ثقافة الظل لوسي باول بأن هيئة الإذاعة البريطانية تواجه “بعض التحديات المرتبطة بالصورة الذهنية”، كما أعلنت أن حزب العمال سيطلق لجنة مراجعة مستقلة للبحث في مستقبل الهيئة وحيادها. وبجانب ما لدى حزب العمال من مآخذ بشأن عملية تعيين الرئيس، فإن هناك شبهات أخرى حول تعيين عدد من أعضاء مجلس الإدارة الآخرين. ورغم أن الانتقادات تتركز الآن في قيادات حزب العمال على اعتباره حزب المعارضة، فإن لوسي باول نفسها لم تَنْفِ احتمالية قيام حزبها بتعيين بعض ذوي الميول اليسارية في مجلس الإدارة؛ وذلك رغم تأكيدها أن عملية التعيين ستتسم بأعلى درجات الحياد.

3– سياسة متشددة تجاه الآراء المعارضة داخل الشبكة: من ضمن الأحداث التي أثارت مسألة الحيادية، قيام الشبكة بوقف مذيع القناة ونجم كرة القدم الإنجليزي “جاري لينيكر” لانتقاده سياسة الهجرة الحكومية؛ حيث وصف الأخير القانون الجديد الذي يهدف إلى منع المهاجرين غير الشرعيين من دخول البلاد على متن سفن صغيرة، وشعاره “أوقفوا القوارب”، بأنه عفا عليه الزمن، ضارباً المثل باللغة الألمانية في ثلاثينيات القرن الماضي، وهي المقارنة التي أثارت ردود فعل غاضبة من تيار اليمين البريطاني وعدد من المشرعين المنتمين لحزب المحافظين الحاكم، إلا أن رفض المذيعين زملاء “لينيكر” الظهور بدونه قد أرغم إدارة القناة على إعادته، مع إعلانها عبر منصات التواصل الاجتماعي أنها ستحرص على وضع قواعد بشأن ما يجب على مذيعها أن يقولوه في البرامج الإذاعية.

4– تطلعات غير واقعية للرقمنة: وفقاً لتقرير صادر عن لجنة الحسابات العامة في مجلس العموم البريطاني فإن هيئة الإذاعة البريطانية لديها تطلعات “متفائلة” بشأن الانتقال بالكامل إلى مستقبل رقمي، في حين يشير الواقع العملي إلى وجود بعض التحديات أمام تحقيق هذا الهدف.

وتجدر الإشارة إلى أن الهيئة تفتقر حالياً إلى خطة متكاملة لتقديم كافة خدماتها رقمياً خلال المدى الزمني الذي تتصوره (من عامين إلى 3 أعوام)، كما تواجهها مجموعة من التحديات الأخرى لتحقيق أهدافها، وقد يكون أبرزها غياب التنسيق الكافي مع الحكومة وأصحاب المصلحة الآخرين، وبعض المشكلات مع رعاة الشبكة ومراكز النشر والتوزيع التي تعتمد على المحتوى الملموس، فضلاً عن التحديات ذات الصلة بتعيين الموظفين المهرة في هذا المجال، والقدرة على الاحتفاظ بهم بالشكل الذي يُمكِّن الشبكة من الاحتفاظ بتنافسيتها الرقمية على المستوى العالمي؛ علماً بأن الشبكة لديها معدل تدوير عمالة في قسمها الرقمي مرتفع نسبياً يبلغ 23%.

أما من ناحية التكاليف، ونتيجةً لتغييرات رسوم الترخيص والتضخم ، فإن بي بي سي تقدر الآن أنه سيكون لديها فجوة تمويلية تقترب من 400 مليون جنيه إسترليني بحلول 2027–2028، وهو ما يفرض تساؤلات حول مدى كفاية الـ500 مليون جنيه إسترليني التي تنوي “بي بي سي” استثمارها سنوياً بحلول عام 2025 للتحول إلى الرقمنة بالكامل.

5– تفاقم الأزمة المالية للشبكة: خلال السنوات الأخيرة تفاقمت الأزمة المالية لشبكة “بي بي سي”، وقد تجلَّت مؤشرات هذه المعضلة في العام الماضي (2022)؛ حينما أعلنت الشبكة، في سبتمبر 2022، عن خطة لتقليص النفقات، والاستغناء عن 400 موظف وإغلاق إذاعتها بعدد من لغات العالم، منها إذاعة بي بي سي العربية الشهيرة. وجاءت هذه الإجراءات ضمن مساعي الشبكة لخفض ميزانيتها الإجمالية بمقدار 500 مليون جنيه إسترليني.

