د. سعيد الشهابي يكتب: الحج بين السردية التقليدية وأنماط الأداء

profile
  • clock 26 يونيو 2023, 5:39:20 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

مع توافد حجاج بيت الله الحرام على الديار المقدسة في مكة والمدينة يبرز الحج ليس كعبادة خاصة بالمسلمين فحسب، بل كظاهرة دينية تتجاوز المكان والزمان، وتفرض نفسها كأحد مقومات الهوية لأكثر من ربع سكان هذا الكوكب.
كما يبرز دورها في تأطير العلاقات بين الدول، وتوضيح مآلات السياسة الإقليمية، وما إذا كان الحج سيساهم، كما تأمل حكومة الاحتلال، في التقارب بين تل أبيب والرياض وإذا كان الحج بشكله المألوف مرتبطا بالإسلام، فإنه كممارسة دينية ليس محصورا بهم. فما أكثر الذين يفدون على فلسطين من المسيحيين لزيارة مكان ولادة المسيح عليه السلام في الناصرة أو مكان صلبه في منطقة الجُلجُثة (الجمجمة) وهو موقع مرتفع خارج مدينة القدس ويشرف عليها. وقد عرّف البابا بنيديكت السادس عشر الحج بأنه «الخروج من النفس والتوجه إلى الله». ويتوجه المسيحيون إلى الأرض المقدسة والأماكن التي تجسد فيها العشق الإلهي وصلب فيها المسيح ومكان عودته من الموت. كما يحجّون إلى روما التي استشهد فيها القديسان بيتر وبول. أما اليهود فلديهم ثلاثة أعياد تُعرف بأعياد الحج، ويجب على كل يهودى أن يحج ثلاث مرات فى العام، في عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال، ولذا؛ تسمى هذه الأعياد بأعياد الحج، كما فرضت التوراة على كل يهودى أن يحجّ إلى المعبد المقدس ثلاث مرات في السنة.
بل إن بعض الأديان غير السماوية يمارس الحج. فالهندوس لديهم أكبر تجمع بشري في العالم خلال ما يعتبرونه «حجّا» عند نهر الغانج المقدس في الهند، حيث يصل عددهم إلى 100 مليون. وعلى ضفاف النهر تتنافس طوائف الديانة الهندوسية المختلفة على الفوز بأتباع جدد. ويجتمع هناك أيضا الرهبان الهندوس وعبدة البراهما ومختلف الطوائف ومدراء المعابد والقديسون للترويج لتفسيراتهم الفريدة للتعاليم الهندوسية. والفائز هو من يتقن فن الترويج أكثر.
وفي الأسبوع الماضي توافد بضع مئات من «الحجاج» على أحجار «ستون هنج» جنوب غربي لندن، وهي مجموعة أحجار صخرية عملاقة تم ترتيبها على شكل دائري خارج العاصمة البريطانية، ويعتقد أن عمرها يتجاوز 10 آلاف سنة. حدث ذلك في الساعات الأولى من يوم الأربعاء 21 يونيو، وهو اليوم الأطول في العام. هؤلاء «الحجاج» يقدسون الشمس والظواهر الكونية ويعتبرون زيارة ذلك الأثر القديم تعبيرا عن انتمائهم الديني. كما يتوجهون إلى ذلك الموقع في 21 ديسمبر، وهو اليوم الأقصر في السنة. ويعتبر هذا «الحج» وثنيا بطقوس محددة تتسم بالتشتت الفكري الناجم عن غياب منظومة الألوهية لدى الأتباع.
وثمة اختلافات جوهرية بين أنماط الحج المذكورة، إذ يتميز حج المسلمين بأنه منظومة متينة محددة الأهداف وواضحة الشعائر ومرتبطة بحياة البشر. ولهذه المنظومة سمات عديدة: أولها أن الحج استجابة لدعوة تاريخية صدرت عن النبي محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام بأمر إلهي «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق». ثانيها: أنه منظومة متكاملة من العبادات والشعائر بأهداف مرتبطة ببقية جوانب الدين، تتكامل معها وتهدف لتفعيلها كبرنامج عملي يمارسه الحاج لينعكس على حياته عمليا بعد انتهاء أداء الفريضة.

هناك أكثر من 30 مليون حاج ومعتمر خلال العام، يمثلون ما يمكن تسميته قطاع «السياحة الدينية» بالإمكان زيادة أعدادهم بتطوير البنى التحتية. وهذا يتطلب توسيع قطاع الفنادق والطرق والمحلات التجارية والخدمية

