امير تاج السر يكتب: المحلية في الكتابة

profile
  • clock 3 سبتمبر 2023, 3:41:05 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في ندوة بالدمام بالمملكة العربية السعودية، وفي مواجهة جمهور كبير من القراء والكتاب والمهتمين عموما بالسرد، كان السؤال:
في كتابة البيئة المحلية لأي كاتب، هل من الضرورة إيراد أسماء صعبة وتفاصيل قد لا يستوعبها القارئ البعيد عن البيئة المعنية؟ والمحلية نفسها هل يمكن كسرها بشيء من التحرك إلى فضاءات أخرى، أثناء الكتابة؟
مؤكد أن كل بيئة في أي مكان في العالم قد تشتبك مع بيئات أخرى في بعض التفاصيل، لكن قطعا لها تفاصيلها ومفرداتها الخاصة، وحتى في الوطن الواحد تختلف التفاصيل من إقليم لآخر، أو من بقعة جغرافية لبقعة جغرافية أخرى. مثلا ملامح سكان الشمال عن الجنوب، وطريقتهم في الحديث، وقد اعتاد الناس أن يقولوا عند سماع أحد يتحدث مثلا: هذه لكنة البلد الفلاني والإقليم الفلاني، هكذا.
وفي بلد كبير ومترامي وشديد الخصوصية مثل السودان، لا بد من وجود تلك النكهات المميزة، بمعنى هناك أشجار تنمو في غرب البلاد ولا تنمو في الشمال والوسط مثل أشجار التبلدي، وأشجار الهشاب التي يستخرج منها الصمغ العربي، وتلك التي تهب ثوار القصيم ذات الطعم الغريب المميز. ولكن في المقابل نجد أشجار السدر والجميز في الشمال وربما في الوسط، وتفاصيل أخرى كثيرة مثل شكل البيوت وتقنية الزراعة والرعي وحتى شكل العواطف ونظريات الحب واقتران الرحل بالمرأة، والأغنيات المختلفة المعبرة عن البيئة. كذلك الوظائف المحتملة للرجال وتلك التي للنساء، وشيء آخر مهم وهو الأسماء وتلك ذات خصوصية كبيرة، وكثير من الأسماء لا تجدها خارج السودان وهي ليست نادرة عندنا كما قد يتصور البعض، إنما هي أسماؤنا المعروفة، نتداولها باستمرار. وكنت أثناء الدراسة في مصر، دائما ما أُسأل عن اسم والدي، ما معناه؟ وأضطر للخوض في تفسيرات وإيراد معان، ربما تكون حقيقية. وربما لا تكون، وكان عدد من أساتذتي ينطقون اسم أبي تيسير وهو لدينا اسم فتاة لكن هكذا يجري التعامل مع اسم غريب في مكان غريب.
وأذكر أننا كنا نصرف المنحة الشهرية من أحد البنوك، وكنا عددا كبيرا من الطلاب نلتم أمام البنك، وينتظر كل منا دوره، حتى يدخل البنك ويستلم منحته، وذلك حتى لا نعيق العمل بوجودنا كلنا في الداخل. كان معنا طالب اسمه أمبدة محمد، على اسم أحد قادة الثورة المهدية، كان ينادى في كل مرة نجيء فيها، ومن الموظف نفسه: أميرة محمد.
إذن أنا حين أكتب رواية سودانية فليس لدي ما أعرف منه سوى خبرتي عن بلدي وما عرفته من خيره وشره، خاصة أنني عشت في الشرق والغرب والوسط بحكم عمل والدي كموظف حكومي ينتقل من مكان لآخر ثم عملي شخصيا بعد ذلك في بيئات مختلفة في شرق السودان.
هنا لم أكتب مفردات خارجة هذا السياق المحلي، لم أجعل الشوارع سلسة ونظيفة في بلدة مثل طوكر أو البلدة البعيدة، كما سميتها في كتابي «سيرة الوجع»، اشتهرت بغبار الإيتبيت الأسطوري، الذي يهب في الصيف، عنيفا ومرعبا، ورياح الهبباي، التي تحمل المرض كما يقول المحليون.
ولم تكن الأسماء سوى تلك التي ناديتها هناك وتعاملت معها، مثل اسم إدريس الذي يحمله ثلث السكان تقريبا، واسم حامد وأوهاج وأوكير، المنتشرة أيضا، والأزياء بالطبع هي أزياء المنطقة، حيث سترد أوصاف الشخصيات في النصوص، بتلك الأزياء.
هذا النهج تجده عند من كتبوا عن بيئة شمال السودان مثل الطيب صالح وبيئة الغرب أمثال ابراهيم اسحق وبركة ساكن، وطبعا كتاب الوسط المنتشرون في العاصمة ويكتبونها في قصصهم. كذلك ألاحظ التنوع في المناخات والأسماء لدى الكتاب الأوروبيين، كل حسب بلده.
وشخصيا أحب قراءة هذه التنويعات من أجل المتعة والفائدة، ولا أميل إلى آراء بعض القراء الذين يرونها تعقيدا في النصوص.
وعندي اعتقاد راسخ بمسألة ارتباط الانسان ببيئته التي ولد فيها ونشأ فيها وأن اسمه جزء من هذا الارتباط، ولاحظت أيضا أن المهن المختلفة تشبه كثيرا الأشخاص الذين يمتهنونها، وأسماؤهم ملائمة لها.  لذلك لن تجد في نصوصي ما يمكن أن يشذ عن هذا الاعتقاد.
رجل الدين مثلا اسمه يشبه مهنته بمعنى أنك قد لا تحس بالطمأنينة لرجل دين اسمه سامر أو حمادة، بعكس من كان اسمه عبد الرحيم أو عبد الباسط، والأمثلة كثيرة بخصوص المهن الخشنة والناعمة. وحتى رؤساء الدول والسفراء وقادة العمل العام يحملون صفاتهم التي حين تكتب في النصوص تشبههم تماما، أو من المفترض أن تشبههم.
ولي قصة مرة  حين كنت بحاجة إلى جزار لذبح الأضحية، وعثرت على واحد اسمه حسام، وكان اسما بعيدا تماما عن أسماء الجزارين التي أعرفها، ترددت في استخدامه، ثم فعلت في النهاية لأنني لم أعثر على واحد غيره، وكان بالفعل مخيبا للظن، ذبح بتردد، وأحسست أن منظر الدم أخافه.
إذن السؤال الثاني تظل إجابته مشمولة هنا، أي استخدام البيئة كاملة ما دام النص يتحرك فيها، ولكن لا بأس من حركة الشخوص خارجا وداخلا إن استدعى الأمر، وأظنني  فعلت ذلك في بعض الأعمال  مثل رواية «» الصادرة منذ أعوام، حيث كتبت عن شارع العرب في وسط كوالا لمبور، وكان الأمر مهما في النص، الذي يدور كله تقريبا في بيئة شعبية بحتة.
أيضا استخدمت بلدة أوربية صغيرة، ببعض تفاصيلها في نص آخر محلي، وكان يحتاجها فعلا.
لنقرأ إذن ما يكتبه الناس عن بيئاتهم بخصوصيتها، ولنتأمل «تغريبة القافر» للعماني زهران القاسمي، التي حصلت على جائزة البوكر العربية هذا العام، إنها رواية أصلية، ذات بيئة جديدة، وكتبت بتفاصيل ينبغي أن تكتب بها.
 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)