بيير لوي ريمون يكتب: أزمة الشباب: رؤية محافظة بالمعنى الجذري

profile
  • clock 13 يوليو 2023, 6:23:49 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تتذكر قارئي العزيز أنني تناولت في مقال يحمل عنوان «مقتل الحرية» تأملات للمنفلوطي كان قد اختار نفسه شكل المقال لكتابتها، في كتاب «النظرات»، ثم جاءت أحداث فرنسا الراهنة وجاءت معها تعليقات، تعقيبات، خطب، ولكنها تصادفت أيضا مع قراءتي لمقال آخر للمنفلوطي صدر في «النظرات» بعنوان «من الشيوخ إلى الشباب». إنها رسالة ذم في قالب مدح، على عكس ما تنص عليه قواعد البلاغة. لقد حرر المنفلوطي رسالته إلى الشباب بعزيمة خلت من التشاؤم وإن باتت ملآى بالعتاب. نعم: «شبابكم أعظم قوة ونشاطا وأبعد همة وأقوى عزيمة من شيخوختنا» كتب المنفلوطي، في عبارات لا ولن تجافي المنطق. «ولكن الذي ننكره عليكم هو زرايتكم بنا واحتقاركم لنا، ورميكم إيانا بالجمود مرة والخرف أخرى».
هنا تبدأ الرحلة في البحث عن بيت الداء، فـ»احتقار» الشباب للشيوخ لا يرجع إلى كبرياء وخيلاء واعتداد بالنفس – مع أن هذه المصطلحات واردة في الرسالة أيضا، بقدر ما يكون الخطأ الجسيم الذي يعيبه الكاتب على الشباب أن يخيل إليهم: «أن هذه الألوان الجميلة التي تتلون بها حياتكم الحاضرة، إنما هي خاصة بكم ووقف عليكم، لم تمر بعصر غير عصركم، وأنكم أنتم اصحاب الفضل الأول في ابتكارها، ولو أنكم استطعتم أن تنتقلوا بأنظاركم من الحاضر إلى الماضي – وإن لم يكن ذلك من طبيعة الشباب، ولا من خصائصه – لعلمتم أن هذا العهد الذي يمر بكم اليوم، والذي تفاخروننا به قد مر مثله في زماننا».

من طاعة الوالدين والإحسان إليهم، ومن تقوية البيئة الأسرية، تنبثق أساليب اكتساب الحكمة، وهي جذور التقدم.. بهذا المعنى، لك أن تكون محافظا