ثالثها: أن هدف هذا الحج تأكيد الإيمان بالله وتنقية العقيدة من الشرك، ويتضح ذلك من خلال التلبية والمناسك الأخرى كالطواف والسعي ورمي الجمرات وتقديم الأضحية. رابعها: أنها تتجاوز اللون والعرق واللسان والثقافة وتتصل بالدين بما هو رسالة من الله هدفها الأساس تحرير الإنسان من كافة الأغلال المادية. خامسها: أنه أصبح تجليا واضحا لوحدة أمة المسلمين على اختلاف مذاهبها الفقهية وتعدد انتماءاتها العرقية، عندما تستجيب للنداء الإلهي بالحج الذي تذكر الآية الكريمة هدفه: «ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات». سادسها: أنه عبادة تهدف لتعميق دور الإنسان في الحياة وضمان تحرره من كافة صور الاستعباد والتبعية، من خلال تأصيل ارتباطه بالله وطاعته المطلقة للخالق. سابعها: أنه عبادة تغوص في أعماق التاريخ الإنساني لتصل إلى النبي إبراهيم، مرجع الديانات التوحيدية من خلال النهج «الحنيفي»: «وجّهت وجهي لله الذي خلق السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين».
لهذه الأسباب مجتمعة أصبح الحج يزداد أهمية بمرور الأعوام. ويعتبر الحج هذا العام عودة طبيعية لمرحلة ما قبل انتشار الوباء الذي ترك أثره على هذه الفريضة بشكل واضح. فقد بلغ عدد الحجاج قرابة الثلاثة ملايين في العام 2019، ولكنه توقف في العامين اللاحقين بسبب انتشار الوباء. فكان مشهد الكعبة الشريفة في موسم الحج في العامين 2020 و 2021 محزنا جدا، حيث بدا بيت الله خاليا من الحجاج إلا نزرا يسيرا منهم. وقد تقطعت السبل إلى البيت الحرام مرات عدة وأغلبها كان بسبب انتشار الأوبئة والحروب، وعانى الحجيج في فترات من عمر الإسلام من قطّاع الطرق وعدم الأمان والأمراض الآتية من مختلف الدول. لكن وباء «كوفيد ـ 19» كان الأشد تأثيرا في العصر الحديث. ولكن ما إن انتهى الوباء حتى توافد عشاق بيت الله الحرام من كل حدب وصوب، فبلغ عددهم العام الماضي مليونين ونصفا، وسيتكرر العدد هذا العام. ولكن باختفاء ذلك الوباء واجه الحجاج قفزة كبيرة في تكاليف أداء الفريضة، حتى أصبحت معوّقا للكثيرين. فبينما كانت تكلفة أدائها قبل الوباء لا تتجاوز 3000 دولار، تجاوزت هذا العام ضعفي ذلك وربما بلغت ثلاثة أضعاف في بعض البلدان. وقد ترى السلطات السعودية في ذلك إحدى وسائل تقليل الوافدين لأداء الفريضة وتسهيل تطبيق نظام الحصص المخصصة للدول، ولكن هناك الملايين من المسلمين الذين يتلهّفون للتوجه إلى الأراضي المقدسة نظرا لما في ذلك من رحلة روحية إلى الله وابتعاد عن مظاهر المادة والاستهلاك واللهو في عالم يزداد لهوا وعبثا.
ولعل من أهم تطورات الحج هذا العام حالة التقارب بين حكومتي المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، الكفيلة بتخفيف التوتر الذي طالما كانت له تبعات غير حميدة. وقد حدثت أزمات بسبب ذلك كانت دموية في بعض الحالات.
برغم هذه الحوادث التي وقع بعضها بشكل طبيعي وربما كان بالإمكان تلافي البعض الآخر، فقد بقي الحج جاذبا للمسلمين على نطاق واسع، وبشكل تدريجي تراجعت حالات التوتر التي طرأت على أجوائه طوال العقود الأربعة الماضية نتيجة تباين السياسات بين الدول الإسلامية الكبيرة، ومن بينها محاولات تنويع الفعاليات الفكرية والثقافية والسياسية خلال الموسم. وفي الفترة الأخيرة أصبحت الحكومة السعودية أكثر توجها نحو الديار المقدسة التي تُعتبر وجها آخر من مصادر تعدد الدخل. فهناك أكثر من 30 مليون حاج ومعتمر خلال العام، يمثلون ما يمكن تسميته قطاع «السياحة الدينية» بالإمكان زيادة أعدادهم بتطوير البنى التحتية في مكة والمدينة على وجه الخصوص. وهذا يتطلب توسيع قطاع الفنادق والطرق والمحلات التجارية والخدمية. وثمة مشاكل تعترض خطط التنمية هذه. فمن جهة هناك قلق من فقدان الهوية التاريخية للمدينتين التي تراجعت في العقود الأخيرة بعد بناء البروج السكنية والمجمعات التجارية. ومن جهة أخرى هناك القلق من تأثير ذلك على البيئة بسبب توسع شبكات النقل والسيارات والحافلات. وليس معلوما بعد مدى الأثر الإيجابي لبناء السكك الحديدية بين المدن الرئيسية، جدّة ومكة والمدينة، ودوره في تقليص انبعاث الغازات الملوّثة الناجمة عن تصاعد حركة المرور وبناء الشوارع وأجهزة التكييف. إنها تحديات تواجه خطط التوسعة في حقبة تشهد إقبالا متزايدا على الحج والعمرة. وكادت مسألة نقل الحجاج الفلسطينيين من الأراضي المحتلة هذا العام تحدث إرباكا في المنطقة، حيث كانت حكومة الاحتلال تأمل سماح السلطات السعودية لطائراتها بنقل الحجاج، ولكن الرياض رفضت ذلك بشكل واضح، الأمر الذي أشعر حكومة الاحتلال بخيبة الأمل. وهكذا يتضح أن الحج الإبراهيمي مشروع سماوي مقدس بأهداف روحية وحياتية، وأنه قادر على لم شمل الأمة وتقريبها فكرا وممارسة وسياسة.

كاتب بحريني

كلمات دليلية
التعليقات (0)