مستقبل معقد

في ظل هذه الأزمات، توجد مجموعة من الملامح قد تُشكِّل المستقبل القريب للشبكة؛ وذلك إذا ما استمرت هذه الأزمات في التفاقم، ولعل أهم هذه الملامح:

1– توقع باستبعاد تعيين الحكومة للرئيس القادم للشبكة: تُقدِّر وسائل الإعلام البريطانية أنه لا يمكن الوثوق بالسياسيين لتعيين رئيس جديد لهيئة الإذاعة البريطانية؛ وذلك ليس بسبب مزاعم الفساد والمحسوبية فقط، بل لأنهم لا يعرفون كافة تفاصيل بي بي سي. وفي السياق ذاته، صرح داميان جرين القائم بأعمال رئيس لجنة الثقافة والإعلام والرياضة في مجلس العموم بأنه يجب على الحكومة أن تلعب دور الضامن فقط في تعيين رئيس جديد لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) دون الانخراط مباشرةً في عملية الاختيار، خاصةً أن حالة “شارب” الحالية تكشف عن عيوب انخراط الحكومة بشكل مباشر في اتخاذ مثل هذه القرارات.

2– تزايد الشكوك حول قدرة الشبكة على الاستمرار: من المتوقع أن تؤثر العوامل السالفة الذكر على قدرة الشبكة على الصمود أمام منافسيها المتراجعة أصلاً؛ فعلى صعيد الرياضة، لن تتمكن BBC من منافسة Sky أو BT أو Amazon Prime على الحقوق الرياضية، كما أن نقص التمويل قد أضعف بشدة من قدرة BBC على التنافس مع منصات الدراما الدولية، بعدما كانت الشبكة البريطانية هي الأشهر في العالم في هذا المجال؛ حيث اضطرت الأخيرة إلى الدخول في شراكات مع منصات مثل “نتفليكس” و”هولو” لإنتاج الأعمال الدرامية الناجحة، وهو الاتجاه المتوقع استمراره في المستقبل.

3– التخبط في تناول محتوى الدول الأخرى: إذا كانت تغطية الشبكة للقضايا الداخلية تتأثر بشكل أو بآخر بتوجهات الحزب الحاكم، فإن هذه التغطية كانت تتسم بقدر كبير من الاستمرارية حينما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية لبريطانيا، أو تناول الرؤية البريطانية تاريخ وواقع الدول الأخرى.

وفي ظل الأزمات الحالية، تزايدت التوقعات بوجود تخبط في طريقة تناول الشبكة لقضايا الدول الأخرى الأكثر استقراراً وثباتاً في السياسة البريطانية؛ وذلك استناداً إلى الفيلم الوثائقي الذي أذاعته الشبكة بشأن تورط رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” في مذابح ضد المسلمين عام 2002؛ حيث يُسلِّط الفيلم الوثائقي الضوء على تقرير لم يُنشَر من قبل، حصلت عليه هيئة الإذاعة البريطانية من وزارة الخارجية البريطانية، ويثير تساؤلات حول تصرفات مودي خلال أعمال الشغب الدينية التي اندلعت بعد اشتعال النار في قطار كان يقل حجاجاً هندوساً في عام 2002؛ ما أسفر عن اندلاع أعمال عنف أدت إلى مقتل ألف شخص معظمهم من المسلمين. وتتوقَّع وسائل إعلام بريطانية أن يطول هذا التخبُّط قضايا خارجية حيوية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، وعلاقة بريطانيا بحلفائها الأوروبيين.

4– التشكيك في الموضوعية الإعلامية للشبكة: لا يمكن إغفال أن المشكلات الداخلية المتفاقمة داخل شبكة بي بي سي، تقوض موضوعيتها الإعلامية؛ إذ يكفي استدعاء قضية استقالة رئيس هيئة الإذاعة البريطانية “ريتشارد شارب” للتدليل على ارتباط القائمين على الشبكة بمصالح السياسيين، ومن ثم إكساب الانتقادات الموجهة للشبكة المزيد من الزخم. وما يُعمِّق مشكلات الشبكة في هذا الصدد التقارير التي تحدثت خلال السنوات الماضية عن تراجع متابعة الشباب وصغار السن لمحتوى الشبكة، وقد حذر مكتب الاتصالات أوفكوم Ofcom)) في أكثر من مناسبة من أن الشبكة قد تفقد “جيلاً من المشاهدين” إذا لم تُحسِن تفاعلها مع جمهورها الأصغر سناً.

الخلاصة: تواجه شبكة بي بي سي حالياً مجموعة من الأزمات الآنية والمستمرة التي وضعتها في مرمى سهام نقد البريطانيين أنفسهم. وفي حين كان حزب المحافظين يرى أن الشبكة يمكن تطويعها لخدمة توجهاته، فإن السقطات المتتالية للشبكة – سواء كانت مدعومة من الحزب أم لا – قد أدت إلى تنصُّله من أي صلة قد تربطه بها. وفي حقيقة الأمر، فإن من المرجح أن تُضاف أزمات بي بي سي تلقائياً إلى سجل العوامل التي تؤثر على شعبية حزب المحافظين، بل ربما تنال من حظوظه في الانتخابات البرلمانية القادمة أكثر مما يظن البعض.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)