خطأ الاعتداد بالنفس الرافضة للانخراط في صيرورة الأجيال، صيرورة يتناساها شبابنا في أكثر الترجيحات تفاؤلا، لكنها في أكثرها واقعا صيرورة يجهلونها. بيد أنها لو كتبت على مقلة العين لكانت عبرة لمن يعتبر: «كان لنا شباب مثل شبابكم، نتصور فيه كما تتصورون، ونفكر كما تفكرون» إلى أن جاءت الكلمة الفصل: «حتى انطوى ذلك العهد، وزالت معالمه، وهدأت على أثره تلك الثورة النفسية التي كانت تعترك بين جوانحنا، ودخلنا غمار الحياة الحقيقية، حياة الجد والعمل، والنظر والتأمل، والخبرة والتجربة، فاستطعنا أن نرجع إلى نفوسنا، ونثوب إلى رشدنا، وأن نهبط بهدوء وسكون إلى أعماق قلوبنا، ونستعرض تلك الآراء والأفكار والأحلام والآمال بإمعان وتدقيق، فاستطعنا أن نميز صالحها من فاسدها، وصادقها من كاذبها، ومعقولها من موهومها.» كم من مجوهرات ثمينة أوصلتنا إليها لغة المنفلوطي الراقية، لكن في الوقت ذاته وعمدا، البسيطة: ثمين أن يباشر الكاتب في هذا المقطع باستخدام عبارة «الثورة النفسية»، الثورة المعيارية التي تقيّم فورات الشباب ونزواتهم فتذكرنا بأن الفورات والنزوات لا تصنع مشروعا. وما «غمار الحياة الحقيقية» سوى الواقع، الواقع الذي تقاس على أساسه المشاريع المغروسة في «حياة الجد والعمل» (ولاحظ كيف لم يتبع صاحبنا «الجد» بـ»الهزل») و»ما النظر والتأمل والخبرة والتجربة «، وما «أن نقلب الأشياء على جميع وجوهها»، «وأن نرى وجوه الحسن فيها ووجوه القبح، ونوازن بين هذه وتلك» سوى «فضل للشباب ومزاجه وطبيعته وحدته، ولا علاقة للعلم والجهل والذكاء والغباوة والتقدم والتأخر بشيء من ذلك.». «الفضل للشباب ومزاجه وطبيعته وحدته»، خارج كل إطار زماني ومكاني بل فكري يقول كاتبنا.. لكن يبقى السؤال الموجه إلى شبابنا جيلا بعد جيل، والذي نطرحه على جيلنا، كما على الجيل الذي من قبلنا: هل يرتقي شباب أيامنا هذه إلى درجة الجد والعمل والنظر والتأمل والخبرة والتجربة نفسها لسابقيهم؟ إن لم يجب كاتبنا عن السؤال، يحدد في المقابل واحدة من أكبر نواقص الشباب: «العجز عن إحكام الصلة بين أدوار الزمن الثلاثة: ماضيه وحاضره ومستقبله»، أي الرؤية على المدى البعيد، بل الرؤية، مطلقاً. لأن من «أخص صفات» الشباب أيضا: «قصر النظر وسرعة الحكم.، وأي صدى اليوم لمثل هذا الكلام: «فهو (أي الشباب) لا يستطيع أن يتصور تصورا ثابتا متينا أن الماضي أساس الحاضر، ومنبع وجوده، لا يشرق إلا من مطلعه، ولا ينبت إلا في تربته».
يستصعب نقل هذه الرسالة اليوم. من ينقلها لن ينجو من نعت المحافظ، بل الرجعي، لكن هناك من يرى في المقابل أن أكثرهم محافظة في مجال التربية والتعليم أكثرهم تقدماً. والتقدم يمر عبر الموازنة حتى لا يسوء التمييز بين «المعقول والموهوم» من «تلك الآراء والأفكار والأحلام والآمال»، فيرتمي شبابنا في أحضان الثورة الخاطئة. هنا، التحذير واضح: «ليس أقرب إليه من أن يتصور أن في استطاعته أن يمحو بيده في لحظة واحدة وجه الكون بأرضه وسمائه، ثم يخلق خلقا جديدا على الصورة التي يريدها ويتصورها وأن في إمكانه أن يحيل التراب أمواها، والأمواه ترابا، ولا يزال يتخبط في أمثال هذه التصورات والأحلام التي لا فائدة فيها ولا نتيجة لها حتى تطلع عليه أول طليعة من طلائع الشيخوخة فتهدأ ثورته.»
«ثورته»… ثورة للمرة الثانية تعود الكلمة، مستعملة في رسالة أدبية تغلب معنى الغليان غير المنتظم على الجهد التنظيمي لمشروع اجتماعي وسياسي. لم يكن المنفلوطي عدوا للمشاريع، بل كان محافظا تقدميا في الآن معا، حين كان من دعاة المشروع الأبرز بغرس أولى مبادئ التعليم في منبت الأسرة: «واذكروا أن سيأتي إليكم ذلك اليوم الذي أتى علينا، وأنكم ستكرهون فيه أن يعاملكم أبناؤكم وأحفادكم بمثل ما تعاملوننا به اليوم، فنحن أباؤكم الذين ولدناكم، وأساتذتكم الذين ربيناكم، ومن أكبر العار عليكم وعلى تاريخكم أن تسبوا أساتذتكم وآباءكم، وأن ترموهم بالجهل والجمود، وما هم بجاهلين ولا جامدين، ولكنهم شيوخ عاجزون». من طاعة الوالدين والإحسان إليهم، ومن تقوية البيئة الأسرية، تنبثق أساليب اكتساب الحكمة، وهي جذور التقدم.. بهذا المعنى، لك أن تكون محافظا.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)