سامح المحاريق يكتب: العقلية الانقلابية في أوطان الغزو والغنائم

profile
  • clock 4 أغسطس 2023, 12:26:57 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في لحظات قليلة من التاريخ كانت الشعوب العربية تتمكن من قيادة المشهد، وتحاول بناء شكل من السلطة، وتتلقى في كل مرة، الفشل نفسه الذي يحبط التجربة ويعيدها إلى الفوضى، التي تجعلها ترتضي، وتبحث أحياناً، عن أي مخلص مؤقت، وبغض النظر عن المصائر التي سيحملها ذلك.
سنة بعد أخرى، وفي التوقيت نفسه، يوليو من كل عام، يثور الحديث عن تعريف حركة الضباط الأحرار في الجيش المصري سنة 1952، وهي التي لم يزعموا أنفسهم أنها ثورة في الأيام الأولى، وأتى بعض الانتهازيين ليمنحوهم هذا الوصف، على سبيل التزلف والتقرب، ويساهموا في إلغاء عقود من الحراك الوطني وتشويهه بالكامل.
على الجانب الآخر، يوصف الحدث بأنه انقلاب عسكري، ولكن ذلك وصف تعوزه الدقة، لأنه يظهره نشازاً داخل حركة التاريخ، مع أنه مجرد حلقة ضمن انقلابات أخرى كثيرة، والملك فاروق نفسه، كان نتاجاً لنظام عسكري أسسه جده الأكبر محمد علي، لينهي به عصراً من الانقلابات العسكرية، تقاسم فيه المماليك السلطة من غير تدخل يذكر من المصريين، وقبلهم، كان غزو يحل مكان آخر، وكل ما فعله المماليك هو ضرب فكرة الشرعية، التي كان الغزاة يحاولون التمسح بها على وهنها وهشاشتها، فالشرعية التي حملها المعز لدين الله الفاطمي وعند امتحانها الأول دفعته لأن يخرج سيفه وذهبه ويضعهما أمام المصريين ليختاروا بينهما. من الأوصاف التي أنتجها الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، وهو أحد الذين روجوا لمقولة الثورة وساهموا في تشويه التاريخ لمصلحة الضباط الأحرار، هو السلطة الملقاة على قارعة الطريق، نتيجة وصول عصر أسرة محمد علي إلى نهايته عملياً، وفقدانه لشرعيته وقدرته على الاستجابة للتحديات المختلفة، والوصف في حد ذاته غير دقيق، لأنه كان سيؤجل لحظة صعود الجيش إلى السلطة التي كان يمتلكها عملياً منذ الإصلاحات التي عمل عليها سعيد باشا في حياته القصيرة بعد هزيمة مشروع محمد علي التوسعي. الخديوي سعيد قدم للمصريين الفرصة ليمتلكوا أراضيهم سنة 1858  للمرة الأولى من آلاف السنين، وأصدر قوانين العمل، التي شكلت فعلاً حداثياً قياساً بالسخرة المطبقة سابقاً، وبذلك تمكن المصريون من بناء طبقة بورجوازية صغيرة ونخبة أخذت تتوسع مع الوقت، ووجدت هذه النخبة الفرصة للترقي في الجيش، بعد أن منح الخديوي المصريين الحق في الوصول إلى مناصب متقدمة في المؤسسة العسكرية، أسوة بالشركس والأتراك والألبان، وهذه النخبة كانت أساس توسع طبقة من الضباط في صفوف الجيش كانت تمثل مصالح البورجوازية الصغيرة التي أطلقها سعيد باشا. مثل غيره، ومثلما يحدث اليوم، لم تكن استثمارات الخديوي التي أدخلت مصر في المديونية المرهقة للمرة الأولى في التاريخ، متوجهة للإنتاج بمعناه الحقيقي، وهذه تركة قديمة لأن معظم أنظمة الحكم، ومعها الاستعمار، كانت تركز على خدمة مصالحها الريعية، من خلال التركيز على مشروعات تخدم الدخل السريع، فالنظام المملوكي كان تركيزه الأساسي على العوائد الجمركية من التجارة في الأراضي والموانئ التي تقع تحت سيطرته، ويفضل أن يحصل على أموال سريعة يعيد توزيعها على الجنود الذين يحددون مسارات السلطة، وهذه الطبقة تبقى بصورة غير واعية تعيش على فكرة الاسترضاء المتواصل للجندي أو الشخص الذي يمكنه أن يؤثر في الجنود، أي الضباط، فهي تعيش على وضع مرهق من السيولة.

المشكلة ليست في الانقلاب، بل في عدم قدرة الشعوب على الخروج من العقلية والعقيدة الانقلابية، بمعنى امتلاك الوعي والثقة من أجل بناء وجود مؤسسي يقوم على التعاون والمشاركة

البورجوازية التي تأسست في القرن التاسع عشر، وطبقة الأفندية التي أخذت تتوسع، مسؤولة بشكل أساسي عن الأوضاع الراهنة، من خلال تعميق القيم التي أنتجتها، والتخلي عن أي دور تنموي، وتعلقها بالسلطة للحصول على المزيد من المكتسبات التي تأتي من لعبة التقاسم التي يمكن أن تجري عند توزيع الغنائم بعد الحرب في سلوك عدواني لا يمكن أن يؤسس لدول حقيقية.
ربما حققت ثورة يوليو مكتسبات مهمة للمصريين، مثل العمل على بناء طبقة وسطى واسعة، والعمل على منحها ثقة معقولة قياساً بالأجيال السابقة، إلا أن ذلك لم يكن مقترناً بإحداث وعي حقيقي والخروج من العقلية العسكرية التعبوية التي تتطلب التضحيات المفتوحة، وتزايدت المشكلة مع عدم التوجه للفعل الإنتاجي، بحيث لم تعد المكتسبات/ الغنائم، كافية للجميع، لتصبح التضحية مجانية في النهاية، ويمكن لوسام أو كلمة تقدير من القائد أن تعوض الناس عن تضحياتهم، ولكن عادةً ما يكتشف الجنود البسطاء/المواطنون العاديون، وبعد أكثر المعارك نبلاً، أن تضحياتهم ذهبت لآخرين لتصعد بطبقات جديدة من أثرياء الحرب وتجار الخراب لتتنعم بحياة أفضل في منتجعاتها وشواطئها وتترك المقاتلين القدامى يتأملون تضحياتهم المجانية. المشكلة ليست في الانقلاب لأنه مجرد حدث، المشكلة في عدم قدرة الشعوب على الخروج من العقلية والعقيدة الانقلابية، بمعنى امتلاك الوعي والثقة من أجل بناء وجود مؤسسي يقوم على التعاون والمشاركة وليس التزاحم على الفتات الذي يتبقى من تقاسم الكعكة الكبيرة، والخروج من العقلية الانقلابية هو الجوهري، لأن الانقلاب ليس عسكرياً بالضرورة، فهذه العقيدة الغزوية ـ الغنائمية أبعد كثيراً من فكرة الجيش ويمكن أن تعبر عن نفسها في صورة حزب أو فئة من المجتمع.
كاتب أردني

كلمات دليلية
التعليقات (0)