جلبير الاشقر يكتب: الثورة السودانية أمام منعطف جديد

profile
  • clock 5 أبريل 2023, 3:25:23 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

وصفنا مراراً على هذه الصفحات الحالة القائمة في السودان بأنها تتلخص بمواجهة بين كتلتين لا تستطيع أي منهما القضاء على الثانية بضربة قاضية، فتسعى كل منهما وراء شقّ صفوف الكتلة الأخرى طريقاً إلى الانتصار. وقد تجلّت هذه الحالة منذ أولى أشهر الثورة السودانية، بعدما حاولت الطغمة العسكرية امتصاص النقمة الشعبية من خلال الإطاحة بعمر البشير في الحادي عشر من أبريل/ نيسان 2019، معتقدةً أن الحراك الشعبي السوداني سوف يهلل لها مثلما هلل الحراك الشعبي المصري للعسكر عندما أطاحوا بحسني مبارك في الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011. وبعدما أدركت أن الحيلة لم تنطل على الحراك السوداني الذي شكّلت القوى الثورية الجذرية رأس حربته، وقد استمرّ يطالب بسلطة مدنية، قامت الطغمة العسكرية بمحاولة انقضاض على الحراك الشعبي لثنيه عن مواصلة النضال.
فكانت مجزة فضّ الاعتصام أمام مقرّ القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية يوم الثالث من يونيو/ حزيران 2019. بيد أن المحاولة باءت بالفشل، إذ برزت في صفوف القوات المسلحة بوادر تمرّد على قرارات القيادة، كما أن الحركة الشعبية تصدّت للهجمة القمعية بشلّ البلاد بواسطة الإضراب والعصيان المدني. فاضطرّ العسكر للتراجع والمساومة مع الأطراف التوفيقية الغالبة داخل «قوى إعلان الحرية والتغيير» وجاء الاتفاق الذي أبرِم خلال صيف 2019 تجسيداً لتلك المساومة. وقد أرادت الطغمة العسكرية من خلال هذه المساومة كسب الوقت تمهيداً لإعادة تمكينها من التحكم المطلق بإدارة شؤون البلاد.
بان منذ ذلك الحين أن مصير المواجهة بين الكتلتين الشعبية والعسكرية رهن بقدرة كل منهما على شق صفوف الأخرى: فبينما استمرّت الطغمة العسكرية بالمناورة من أجل زرع الشقاق في صفوف الحركة الشعبية وإضعافها بشتى الطرق، كان ينبغي أن تسعى أطراف الحركة الشعبية وراء تأليب قاعدة القوات المسلّحة ضد قيادتها العليا تطويراً للبوادر التي ظهرت خلال مجزرة القيادة العامة، لكنّها عجزت عن ذلك.
فعندما قرُب موعد تسليم رئاسة المجلس السيادي الناجم عن اتفاق صيف 2019 إلى القوى المدنية المشاركة في المساومة، رأت الطغمة العسكرية أن تُبطل اللعبة برمّتها بواسطة الانقلاب الذي نفّذته في الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2021. غير أنها فشلت في تحقيق غايتها إذ تجدّدت حالة انسداد الآفاق. فقد هبّ في وجه الانقلاب حراك شعبي فاق حجمه ما توقعه العسكر، وعجزوا مرة أخرى عن القضاء عليه بسفك الدماء وللسبب ذاته المتمثل بخشيتهم من أن يؤدي الأمر إلى تمرّد في صفوف القوات المسلحة. واضطرّوا مرة أخرى إلى السعي وراء مساومة مع الأطراف التوفيقية في الحركة الشعبية، وقد لعب دوراً رئيسياً في إنقاذهم من الورطة مبعوث الأمم المتحدة فولكر بيرتس متعاوناً مع أطراف دولية أخرى.

بات الأهم بالنسبة لمصير الحركة الثورية السودانية أن تعمل على صون المجال الديمقراطي والحريات السياسية التي حققتها الثورة السودانية والتي لم تستطع الطغمة العسكرية القضاء عليها حتى الآن

ومرة أخرى، نجحت المناورة في شقّ صفوف القوى الشعبية وتجديد المساومة بصورة الاتفاق السياسي الجديد المزمع توقيعه يوم الخميس. والحال أن المساومة الجديدة أضعف في الحقيقة من تلك التي جرى إبرامها في صيف 2019، ليس من حيث ما تنصّ عليه، وقد يبدو لوهلة أن الاتفاق السياسي قطع شوطاً في رسم حدود لسلطة العسكر بينما كان الاتفاق السابق مبهماً في هذا المجال، بل لأن المساومة الجديدة تتم على خلفية ميزان للقوى ضعفت فيه كفة المدنيين بعد أن تعمّق الشقاق في الحركة الشعبية، فأتت المساومة للعسكر بشروط أفضل مما كانوا يخشون أن تنجم عنه العملية الانتقالية التي أجهضوها بانقلاب خريف 2021.
والمحصّلة هي أن العسكر تمكّنوا مرة أخرى من شقّ صفوف الحركة الشعبية في حين تواصل عجز القوى الجذرية في هذه الأخيرة عن شقّ صفوف القوات المسلحة (المقصود هنا، بالطبع، هو شقّها بين القاعدة والقمة وليس بين قيادة القوات النظامية وقيادة قوات التدخل السريع، وهما سيان في وجه الحراك الشعبي). وإنها لنكسة للقوى الثورية السودانية لا بدّ من الإقرار بها بحيث يجري تعديل النهج الذي سارت عليه تلك القوى منذ الانقلاب. هذا لأن القوى الثورية السودانية، وعلى الأخص جسمها الرئيسي المتمثل بلجان المقاومة، باتت مهددة بأن تنضب قدرتها على التعبئة الجماهيرية بما يتيح للطغمة العسكرية فرصة للسعي من جديد وراء القضاء عليها بهجمة شاملة، بدل احتوائها بقمع محدود كما فعلت منذ الانقلاب.
لذا بات الأهم بالنسبة لمصير الحركة الثورية السودانية أن تعمل على صون المجال الديمقراطي والحريات السياسية التي حققتها الثورة السودانية والتي لم تستطع الطغمة العسكرية القضاء عليها حتى الآن. ذلك أن تلك المكاسب الديمقراطية تشكّل شرطاً لا بدّ منه كي تتمكن القوى الثورية من أن تستعدّ لخوض الجولة القادمة في صراعها ضد الطغمة العسكرية ومن آزرها، وهي جولة لا بدّ من أن تتركّز على الحالة المعيشية التي لم تنفك تتفاقم في ظل حكم العسكر، والتي سوف تواصل تفاقمها لا مُحال تحت وصاية المؤسسات المالية الدولية.
كما أنه لا بدّ للقوى الثورية السودانية من أن تستخلص العبرة الأساسية من تجربة الثورة السودانية حتى الآن، شأنها في ذلك شأن سائر التجارب الثورية في المنطقة العربية، ألا وهي أن شرطاً أساسياً لنجاح الثورات هو قدرتها على جذب قسم كبير من القوات المسلحة إلى التضامن معها، وهي قدرة لا تتحقق تلقائياً، بل تقتضي التمهيد لها.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)